خاص بآفاق البيئة والتنمية
العائدون من جنوب قطاع غزة لشماله يخبروننا عن "فرحة العمر" برجوعهم الذي طال انتظاره، هم الذين غنّت أرواحهم وحلّقت وضحكت في ذلك اليوم، وكأنه كان يوم ميلادهم الجماعي بعد المذابح البشرية الجماعية، لكنهم في المقابل، سيتنهدّون ألف مرة وهم يعبّرون عن صدمتهم مما رأوه، على صعيد الدمار الهائل والحياة الأكثر تعقيداً، حيث يدخلون في مرحلة حرجة من العذابات اليومية. فما يزال الغزيون مذهولين مما شاهدوه من أوضاع معيشية لم يتوقعوها البتّة في بيت لاهيا، فبعضهم لم يُخفِ ندمه على "تسرعه" بالرجوع إلى شمال القطاع بعد نزوح طويل في الحرب لعامٍ ونيف. الأحداث في قطاع غزة قد تتدحرج إلى ما هو أسوأ ربما في المنطقة؛ فليس لهم إلا الأمل بمضي المرحلة المقبلة بسلام.
|
 |
مخيم خاص بعائلة زاهر طنطيش في بيت لاهيا بدعم من المجلس النرويجي للاجئين |
سيخبرك العائدون من جنوب القطاع لشماله عن "فرحة العمر" برجوعهم الذي طال انتظاره، هم الذين غنّت أرواحهم وحلّقت وضحكت في ذلك اليوم، وكأنه كان يوم ميلادهم الجماعي بعد المذابح البشرية الجماعية، لكنهم في المقابل، سيتنهدّون ألف مرة وهم يعبّرون عن صدمتهم مما رأوه، على صعيد الدمار الهائل والحياة الأكثر تعقيداً، حيث يدخلون في مرحلة حرجة من العذابات اليومية.
زاهر طنطيش، مزارعٌ سبقَ أن أجرينا معه حوارًا بعد بضعة شهور من بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، باعتباره أنموذجاً إيجابياً حاول زراعة الأمل في محيط خيمته، هذه المرة، هنّأناه بالسلامة وسألناه عن الأحوال، وإذ برحلة عودته كانت محفوفة بما لا يسرّ.
فما يزال مذهولًا مما شهده من أوضاع معيشية لم يتوقعها البتّة في بيت لاهيا، وصراحةً، لم يُخفِ ندمه على "تسرعه"، حسب تعبيره، بالرجوع إلى شمال القطاع بعد نزوح طويل في الحرب لعامٍ ونيف، ووفق رأيه كان يجب عليه أن يأتي بمفرده أولاً، ليطلّع عن قرب على ما حلَّ ببلدته ويقرر الأنسب، قبل أن يصطحب عائلته ويحزم الأمتعة وينقل الخيمة.
 |
 |
الأشجار في بيت لاهيا أصبحت جافة يابسة- زاهر طنطيش |
المزارع زاهر طنطيش تملّكه الإحباط بعد رؤية بلدته مدمرة |
ابن البلدة لا يعرفها
يستهلّ زاهر حديثه مع مراسلة آفاق البيئة والتنمية بقوله: "منذ الليلة الأولى أدركت أن لا حياة على الإطلاق هنا، وكل شيء صار أكثر وضوحًا في صباح اليوم التالي، حين نهضت باكرًا وتجولّت في أنحاء المزرعة، كانت معالمها موجعة جداً، لا أبالغ، لن تستطيع كاميرات العالم أن تجسّد حجم النكبة التي طالت الحيّ والبلد بأسره".
كبقية النازحين المتعبين، انتظرَ بفارغ الصبر إعلان خبر "الوقف المؤقت لإطلاق النار"، الخبر الأسعد والأبهج، الذي بدا أنه سيمحو الهم والغمّ والحَزن.
بعد أربعة أيام من السماح بالعودة، توّجه طنطيش بسيارته، ترافقه زوجته المريضة ووالده وأحفاده، فيما عاد سائر أفراد الأسرة، مشيًا على الأقدام على طريق البحر أو ما يعرف بـ"شارع الرشيد"، وما أن وصل إلى وادي غزة، حتى بدأت ملامح طريق "صلاح الدين" بالانعطاف إلى طريق جانبي تظهر أكثر، حيث المغراقة.
وحسب وصفه، كانت مشاهد الدمار تترامى على الجانبين، ولم تكن هناك أي معالم لـ" المغراقة" التي يعرفها جيداً، وكذلك الحال في امتداد مدينة الزهراء التي اختفت تماماً، ولم يبقَ منها إلا الركام، "كانت الطريق ترابية غير معبّدة، وقد اكتظًت السيارات في انتظار دور طويل للخضوع للفحص" يقول.
 |
 |
بيت لاهيا منكوبة-زاهر طنطيش |
زاهر في رحلات النزوح المريرة |
اجتاز تلك المرحلة بسلام، ثم أخذت "أهوال الرعب"، والكلام له، تظهر جلياً ما أن دخل غزة، بدءًا بحي الزيتون، حيث تِرحاب الركام لا نهاية له، وكانت أول مفاجأة نفاد الوقود من سيارته، إلى أن أسعفه أحد النازحين المارّين بأنبوبة غاز، وبعدها استأنف المسير بصعوبة بالغة.
يواصل حديثه بصوت يتهدّج من التعب: "حلّ علينا الظلام عندما دخلنا جباليا، وكان الوضع أسوأ بكثير، ثم أخيراً وصلنا إلى بيت لاهيا، صراحةً، لم أتعرّف على البلدة، لا توجد أي معالم يمكن تحديدها على جانبي الطريق، أنا الذي أحفظها عن ظهر قلب، ولطالما جُبتها شمالاً وجنوبًا، وكنت من المشّائين الذين اشتهروا برياضة المشي، لكن المشهد كان - أقل ما يوصف- صادماً".
تابعَ طريقه إلى إحدى مزارع العائلة القريبة والمحاذية للمنطقة السكنية وقد سبقه إليها عدد من إخوته وأولاده، تحديداً في شمال البلدة والتي تُعرف باسم "الشيماء"، وهنا كانت الكارثة، تبعاً لقوله، مفسراً: "يا له من دمار شامل، الشارع الذي يراوح عرضه بين 15 و20 مترًا لم يعد يتسع سوى لمركبة".
ويزيد بالقول، آسفاً: "بِتنا تلك الليلة في أحد المباني الباقية على جانب المزرعة، والحمد لله كانت ليلة سيئة بامتياز، قضيتها ألوم نفسي على عجلتي في العودة".

ما فعلته الحرب بمَزارع بيت لاهيا- زاهر طنطيش
المزرعة أضحت "أشباح أشجار"
"لا أستوعب ما رأيته، أشعر بالحيرة والضياع"، يقول الرجل الذي سبق أن نجح في إلهاء نفسه، إبّان النزوح، ببعض الزراعات المنزلية لسد احتياجات أسرته من الخضار، وتمكّن حينها من تحقيق بعض الاكتفاء في مواجهة شحّ في المواد الغذائية وارتفاع أسعارها.
ويعترف أن لا رغبة لديه في مزاولة العمل الزراعي أو حتى في غرس أي نبتة، مع أنه أحضر نباتات عدة، زرعها سابقاً في مخيم النزوح في "أصداء"- مواصي خان يونس- من فلفل وباذنجان وبندورة ونعناع وميرمية وثوم وبصل.
أقاطعه بسؤل ليس استنكارياً "لماذا؟، ليجيب: "مضى أكثر من أسبوع على قدومنا ولا أستطيع غرس الأشتال مرة أخرى، حالتي النفسية سيئة جدًا، ووقع صدمتي كبير، حين رأيت جميع أشجار المزرعة جرداء كالحطب، أغصانها جافة يابسة، المكان خالٍ من أي نبتة خضراء، عدا الأعشاب الضارة التي نمت في العام والشهور الأربعة الماضية، متسلقة إلى السيقان".
واستناداً لكلامه، المشهد يبعث على الكآبة فوق التصور، مضيفًا: "صورنا وذكرياتنا وممتلكاتنا تبعثرت هنا وهناك في بيوتنا المدمرة، أصبحنا بلا شيء، ولا ينفك الأطفال والأبناء عن البحث في الركام عن الألعاب وبعض المقتنيات المنزلية، ومع أنها تلفت إلا أنهم يفرحون كلما تمكنوا من التقاط أغراضهم الشخصية".
طلبت منه أن يصف لنا مزرعته قبل الحرب، وفوراً انسابت كلماته من ابتسامة حسرة: "كانت جنةً خضراء، جنة ريحان، مساحتها 60 دونمًا زرعنا فيها كل أنواع الفواكه والحمضيات، فيها بئرين مياه وطاقة شمسية لتشغيل الآبار، وكان الهدوء يلّف المنطقة بوداعة، الآن لم يبق أي ملامح لحياة زراعية على الإطلاق، كل ما فيها دُمّر، وهذا سيستغرق الكثير من الوقت لإعادة إصلاحها وإعمارها، حتى بيوت عائلتنا كلها دُمرّت باستثناء اثنين".
ومن التحديات التي جابهتها عائلته بصبر، أنها فعلت المستحيل من أجل الحصول على الماء بواسطة الآبار الارتوازية التي تملكها في المزرعة، وقد طالت مدة بحثها عن مولدات وطاقة ووقود لتشغيل تلك المولدات التي تحتاج إلى صيانة.
وفي السياق نفسه يفيدنا: "بعد ستة أيام استطعنا بشقّ الأنفس أن نوفر ماتور لتشغيل بئر المياه، على أي حال، نحن محظوظين بوجود بئر قريب، فيما غيرنا يأتون إلينا بحثاً عن الماء، ونزودهم به قدر المستطاع".
ويحاول أن يتجاوز المصيبة بالقول: "أدعو الله أن يعجّل بوقف الحرب تمامًا، علّنا نعود لحياتنا، للأمان والطمأنينة، كما ينبغي للإنسان في أي مكان في العالم أن يعيش".
ومما يواسيه أنه استطاع التكيف مع عديد من المتغيرات القاسية وقت النزوح، تحديدًا مع وجه معين من تدبر الشؤون اليومية تلك الفترة كتدبّر المياه، متمنياً أن يكون لديه جَلد للتأقلم مجددًا مع الواقع المأساوي في الشمال.

زراعات منزلية في محيط خيمة زاهر طنطيش
"هنعمرّها" لكن كيف؟
أسأله عن أعمق ما سلبته الحرب منهم، يصمت صمت من لا طاقة له لتحمل المزيد، ثم يجيب: "فقدنا الأمل في الحياة أو أن يكون اليوم أفضل من الأمس. لا نعرف كيف سيكون شكل الحياة بعد لحظة، لذلك لم نعد قادرين على التخطيط حتى ليوم واحد، فَقدنا الشعور بالاستقرار، وما من ثقة بكل ما يقال في وسائل الإعلام، ليس بوسعي تجميل الواقع، نعيش جميعاً حالة حيرة وقلق وخوف مستمر من عدم استمرار الاتفاق مع الاحتلال".
وثمة ما يدعو طنطيش للقلق، ويكشف عنه بالقول: "حسبما رأيت من حجم للدمار يفوق الوصف، سيكون من الصعب إعادة البنية التحتية في فترة معقولة، فحجم الكارثة التي نعيشها أكبر من طاقتنا وإمكاناتنا، والمؤلم أن شعار "هنعمرّها" لن يكون بهذه البساطة التغنى به، وينطبق الأمر على تأهيل الأراضي الزراعية، كم يجب أن ننتظر حتى تطرح ثمارها من جديد، الشجرة تحتاج إلى خمس سنوات حتى تثمر وتدرّ إنتاجًا، وهذا سيستغرق جهدًا كبيراً أمام معطيات مجهولة، ودعوات مرعبة ومتواصلة لتهجيرنا".

الأعشاب الضارة غزت المزرعة-زاهر طنطيش
وينظر إلى ما يشبه "أشباح الأشجار" ثم يواصل كلامه: "صعبٌ علينا أن نبدأ حياتنا من الصفر، بل ما تحت الصفر، بَنينا حياتنا السابقة عبر أجيال متتابعة، من آبائنا وأجدادنا أولاً ثم استلمنا نحن الراية، وكذلك بدأ أبناؤنا في إكمال المسير والنهوض بغزة، لقد وصلت مدينتنا إلى مرحلة نُحسد عليها، وشهدت حركة بناءٍ نشطة سبقت الحرب، لا أود أن أكون متشائماً، لكن أرى أنه من الصعب أن تعود غزة في العهد القريب إلى ما كانت عليه، وسط هذه المماطلات من "إسرائيل" ونداءات ترامب لشراء غزة وجعلها ريفييرا".
حين تحدثنا مع زاهر كانت تلك الليلة الأولى التي ينصب فيها خيمته بعد مرور أسبوعين من الرجوع، وقال مبتسماً عن ساعاته الأولى فيها: "لم أستطع أن أنام"، ويخبرنا أنه أقام خيمته في أحد أجزاء المزرعة، حيث وجدها المكان الأنسب بعيدًا عن الدمار والركام والغبار، حتى لا يعيش كابوس الدمار، مشيراً إلى أن معظم من عادوا لجأوا لأطراف البلدة في خيام وأكشاك، وقد فضلّوا الابتعاد عن المنطقة السكانية المدمرة.

عائلة زاهر طنطيش أمام خيمتهم
موجز عن الحياة
تحذيرات طنطيش مما آل إليه حال البلدة ليست بجديدة، إذ تنبعث الروائح الكريهة من كل حدب وصوب، وتتدفق المجاري وتتناثر الحيوانات الميتة، مبيناً: "بيئة تفتقر إلى أدنى أساسيات النظافة وبات من الصعب العيش فيها، وبالمناسبة، أستغرب من الذين يقيمون خيمتهم بجوار بيتهم المدمر، دون أن يدركوا العواقب الصحية لمخلفات الحرب والأتربة".
ويؤكد أن همّ الناس الأكبر يتمثل حالياً في أزمة المياه الخانقة في كل أرجاء بيت لاهيا، لافتاً إلى أن البلدية تبذل قصارى جهدها لتشغيل بعض الآبار، إلا أن الأمور تجري بصعوبة بالغة، بسبب ما لحق بالخطوط والآبار من دمار هائل، ما أدى إلى عجز كبير.
ويمضي في حديثه: "ما زالت الطرق مغلقة، حاولت البلدية إزالة الركام من الشوارع، لكن يسير الأمر بوتيرة بطيئة بسبب تكدس الركام".
وفيما يتعلق بتوفر الغذاء والخدمات عمومًا، يوضح لنا: "الكل يعاني في مسألة البحث عن الطعام، وأقرب مكان للتسوق هو مدينة غزة، وفي المقابل حركة التنقل صعبة، جرّاء عدم توفر وسائل النقل باستثناء العربات التي تجرها السيارات القديمة على طرق مدمرة، ومع ذلك نشهد تحسناً في الأيام الأخيرة، إذ بدأت بعض المحال والبسطات في العودة لتوفير بعض السلع في البلدة، رغم الأسعار الباهظة".
ماذا عن توفر الخدمات الصحية؟.. عن هذا الجانب يقول: "من الصعب الوصول إلى الخدمات الصحية، تخيّلي أن بلدة كبيرة كان عدد سكانها يفوق 110 ألف نسمة لا يوجد فيها صيدلية واحدة".
ومن المواقف التي مرَّ بها في هذا الصدد: "والدي المسّن بحاجة لأدوات طبية، توجّهت لمستشفى كمال عدوان، فإذ به مغلق ولا يقدم أي خدمة طبية، ثم ذهبت لمستشفى العودة، وكما توّقعت لم أجد الأدوات المطلوبة، ثم حالفني الحظ أن وجدت آخر جرعة دوائية لدى قسم الاستقبال في المستشفى الأندونيسي، ما يدل على حجم الكارثة الصحية".
أخيراً، يتأمل زاهر السماء التي صارت بديلاً عن السقف، ويهاجمه حزن دفين، ما أن يتذكر كيف عاد إلى بيت لاهيا دون أمه المزارعة المعروفة "أم زاهر طنطيش" التي توفاها الله في النزوح.
ويختم حديثه قائلاً: "كنا نلقي عليها تحية الصباح "صباح الخير يا حجة"، فتردّ علينا ببركة دعائها التي تشفي العليل: "يصبّحك ويربّحك.. وعلى بلادك يرّوحك"، ها نحن عُدنا يا أمي، ولو تعلمين كيف هو حال شمال غزة".

عبد الله الهنداوي في طريق عودته إلى شمال غزة
هموم ما بعد الحرب
انتقلنا إلى الشاب عبد الله الهنداوي ليحكي لنا عما يمر به معظم الغزيين في الوقت الراهن، هو الذي عاد من دير البلح مع والده أخيراً إلى غزة، في حين تشتّتت العائلة، بعد سفر أمه مع أخته التي أصيبت في الحرب إصابة بالغة لتلقي العلاج في مصر، بينما فضّل اثنان من إخوته البقاء في الجنوب، إلى حين تحسن مقومات الحياة التي باتت شبه مستحيلة في شمال القطاع.
يقول الهنداوي: "لن أفلح لا أنا ولا أي أحدٍ كان، في وصف المشهد حين دخلنا إلى شمالنا الحبيب، كان مؤلماً صعبًا وقاسياً، هذه ليست غزتنا التي نعرفها، حجم الدمار في المباني والشوارع والبنية التحتية مهول، لم نستطع التعرف على معالم المدينة ولا حتى بيوتنا، الحياة معدومة بمعنى الكلمة".
ويُعد عبد الله محظوظًا، إذ حاولت أسرته قدر الإمكان ترميم بيتهم، وإصلاح ما تضرّر جراء القصف الذي طال حي الشيخ رضوان، حيث يقيم، ليسلم بأعجوبة من كبرى المشكلات وهي الإيواء.
ويؤيد رأي طنطيش فيما ذهب إليه، بخصوص مشكلة أساسية "توفير الماء" التي تشغل عامة الناس، موضحًا: "نواجه صعوبة في توفير المياه سواء للشرب أم للاستخدامات اليومية، بسبب انقطاع الكهرباء، وبطبيعة الحال، البلدية لا تستطيع ضخ المياه للمواطنين، لذا بات شمال القطاع يعتمد الآن اعتمادًا كليًا على حفر الآبار، وهذا أمر مكلف للغاية، ويحتاج إلى سولار وكهرباء ومُولدات "مواتير"، كي يتسنى رفع الماء من البئر إلى براميل المياه".
وعلى صعيد الطعام والشراب، فإن الأسعار ما زالت مرتفعة نسبيًا، حسب كلامه، كما لا تتوفر أصناف المواد الغذائية الأساسية، باستثناء الرَفاهية، فيما اللحوم والدواجن دخلت إلى القطاع أخيراً، لكن الأسعار أيضًا ليست في متناول اليد، وفق حديثه.
ويلفت إلى أن مواد النظافة ما زال السكان يفتقرون لها، والصرف صحي في حال يُرثى له، ما يؤدي إلى تفشي الأمراض، وينذر بعواقب صحية خطرة في مختلف الأنحاء، خاصة في الأحياء السكنية.
وفي معرض حديثه، يذكر الشاب أن الأدوية لا تتوفر إلا بعناء، فضلاً عن المرافق الصحية المدمرة، ما يصعّب على المرضى المتواجدين في الشمال الحصول على حقهم في العلاج.
وبدت على وجه عبد الله ملامح الإرهاق، وقد اجتمعت عليه كالبقية، مشكلة أخرى تتمثل في عدم توفر المواصلات، "هنا الجميع يسير على الأقدام، بسبب غلاء السولار، ولو توفرت وسيلة نقل فإن الأجرة مرتفعة، لذا يفضّل الأغلب المشي، وما نزال نعتمد على الحطب لطهي الطعام، صحيح أن عدداً من الشاحنات دخلت أخيراً إلى الشمال، لكن ما يصل من غاز الطهي لا يفي باحتياجات الناس".
وبعد حلقة النزوح المستمر التي عاشها في أرجاء جنوب القطاع، جرّاء دوامة الإخلاءات، يشعر عبد الله أن روحه وروح كل من يعرفهم منهكة، يقول: "صبرنا عامًا وثلاثة شهور على النزوح والقصف والتجويع والموت والدمار والإصابات، لا مفر من أن نعترف؛ الحرب أفقدتنا الشعور بالأمان، بل بقيمة الحياة، الجميع حزين، هناك من فقدَ بيته، وهناك من فقد أهله، أو أصدقاؤه، لا يوجد بيت في القطاع إلا وقد دُمّر، أو ألّمت به عذابات لا تُحتمل ولا يمكن أن يداويها أي دواء".
ويصمت صمت من ارتطمَ بقاع الزجاجة ويرجو الخروج من عنقها، ثم يعطي الخُلاصة: "حلّ بنا الكثير، والأحداث تتدحرج إلى ما هو أسوأ ربما في المنطقة، ليس لنا إلا أن نأمل بمضي المرحلة المقبلة بسلام".