حتى البحر الذي اعتقد الغزيون أنه مهما تغيّرت اليابسة وكل الأشياء حوله، يظل ثابتًا بجماله وحيوية مَرافقه، لم يعد كما يعرفونه، فهذا ميناء غزة البحري وجه المدينة الحَسن الذي حين تزوره، كنت ترى فيه تجسيدًا لمقولة "نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً" حوّله الاحتلال في حربه المسعورة لمشهد خراب مأساوي. تحت وطأة القصف وعمليات تدمير وإحراق قوارب الصيادين ومعداتهم، توقّف الصيد في بحر غزة، باستثناء بعض المحاولات التي قام بها صيادون بأقل الإمكانات وبمخاطرة كبيرة من أجل توفير الحد الأدنى من قوت يومهم. فما السبب الذي يدفع الفلسطيني لممارسة عمله في البحر رغم علمه أنها مغامرة قد تودي بحياته؟
آثار حرق القوارب الصغيرة على شاطئ ميناء غزة
حتى البحر الذي اعتقد الغزيون أنه مهما تغيّرت اليابسة وكل الأشياء حوله، يظل ثابتًا بجماله وحيوية مَرافقه، لم يعد كما يعرفونه، فهذا ميناء غزة البحري وجه المدينة الحَسن الذي حين تزوره، كنت ترى فيه تجسيدًا لمقولة "نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً" حوّله الاحتلال في حربه المسعورة لمشهد خراب مأساوي.
فالميناء كان يشد انتباه الزائرين ويبعث الراحة في قلوبهم بمجرد تأمل المراكب وهي تتراقص في حوضه ذات مساءٍ صيفي عليل، تنعكس فيه أضواء منارتها على المياه الزرقاء، وفي الخلفية أصوات الناس متمازجة، في تعبير حقيقي عن الحياة اليومية في غزة.
كان أيضاً بمثابة وطن صغير يحتضن مئات الصيادين وآمالهم، ومنهم محمود الهسي أحد الصيادين المعروفين في ميناء غزة، فهو يعمل بالمهنة منذ سنوات طويلة وراثةً عن أجداده، ولا يجد نفسه إلا في البحر كالسمك تمامًا، "لو طلعت من البحر بموت" يقول معبّرًا عن تعلّقه الشديد بالحياة البحرية.
في الزمن الذي سبق الحرب، كان الهسي يملك ثلاثة مراكب صيد كبيرة (شنشولا وجر قاعي) ترسو في ميناء غزة وتُبحر منه، تعتاش منها 65 أسرة غزّية، بواقع ( 8- 12 فردًا) لكل أسرة، ويعد الصيد مصدر الرزق الوحيد لهم.
يُخبرنا أنّه رفض النزوح من شمال القطاع إلى جنوبه على مدى أـكثر من 15 شهرًا، وكان قريبًا من الميناء يأتي إليها بمجازفة كبيرة بين فينة وأخرى مع مجموعة صيادين للاطمئنان على مراكبهم ومعداتهم.
ويشير إلى أن المراكب في الميناء بدأت في اليوم الرابع للحرب تصبح عرضة للقصف المكثف من زوارق الاحتلال، حيث تعمّد إحراقها ومن ثم إغراقها في المياه، مضيفًا أن "ما زاد الطين بِلة في ذلك الحين هو قصف الميناء بـأربعة صواريخ ما أدى لقسمه إلى نصفين، حينها صرنا نرى من بعيد احتراق مصدر رزقنا الوحيد دون أن نتمكن من فعل شيء".
كان يظن الهسي، أنه الأوفر حظًا بين زملائه، حيث بقي له مركبين كبيرين من المراكب القليلة السليمة في الميناء، يقول: "لكن بعد انتهاء الهدنة المؤقتة التي بدأت في نوفمبر 2023 وامتدت لأسبوع، قُصف الميناء مجددًا وأُغرق المركبان بعد إحراقهما".
وبحسب ما جاء في شهادته، فإن الاحتلال قصف الميناء بــ"الفسفور" في اليوم الـ 11 للحرب واليوم الـ 84.. لكن ما الذي جعلكم تتأكدون من نوع الصواريخ؟ (سألناه) ردَّ بالقول: "كان هناك 400 قارب صغير (حسكة موتور) ترسو على الشط، وثلاثة مراكب ضخمة ومعدات صيد متنوعة، رأينا النيران وهي تلتهم كل شيء، ثم لم نجد لكل هذا أي أثر سوى الحديد المصهور".
يقف الهسي مهمومًا على لسان الميناء، وهو يُحدثنا عن خسائره جراء الحرب: "كنت ريسّ وهذا البحر على اتساعه لي، الآن أعود إلى نقطة الصفر، لا أملك أي شيء، خسرت ما مقداره مليون و200 ألف دولار، فما الذي اقترفته؟ ومن سيعوضنا؟".
أسماك اصطادها صيادو غزة من مسافة قريبة على الساحل
التخريب الإسرائيلي للسفن الغزية
محاولات من أجل البقاء
تحت وطأة القصف وعمليات تدمير وإحراق قوارب الصيادين ومعدّاتهم، توقف الصيد في بحر غزة، باستثناء بعض المحاولات التي قام بها صيادون بأقل الإمكانات وبمخاطرة كبيرة من أجل توفير الحد الأدنى من قوت يومهم.
يحكي لنا محمود الهسي: "لم يتبقَ سوى نحو 10 قوارب صغيرة تُحرَّك يدويًا بواسطة المجداف، كان يتناوب عليها الصيادون الذين صمدوا في شمال غزة، وعددهم يتفاوت من 150 إلى 180".
كما صنعوا من أبواب الثلاجات "مجاديف صغيرة" يُبحرون بها في حوض الميناء، إضافة لصناعة أقفاص حديد يرمونها في البحر لاصطياد السمك، بدلًا من الشِباك الذي سيتمزق لو اصطدم بحطام القوارب الغارقة.
يحدث ذلك بينما يتربص الاحتلال بهم، ويستهدف أي "حسكة" تُبحر ولو على مسافات قريبة من الشاطئ، وقد اُستشهد إبّان الحرب 50 صيادًا وهم على متن قواربهم.
وعن السبب الذي يدفع الفلسطيني لممارسة عمله في البحر رغم علمه أنها مغامرة قد تودي بحياته، يؤكد الهسي أن الصيادين في غزة يعتمدون على الصيد مصدرًا رئيسًا للرزق، ولا يعرف غالبيتهم مهنة غيرها، ولا يستطيعون تلبية احتياجات عوائلهم إلا بواسطتها؛ "فماذا نفعل؟" يقول حائراً.
الصياد الغزي زكريا بكر خلال لقائه مع مراسلة آفاق البيئة والتنمية
النصب التذكاري لشهداء سفينة مافي مرمرة وقد دمره القصف الإسرائيلي
الدمار يُحيطك من كل جانب
تجولت مراسلة "آفاق البيئة والتنمية" في أرجاء ميناء غزة، رفقة زكريا بكر منسق لجان الصيادين الفلسطينيين، حيث كان يحلم الغزّيون أن تُصبح هذه البقعة البحرية يومًا ما، ممرًا تجاريًا مفتوحًا على العالم الخارجي.
"ابن البحر البار" الذي يقضي فيه ما يزيد على 16 ساعة يوميًا -كما أخبرنا في ثنايا حديثه- لا يتعامل مع الميناء وجهةً للعمل فحسب، لقد أصبحَ المكان الأقرب لقلبه، "بل إنه قطعة غالية من القلب"، وشاهد على كل تفاصيل حياته وتناقضاتها، كما يقول.
يصف بكر شعوره حين رآه بهذا الخراب بصوتٍ مثقل: "أشرح لكم وأعاين حالة الدمار، لكن في الحقيقة أنا ما زلت في صدمة ويعزّ عليّ ما حلّ به، أسأل نفسي غير مصدّق: "معقول المينا صار فيها هيك؟".
وعكست مظاهر الحرق والتدمير التي لا تخطئها العين، حجم الإجرام الإسرائيلي، فلم يسلم منها مراكب ولا طرق ولا منشآت ولا معدات للصيادين، كما الغرف أيضًا والمتنزهات العامة والبنايات المحيطة بها.
بدايات إنشاء الميناء في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، كانت متعثرة، حيث كانت ترسو المراكب عشوائيًا على جانبي الممر الذي أُنشئ بإمكانات بسيطة تحت مسمى "ميناء"، لكن أول منخفض جوي زار البلاد، دمر برياحه الشديدة وأمواجه العاتية كل ما أُنجز حينها.
كان زكريا بكر، في ذلك الحين صيادًا، ولاحظ حجم الإصرار الفلسطيني على المحاولة مرة أخرى، مستذكرًا كيف كان يعمل الاستشاريون والمهندسون والعمّال كخلية نحل لا تهدأ على مدار الساعة، لتتحقق أول عملية إرساء للسفن في ميناء غزة عام 2002.
تحت كل كوم فلين، حطام مركب غزي غارق
حوض ميناء غزة قبل الحرب
وتتحدث تقارير إعلامية، أن الميناء بمكانه الحالي أُقيم على أطراف "ميناء مايوماس" الرومانيّ، فوق بقايا لسان بحري أسسه الاحتلال في بداية السبعينيات، وبدأ مرسىً لمراكب الصيادين ثم توسّع تدريجًا وشهد عمليات تطوير وتشييد مستمرة، حتى بات مزارًا سياحيًا ووجه غزة الساحر.
وتزيد مساحة الميناء على 48 ألف متر مربع، وهو واحد من خمسة مرافئ في القطاع وأكبرها، ويعمل فيه نحو 1700 صياد، أي ما يزيد على ثلث صياديّ قطاع غزة الذين يبلغ عددهم قرابة الـ 5000، ويعيلون 50 ألف نسمة من السكان.
وإلى جانب الحوض الذي يبلغ حجمه أكثر من 220 دونمًا بعمق 5 أمتار ويستقبل قوارب الصيد، يضم ميناء غزة 5 مبانٍ للصيادين (كل مبنى يضم 24 غرفة)، علاوة على مقار مؤسسات مدنية، واستراحات وأماكن سياحية، كما يوجد كواسر أمواج على أطراف الألسن البحرية، يستخدمها هواة القفز والصيد.
تحدث بكر أيضًا عن رصف شوارع الميناء بعد أن كانت ترابية قديمًا، وتشييد "منارة الميناء" من مخلفات الحرب الإسرائيلية على غزة في صيف 2014، لتضيء الطريق أمام حركة الصيادين، إضافة إلى النصب التذكاري لشهداء سفينة "مافي مرمرة" التركية.
ويوجد على ساحل بحر قطاع غزة الذي يمتد على طول القطاع ولمسافة تزيد على 42 كيلومترًا، قرابة 96 مركبًا كبيرًا، منها أكثر من 80 مركبًا تعمل في ميناء غزة، كما يُوجد 1100 "قارب بموتور" أكثر من نصفها موجودة في الميناء، إلى جانب عدد من "حسكات المجداف".
عطفًا على ما سبق، يقول د. عبد الفتاح عبد ربه، أستاذ العلوم البيئية في الجامعة الإسلامية إن في ميناء غزة خمسة أصناف من القوارب، وتشمل القوارب الكبرى مثل "قوارب شباك الجر القاعي"، يصل طول القارب الواحد نحو 20 مترًا عددها 17 ولا تتواجد إلا في منطقة الميناء، وقوارب "الشنشولا"، وكذلك مراكب "الفلوكات" و"حسكات الموتور" و"حسكات المجداف".
غرف الصيادين التي دمرها القصف الإسرائيلي
غرف صيادي غزة المدمرة
لكنّ في زيارته الأخيرة للميناء بعد انتهاء الحرب، لم يجد إلا عددًا محدودًا من القوارب الصغيرة، وقدّر الصيادون تكلفة إصلاح الواحد منها بـ 6 آلاف دولار، علمًا أن المواد اللازمة لإعادة بناء هذه القوارب غير متوفرة من الأساس، مثل مادة "الفيبركلاس والخشب".
وما يثير قلقه، أن تدمير القوارب وإغراقها داخل البحر يعني أنها أصبحت جزءًا من ركامه، وهذا يُشكل تهديدًا خطيرًا على حياة ووجود السلاحف البحرية، التي تختنق مع وجود حطام المراكب وبقايا الشِباك.
أما عما كانت تزخر به الميناء من طيور بحرية، فهي كثيرة - حسب عبد ربه- أبرزها النوارس والخرشنة والطائر الحزين، وبعض طيور الرفراف، والطير العالمي المعروف بــ "غاق البحر" أو غراب البحر، فضلاً عن طيور أخرى أرضية تتواجد في حوض الميناء.
وينتج القطاع عمومًا ومدينة غزة على وجه الخصوص، أنواعاً عديدة من الأسماك، أبرزها: غضروفية بأحجام كبيرة جدًا ويراوح عددها بين 20 و 30 نوعًا منها (السلفوح، البس، العجل، البقرة، الرعّاد)، وأسماك عظمية منها (الأرنب، السردين، المليطا، اللوكس، الجرع، سلطان إبراهيم، الغزلان، البلميدا)، وأسماك لافقارية وتشمل (الجمبري والحبَّار والسلطعون وجراد البحر وبعض أنواع القواقع).
ويتفق عبد ربه وبكر، على وجهة نظر واحدة، بأن الميناء ساهم إلى حد كبير في حركة الملاحة البحرية، وحماية مراكب الصيادين، وتخفيف الأعباء عنهم وزيادة الإنتاج السمكي.
فاستنادًا للمعطيات التي أطلعتنا عليها نقابة الصيادين الفلسطينيين، يُقدر إجمالي ما كان يُنتج قبل الحرب من الأسماك بنحو 4 آلاف طن سنويًا، 60% منها يُصطاد من بحر مدينة غزة التي تُعرف بمدينة الصيد.
أمام هذه الأرقام لا يُمكننا إجراء أي مقارنة مع الوضع القائم حاليًا، فما يُنتج لا يتجاوز 1% وفي بعض الأحيان أقل من ذلك، فنحن تتحدث عن 30 حسكة يدوية ناجية فقط على مستوى القطاع، وهذا واقع مأساوي للغاية.
غلة صياد غزي من سمك القراص
ما تبقى من 3 مراكب كبيرة في ميناء غزة
حرب ممنهجة على قطاع الصيادين
يشن الاحتلال حربًا ممنهجة على قطاع الصيادين منذ سنوات، اشتدت فصولها بعد عام 2006، وتمثلت بالحصار البحري، الذي يجعل حرية الصيد والمساحة المسموح الإبحار فيها، متروكة للمزاج الإسرائيلي، وفق زكريا بكر.
فيما تتنوع الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة في حق الصيادين في قطاع غزة، بين عمليات اعتقال وقتل وتدمير للممتلكات، وتوثق "لجان الصيادين" 370 اعتداءً سنويًا، بمعدل اعتداء على الأقل يوميًا.
مَركب غزي كبير حطمه القصف الإسرائيلي، جزء منه عائم والآخر أسفل المياه
مسمكة من الشوادر أقامها صياد غزي خلال الحرب
وإضافة لما سبق، يشير إلى أن الاحتلال يمنع دخول معدات الصيد وعلى رأسها المحركات، ومواد صيانة السفن، ويحرم الميناء مما يلزمه من معدات ومواد لتطويره وتوسعته، وهذا لا يقل خطورة عن الاعتداءات المباشرة، حسبما يرى زكريا بكر.
ثم جاء العدوان الشامل، ليرى الاحتلال فيه "الفرصة الذهبية" التي يُمكنه بها تدمير القطاع السمكي ووقف إنتاجه كاملًا، باعتباره أحد أهم القطاعات الإنتاجية المهمة التي تُساهم في الأمن الاقتصادي والغذائي.
هذا، وتتفاوت إجمالي الخسائر المالية التي مَني بها قطاع الصيد في غزة جراء الحرب، من 80 إلى 100 مليون دولار، ويخسر القطاع الحيوي نحو 7 ملايين دولار شهريًا نتيجة توقفه عن العمل.
منارة ميناء غزة قبل الحرب- عبد الحكيم أبو رياش
ميناء غزة قبل الحرب- رويدا عامر (Vice)
ميناء غزة قبل الحرب
بوابة ميناء غزة بعد الحرب
قارب مجداف يبحر في ميناء غزة
ميناء غزة والطيور في حوضه قبل الحرب- رويدا عامر (Vice)