"بيير رابحي".. عصفور الشمس والطريق
خاص بآفاق البيئة والتنمية
في غزة فُقد الماء والغذاء والدواء، وفي الضفة الغربية يسير بنا الاحتلال ويقودنا إلى المصير نفسه، ونحن في وقتٍ نحتاج إلى أن نلتقي ونضع الخطط، لنطور أساليب الاعتماد على الذات، في الزراعة وفي إدارة المياه وفي تخزين الغذاء وتصنيعه منزليًا، وحتى في قضايا الصحة نحتاج لنطور أساليب الاعتماد على الذات. وحين نتفق جماعياً على ما ينقذنا ويساعدنا على مواجهة الخطر القائم وذلك القادم الأكبر منه، ويمضي كلٌ منا يقوم بدوره، يتحول كل واحدٍ إلى "كوليبري" الغابة، لكن بروح الجماعة، لا كما كائنات الغابة، التي وقفت تراقب بيتها ووطنها يحترق دون فعل شيء.
|
 |
الفلاحة الفلسطينية البيئية المكتفية ذاتيا وإنتاج الكثير المتنوع من المساحات الصغيرة |
كتبت لـ "خيمي ألبيرتو" رسالة إلكترونية، أطلب فيها أن يساعدني في التواصل مع "الأب الروحي للزراعة البيئية" في فرنسا وأوروبا، الفرنسي ذو الأصول الجزائرية "بيير رابحي"، لكي ألتقي به هناك في مكتبه أو مزرعته، في الجنوب الفرنسي في منطقة "أرديش"، حيث يعيش أيضاً "ألبيرتو"، وذلك قبل سفري المقرر إلى فرنسا، إلى ستراسبورغ في الشمال الفرنسي عام ٢٠١٢.
عاد لي برسالة بعد عدة أيام، يقول فيها: "نعم من الممكن لقاء "بيير رابحي" في تاريخ حدده، سيكون جاهزاً للقاء لمدة نصف ساعة، من التاسعة صباحاً وحتى التاسعة والنصف".
سافرت وأنهيت برنامجي في الشمال الفرنسي، وتوجهت بالقطار إلى باريس في رحلة دامت حوالي ست ساعات، ثم منها وبالحافلة إلى المكان المقرر، مستغرقاً السفر لهناك عدة ساعات أخرى.
وصلت الساعة العاشرة ليلاً، وكان "خيمي" في انتظاري في محطة الحافلات وانتقلنا لنبيت ليلتنا في أحد البيوت التي استضافتنا، على أن ننطلق في الصباح إلى منزل "بيير رابحي".
"خيمي ألبرتو-بيريز" يهودي الديانة، يساري الفكر، أرجنتيني المنشأ والأصل، جاء لفلسطين إلى دولة الاحتلال تحت تضليل الدعاية الصهيونية، معتقداً أنه سيشارك في إقامة العدل والسلام والديموقراطية ونشر القيم الإنسانية والرفاهية في هذه المنطقة.
لم تمضِ على قدومه سوى سنوات قليلة جداً، حتى شنت إسرائيل حربها عام 1967، لتكمل احتلال فلسطين ومعها سيناء والجولان وأجزاء قليلة من الأردن.

المزارع الصغيرة المنتجة لمعظم الغذاء الذي نستهلكه
يومها أدرك حجم الخديعة التي وقع في فخها، فغادر فلسطين وقرر بدء النضال ضد الدولة العنصرية، متوجهًا إلى فرنسا، حيث عاش هناك مناضلاً من أجل حرية فلسطين والفلسطينيين، حتى توفي بالسرطان، قبل حوالي عشر سنوات.
في الصباح، كانت السيدة السبعينية، صاحبة البيت، قد أعدت لنا فطوراً بسيطاً من الشاي والخبز والجبن الفرنسي ووضعت على الطاولة قارورة زيت الزيتون الفلسطيني، فهي أيضاً عضو في حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني، ولا تشتري إلا الزيت الفلسطيني.
كما تفصل النفايات في المنزل وتصنع منها السباخ/الكمبوست، باستخدام ديدان الأرض، وتستعمل السباخ في حديقتها، حدثتنا كيف أنهم في حركة التضامن الفرنسية لا يشترون "الأڤوكادو" القادم من "إسرائيل" ويشجعون المنتجات الفلسطينية.
بعد أن انتهينا من تناول الفطور، أخذتنا بسيارتها إلى بيت "بيير رابحي"، حيث مكتبه هناك أيضاً، في ذلك البيت الريفي المتواضع.
وصلنا، تعارفنا، وذكرت له أننا كنا قد التقينا لفترة قصيرة في فلسطين عام 1994. فبدأ يتحدث بنوع من العتاب، كيف أنه أراد للزراعة البيئية أن تدخل لفلسطين منذ ذاك الوقت، وعندما استقبل في مركزه، الزميل "عباس أبو بكر" ابن طولكرم، وكيف كانت الخطة بتحويل الزراعة في قرية "فلامية" جنوب مدينة طولكرم إلى زراعة بيئية، لكن يا للأسف لم تجرِ الأمور كما كان مخططاً لها حينها.
بعد وقت قصير من الحديث، طلب "بيير" من السكرتيرة إلغاء مواعيده لذلك اليوم، فامتد لقاؤنا إلى ما بعد الساعة الرابعة مساءً، كان الحديث عميقاً تناول الأبعاد الفلسفية، والاقتصادية والتحررية للزراعة البيئية.
أخبرته يومها أن هنالك صعوبة في نشر الزراعة البيئية عندنا مع قوة الدعاية للزراعة الكيميائية وعدم تقبل المزارعين وذوي الاختصاص، وكيف أشعر أني بتخصصي الزراعي وحيداً في هذا الطريق- طريق الزراعة البيئية -، فكان رده علي بقصة عصفور يسمى بالفرنسية "كوليبري"، أو هو "عصفور الشمس الفلسطيني"، تقول القصة إن حريقاً نشب في غابة، فهربت كل الحيوانات إلى جبل مقابل الحريق ووقفت تراقب غابتها وهي تحترق، وبينما هي واقفة هناك، من أسود وفهود وفيلة وحمير وبغال وثعالب، كان هناك في الجو يطير مسرعاً، ذهاباً وإياباً، عصفور صغير هو "الكوليبري"، يصل إلى أعلى الغابة التي تحترق ويعود.
وبينما يمر الطائر فوق الحيوانات التي تراقب مشهد الغابة المشتعلة، صاح به الأسد قائلاً: "يا هذا، ماذا تفعل، ولماذا تطير ذهاباً وإياباً؟" فقال له: "أنا أنقل الماء من النهر بمنقاري وأذهب لأطفئ النار المشتعلة في الغابة!".
ضحك الفيل وضرب البغل الأرضَ بحافره ونهق الحمار، وتعجّب الأسد وسأله مستنكراً ضاحكاً: "وهل تظن أيها الطائر أنك تستطيع إطفاء الحريق بنقل الماء من النهر بهذا المنقار الصغير؟" فضحكت الحيوانات وكل الحمير نهقت.
رد العصفور الصغير "كوليبري" على الأسد قائلاً: "أقوم بما أستطيع القيام به وهذه قدرتي، وهذا دوري وواجبي. دعني الآن من أسئلتك؛ فعندي أمر مهم أقوم به بقدر ما أستطيع فلا تُعقني عن أداء دوري، فالمساهمة في إطفاء الحريق هي الأهم"، ورفرف بجناحيه مسرعاً نحو النهر ليكمل عمله.
كانت هذه القصة كافية لفهم الدرس، الذي أراد "بيير رابحي" أن يعلمني إياه، أراد أن يقول لي إن على كل واحد منا أن يعي دوره، ليقوم به من أجل قضية كبرى، بحجم حريق غابة كبرى أمام أعين عصفور صغير، ويجب أن يكون الإيمان بالدور هو المحرك للعمل، مهما بدا الدور الذي يؤديه صغيرًا.
اليوم نحن أمام وضع أخطر من احتلال فلسطين عام 1948، وكل منا له دور في التصدي ومواجهة هذا الواقع الخطِر، ولكل واحد قدرات وإمكانيات يقدمها.

في الزراعة المعتمدة على الذات تلعب البذور البلدية الدور الأهم
الأفق السياسي يبدو قاتماً، والمجازر الجماعية مستمرة في شعبنا، وشبح التهجير قائم ولا رادَّ له. وإلى جانب ذلك، نحن مقبلون على عامٍ، المؤشرات تفيد أننا سنواجه فيه كارثة مائية ونعطش، وستعطش معنا الحقول والأراضي بمزروعاتها.. فماذا نحن فاعلون؟
كان "كوليبري" يعمل وحيداً بما يستطيع لإطفاء الحريق الكبير، وباقي الحيوانات بلا عمل. ولعل هذا العيب الوحيد في القصة، فنحن لا نريد واحداً بجهده الصغير أن يعمل بمفرده، ونقف كما وقف سكان الغابة نراقب طيران عصفور ونقل الماء بمنقار، إنما نريد أن نخطط معاً ونعمل معاً، وكل يعمل بطاقته بما هو كفؤٌ به وله، فالإنجازات الكبرى هي نتاج تراكم الأعمال الصغرى، فكل صغيرٍ يساهم بدوره لنصنع معاً الإنجاز الكبير.
مواجهة ما نحن فيه وما هو قادم هذا العام والصمود يحتاجان إلى كثير من العمل، وهذا الواقع يحتاج من كل واحد أن يضطلع بدوره.
موظف البلدية له دور كما رئيسها، ومعلم المدرسة ومعلمة الأطفال في روضة، العامل في ورشة بناء والحداد والنجار، المرشد الزراعي والمرشد النفسي وصاحب البقالة، الصحفي وكاتب مقال في جريدة يومية، والطبيب وخبير التغذية، ومدير مؤسسة وقبلهم فلاح يعمل في أرضه.
بعض هذا العمل كان ينبغي إنجازه بالأمس القريب، لنحقق القدرة على المواجهة والصمود، وأهمه توفير الماء والغذاء من أرضٍ معطاءة، واليوم نحن بحاجة لزراعة كل شبر، وفي هذا الموسم تُزرع كثير من النباتات بقليل من الماء، فما زالت الفرصة أمام كل من لديه شبر من أرض، ليزرع المحاصيل الصيفية، وليكن التركيز على المحاصيل القابلة للتخزين وذات القيمة الغذائية العالية والتي تحتاج زراعتها لقليل من الماء.
فالبندورة البلدية تُزرع بعلاً وتحتاج القليل من الماء، ويمكن تجفيفها وحفظها وعمل منتجات أخرى منها، والبامية مثل البندورة، واللوبيا، ومثلها الكوسا البلدي والفقوس يتطلبان قليلاً من الماء، وبتقنيات بسيطة يمكن تقليل الحاجة للماء في الري، وأهمها استخدام المهاد (الملش) النباتي وتغطية التربة بطبقة سميكة من القش والأعشاب الجافة، لتبقى التربة رطبة لأطول فترة ممكنة.
مصادرنا محدودة، تربتنا قد تكون ضعيفة، مياهنا قليلة، لكن بالإرادة والتخطيط السليم يمكن أن نُحدث فرقاً. فلو أخذنا قضية بسيطة لنرى الإمكانات الكامنة في مشاكل نواجهها، يمكننا عندئذ تحويلها إلى فرص تساعدنا على حل قضايا أخرى.
ولنأخذ النفايات مثالاً، تشكل النفايات واحدة من المشاكل الكبرى التي تواجهنا في المدن والقرى على حد سواء، فهي باتت تشكل مكاره صحية منتشرة على الطرقات، فما الذي يمكن لكل واحد أن يفعله حيال قضية كهذه؟ أكثر من نصف النفايات هي نفايات عضوية، يمكن أن تتحول بسهولة إلى مادة غنية لتخصيب التربة الفقيرة، بإجراء عملية التخمير وإنتاج مادة السِباخ/الكمبوست. هذه المادة التي تعد أساس تحسين خصوبة التربة ورفع إنتاجية المحاصيل.
بهذه العملية نكون قد حولّنا جزءاً من مشكلة النفايات إلى فرصة، وبواسطتها نساهم في حل فقر التربة وتدهور خصوبتها.
استخدام السِباخ/الكمبوست يساهم أيضاً في مواجهة مشكلة المياه، لأن زيادة استعماله في التربة، يزيد محتوى التربة من المادة العضوية، ما يجعل التربة قادرة على الاحتفاظ بمياه الأمطار لمدة أطول، ويساهم في تحسين ظروف الزراعة البعلية.
كل ما نحتاجه لهذا العمل هو فصل النفايات العضوية عن بقية النفايات في المنزل، مع بعض التدريب حول كيفية تحويل تلك النفايات إلى سِباخ، ولعل كل بيت في الريف، وكل بيت في المدينة حوله حديقة، يمكنه أن يقوم بذلك. الحديقة ذاتها هي عَالم لإنتاج الغذاء، وكذلك فيها الشفاء ومنها بعض الدواء، فالحديقة يمكن فيها زراعة نباتات طبية، تساعد على تحسين مناعة الجسم وكذلك الشفاء من بعض الأمراض.
في غزة فُقد الماء والغذاء والدواء، وفي الضفة الغربية يسير بنا الاحتلال ويقودنا إلى المصير نفسه، ونحن في وقتٍ نحتاج إلى أن نلتقي ونضع الخطط، لنطور أساليب الاعتماد على الذات، في الزراعة وفي إدارة المياه وفي تخزين الغذاء وتصنيعه منزلياً، وحتى في قضايا الصحة نحتاج لنطور أساليب الاعتماد على الذات.
وحين نتفق جماعياً على ما ينقذنا ويساعدنا على مواجهة الخطر القائم وذلك القادم الأكبر منه، ويمضي كلٌ منا يقوم بدوره، يتحول كل واحدٍ إلى "كوليبري" الغابة، لكن بروح الجماعة، لا كما كائنات الغابة، التي وقفت تراقب بيتها ووطنها يحترق دون فعل شيء.