خاص بآفاق البيئة والتنمية
لماذا نمشي والجِراح تُثخن فينا والحزن يلّفنا؟ أتستحق منا الأرض كل هذه التضحيات، الأرض التي مرت عليها كثير من الحضارات وكانت مسرحاً للمعارك وقدمت ألوف الشهداء، وما تزال تقدم حتى أصبحت تخزّن ذراتها كرات الدم البيضاء والحمراء لتزهر في الربيع القادم "شقائق نعمان" بلون الدم الفلسطيني المهدور، بينما العالم يتفرج صامتاً ولا نرى نهاية لهذه الحرب اللعينة.
تتواصل مساراتنا رغم المعاناة والإغلاق والحصار، فالمسارات ليست متعة ورياضة محببة، لكنها وسيلة من وسائل النضال والتشبث بالأرض، فــ "وطآت أقدامنا" عليها هي صكوك الملكية، رُغماً عن قطعان المستوطنين وزعماء الحكومة المتطرفة.
كانت الساعة الخامسة والنصف صباحاً عندما تحرك عشرون مشّاءً من فريقنا "امشِ وتعرف على بلدك" من وسط المنارة في رام الله، متجهين إلى الجنوب وتحديداً محافظة أريحا.
ونظراً لإغلاق "حاجز جبع" القريب من مطار قلنديا، اضطررنا للتوجه شمالاً باتجاه "عيون الحرامية" بعد أن مررنا بمخيم الجلزون وبلدات دورا القرع وعين سينا، حتى وصلنا عند الإشارة الضوئية قرب "عيون الحرامية" ومنها انعطفنا يميناً، وسرنا في الشارع رقم (60) باتجاه الطريق المؤدي للخان الأحمر، بعد أن مررنا في بلدة حزما القريبة من القدس، ومن ثم مشينا في الطريق المعروف باسم "أبو جورج"، وهي بداية الخط الواصل بين عناتا والخان الأحمر، التي تلتقي بطريق الأغوار التاريخية المسماة خط 90.
أما سر تسمية الطريق بـ "أبي جورج"، فذلك يعود إلى ثورة عام 1936 ضد الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية في فلسطين.
الشهيد جون جلال أو "أبو جورج" هو فلسطيني من يافا، كان يعمل سائقاً لدى الجيش البريطاني، وكُلّف آنذاك بنقل الجنود البريطانيين من معسكر بير نبالا في رام الله باتجاه نابلس لقمع الثوار هناك.
وجاءت الأوامر حينها لأبي جورج بأن يسلك طريق الأغوار، حتى لا يقع الجنود الإنجليز في كمائن الثوار الفلسطينيين في منطقة "عيون الحرامية".
وصلت الشاحنة المحملّة بالجنود للوادي المنحدر باتجاه الخان الأحمر، وهناك قرر أبو جورج أن يمنع مذبحة الثوار في نابلس، بتنفيذ عملية فدائية، عندما حرفَ الشاحنة عن مسارها لتنقلب بمن فيها في الوادي، ما أسفر عن استشهاده وقتل العشرات من الجنود، لتُعرف هذه الطريق منذ ذلك الحين باسمه، طريق "أبو جورج".
يطلّعنا دليلنا وقائد فريقنا عبد الفتاح حجي على محطات مسارنا بقوله: "يبدأ المسار بالقرب من الخان الأحمر نزولًا باتجاه وادي السدر، ونستمر في السير في الوادي وصولاً إلى بير المُلقي، والدخول في "وادي المكلك" العلوي، حيث سنسير في بعض المقاطع على طرف الوادي، وهناك مقاطع تتطلب توخي الحذر والتركيز في المشي، إذ يستمر السير في الوادي، وستكون نهاية المسار عند الطريق الأسفلتي، بعد مقام النبي موسى.
على بُعد مئات الأمتار من مفترق الخان الأحمر، حطّت بنا الحافلة على جانب الطريق، شمس الصباح حينها بدأت ترسل خيوطها الذهبية على سهول وجبال وهضاب فلسطين، ثم بدأ سيرنا في وادٍ يُطلق عليه "وادي السدر"، لوجود مجموعات من أشجار السدر في الوادي، ومررنا قرب مضارب للبدو، أخذت كلابها تنبح علينا.
تابعنا السير فوق حصى الوادي البيضاء والملساء، واتجهنا شرقاً لأخذ استراحة قصيرة، ومررنا بإحدى أشجار السدر التي كانت جذورها ظاهرة للعيان، بسبب جرف مياه الوادي للتربة حولها، فبانت جذورها الملتوية وكأنها مجموعة من الأفاعي تتعانق أو تتصارع في مشهد في منتهى الجمال.
واصلنا السير حتى بلغنا بئر مياه يُطلق عليه "المُلقي"، والتقطنا صوراً للمكان بعد استراحة قصيرة في الكهوف أو المُغر القريبة منه، ثم مشينا، فيما أخذت الشمس ترسل حرارتها لتدب الدفء في أجسادنا، بعد الأجواء الباردة في رام الله بدأت التضاريس تختلف عندما وصلنا إلى بداية "وادي المكلك"، ويُعرف بالعبرية محمية "ناحال اوج"، وأما اسم "المكلك" أو المقلق، فقد جاء بسبب شعور الإنسان بالقلق، مما سيلاقيه في هذا الوادي الجميل.
كانت الصخور بيضاء وناعمة كالثلج، بسبب جريان المياه عليها عبر ملايين السنين، وفي الوادي شاهدنا صخورًا وجبالاً بُنيّة اللون تحتوي على كثير من المُغر والكهوف وأعشاش الطيور وخصوصاً الغربان، تسمع أصواتها وكأنها ترحب بك.
ولعل سر جمال هذه التضاريس أنه لم يطرأ عليها تدخل بشري، مما أضفى عليها هذه المساحة من الجمال، فالإنسان هو أكثر من يخرّب في البيئة والطبيعة، ويقضي على كثير من المساحات من أجل البناء العمراني أو لغايات أخرى.
وصلنا إلى منطقة مكشوفة وفيها مجموعة كهوف وعلى يسارها خيمة، كنا قد مررنا بها في مسارنا السابق.
وفي تلك اللحظات مرت بنا مجموعة صغيرة من المستوطنين، لم نعرها انتباهاً، وواصلنا السير بين جنبات الوادي الصخرية، هنا المسار أصبح صعباً ويحتاج منا الاستعانة بالمسّاكات المعدنية وبعض الفجوات في الصخر للصعود للمنطقة الأعلى، مشينا في سفح الجبل وأصبح الوادي على يميننا، ورأينا مشاهد رائعة حقاً، رغم كونها جرداء، على عكس مسارنا السابق في الأسبوع الفائت، والذي طغت عليه الخضرة والثمار والزيتون، فكل مسار يحمل نكهة وحلاوة تختلف عن الآخر، ودائماً في كل المسارات يرافقنا الشعور بالشغف والإثارة.
في استراحاتنا كنا نستمتع بالقهوة التي يعدّها صديقنا ورفيقنا في المسارات محمد أبو نوح، وهو من بلدة دير غسانة القريبة من رام الله، فحقيبته دائماً جاهزة، فيها غاز صغير، يُسعفنا به بتحضير بكرج القهوة ذات المذاق المختلف، وقد استمتعنا به حتى الرشفة الأخيرة.
ومما يميز نوح، بناء القناطر الحجرية في كل مسار يمر به، ليضع بصمته، وهذا يقتضي منه التركيز الشديد عند بنائها، ومعرفة مركز ثقل الحجر ليتم تراكبها وثباتها بهذه الصورة الجميلة.
نزلنا إلى قاع الوادي وسرنا في جنباته، ومن ثم صعدنا مرة أخرى، واستعنّا بـ"المسّاكات" للانتقال للمستوى الأعلى، ومررنا ببقايا دير بيزنطية أو ما يُعرف "دير ثيوكسيستوس" كما قال لي محمد سمامرة.
هذا الدير يحوي بئر مياه، وبالقرب منه آثار طابون متهدم، أخذنا استراحة الفطور واستمتعنا بالمشاهد أمامنا، ثم تابعنا المشي والتسلق، وبعدها غادرنا المكان، وتجولنا بين أخاديد الوادي، حيث صعدنا للأعلى باستخدام المقابض المعدنية، ثم سرنا فوق منحدر صخري، واُضطررنا للمشي فوقه زحفاً، وبعدها خرجنا لفضاء مفتوح بين جنبات الوادي، وكانت درجة الحرارة مرتفعة، شعرنا معها بالعطش الشديد، ثم وصلنا إلى كهفين كبيرين، يستخدمهما الرعاة لحفظ ماشيتهم.
وصلنا إلى جسر خرساني، وهو جزء من الشارع العام، حيث كانت تنتظرنا الحافلة، صعدنا الجبل مرة أخرى، متجهين للشارع العام، وإذ بيافطة كُتب عليها "رافقتكم السلامة".
وصلنا إلى الحافلة بعد أن قطعنا حوالي 12 كيلومتراً، وكانت الساعة حوالي الحادية عشرة صباحاً، ورغم طول المسافة إلا أننا لم نشعر بالتعب أو الإرهاق، لأن روح التعاون كانت تسود الفريق.
وفي العودة سلكنا الطريق ذاته، لكن دخلنا رام الله عبر طريق قلنديا، التي لم تكن مكتظة كما هو معتاد، ووصلنا إلى رام الله تمام الساعة الثانية عشرة والربع.
ولا يمكن لنا أن ننسى شكر دليلنا "أبو محمد"، لحسن اختياره للمسار، والشكر موصول لمُساعديه "مقدمة المسار" محمد سمامرة، و"مؤخرة المسار" ماهر ثلجي على المجهود الذي بذلاه ليتم المسار بيسر، ودون أي صعوبة تُذكر.