خاص بآفاق البيئة والتنمية
تشير التقديرات الاحصائية إلى عشرات ملايين أطنان الركام التي يجب التخلص منها قبل بدء إعادة الإعمار، وإلى أضرار بيئية تنجم عن عملية التخلص هذه، فضلاً عن تكلفتها البالغة قرابة المليار دولار. إنها مجرد تقديرات تكنوقراطية، تهمل ما أبدعه أهل القطاع في الحروب السابقة من إعادة تدوير واستخدام الركام، سواء الإسمنتي منه أو المعدني. إن تطوير عملية إعادة التدوير من شأنه أن يوفر إلى حد كبير في الكلفة اللازمة للتخلص من الركام، وفي تكلفة البناء. كما أن إمكانية رصف ميناء في كل مدينة مركزية في غزة من هذا الركام، سيخفّف إلى حد كبير من هذه التكلفة ويختصر المدة الزمنية اللازمة لإعادة الإعمار. إذن، لا بد من استنهاض من صمدوا وجاعوا وشُرّدوا، كي يسهموا في استعادة بيوتهم، ولا بد أيضًا من تحويل المخلفات إلى مادة للاستثمار والتدوير، وبالتالي نخدم البيئة ونسرّع عملية البناء ونقلّص التكلفة.
|
 |
عمال فلسطينيون في مصنع للطوب شرق مدينة غزة يصنعون الطوب الخرساني من أنقاض المباني المعاد تدويرها لاستخدامها في إعادة بناء المباني المدمرة من الغارات الجوية الإسرائيلية عام 2021- خاص |
أطلقت الولايات المتحدة الأميركية، التي تُعد الرابح الأكبر من الحرب العالمية الثانية، في إثر انتهاء هذه الحرب، وما أحدثته من دمار في أوروبا، خاصة فرنسا وألمانيا، عدا عن الدمار الذي حصل في اليابان، جراء إلقاء القنابل النووية على هيروشيما وناجازاكي، وما أصاب مدن الاتحاد السوفياتي من دمار، أطلقت مشروع مارشال باعتباره مبادرة اقتصادية تهدف إلى مساعدة الدول الأوروبية على إعادة إعمار ما دمرّته الحرب، وبناء اقتصادها من جديد.
ولأجل تنفيذ المشروع، شكلّت أوروبا الغربية منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي، ولم يكن مشروع مارشال سوى عملية لجم أميركية لإمكانات وقوع المجتمعات الأوروبية تحت سيطرة الأحزاب الشيوعية، مما يهدد المصالح الأميركية.
انضمّت دول أوروبية عدة إلى اتفاقية مشروع مارشال؛ مثل بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، والنرويج، وإيرلندا، وآيسلندا، والبرتغال، واليونان، وتركيا، وبلجيكا، وهولندا، وإيطاليا، وسويسرا، ولوكسمبورغ، والنمسا، والدنمارك، والسويد.
فيما رفض الاتحاد السوفييتيّ ودول أوروبا الشرقية التي بات يحكمها نظام اشتراكي، الانضمام إلى هذا المشروع، وقد ترافق ذلك مع تشكيل حلف شمال الأطلسي، كما أدى هذا المشروع الى ولادة ما عُرف بـ "معاهدة روما" التي ضمّت ست دول أوروبية، لتتأسس السوق الأوروبية المشتركة نواةً أولى للاتحاد الاوروبي القائم حاليًا. وبشكل عام، استقرت أوروبا الغربية تحت مظلة السياسات الأميركية، رغم بعض التفلتات التي حاول الجنرال ديغول القيام بها.
وبعد العدوان الثلاثيني على العراق عام 1991 وفرض الحصار عليه، حيث وُظّفت الأمم المتحدة في فرض العقوبات على العراق، لم يستطع هذا البلد ترميم الدمار الذي أحدثه العدوان، رغم موارده الهائلة، بسبب العقوبات والحصار، حتى أُجهزَ على النظام في الحرب الثانية عام 2003 التي خلّفت دمارًا هائلًا في البنية الاقتصادية للعراق، لتُعقد لاحقًا المؤتمرات الداعية إلى إعادة إعمار العراق، بعد رفع بعض العقوبات عنه وليس كلها.
هذا المشروع استفادت منه الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا، بحيث أوقعت العراق الغني في ديون هائلة، دون تحقيق تقدم حقيقي في إعادة البلد إلى ما كان عليه عام 1990.
وبعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية وتوقيع اتفاق الطائف، طُرح مشروع إعادة الإعمار الذي احتكره الحريري، لكنه لم يستطع أن يُخرج لبنان من مخلفات الحرب، فيما تعاظمت ثروة الحريري ومكانته السياسية في لبنان، ليُطرح مشروع إعادة إعمار لبنان مرة أخرى بعد حرب تموز عام 2006، لكن المشروع لم يستطع توفير الكهرباء للبلد ولا كثيرًا من مرافق البنية التحتية، بينما استطاع حزب الله إعادة بناء ما دمرّته الحرب من بيوت في الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية لبيروت، في فترة قصيرة، وبنجاعة عالية.
وفي الحرب الكونية على سوريا (2011-2024)، طُرحت قضية إعادة إعمار ما دمرّته الحرب من بنى تحتية ومرافق اقتصادية مختلفة، لكن قانون قيصر الأميركي أعاق كل عمليات إعادة الإعمار، مع عجز الحكومة عن تنفيذ هذه المهمة؛ لتصبح عملية إعادة الإعمار على أجندة السلطة الجديدة، ومرهونة بالدعم الخارجي المشروط سياسيًا، سواء أراد الحكم الجديد أم لم يرد.
إذن، مصطلح إعادة الإعمار المطروح للتداول في البلدان العربية، ليس مشروعًا إغاثيًا حَسن النية، بل هو مشروع يعيد صياغة التموضع السياسي للبلدان، وتجربة العراق هي الأنموذج، الذي خلق فسادًا مستشريًا في الحكم والاقتصاد، وزاد من معدلات الفقر بدلًا من أن استئصاله؛ فتحت ستار الديمقراطية وإعادة الإعمار، تفاقم الفساد وحُرِمت الشرائح الشعبية العراقية حتى يومنا هذا، من أبسط حقوق الإنسان الأساسية (المياه، الكهرباء، الصحة والتعليم)، علما أن العراق يعد من أغنى دول العالم نفطيا، ورغم ذلك، أصبح الفساد في العراق الأعلى عالميا (مئات مليارات الدولارات سرقها أعوان الاحتلال الأميركي).
بين إعادة الاعمار ومشروع ترمب لغزة
بغض النظر عن اللغط الذي يدور حول مدى واقعية وجدية مشروع ترمب العقاري المرتبط بتهجير أهالي قطاع غزة، إلا أن الخطورة الداهمة لأنماط التفكير حول إعادة إعمار القطاع، دون محاسبة من تسببوا في الدمار الشامل وأصبحوا موسومين "مجرمي حرب" حسب القوانين الدولية، باعتباره وسيلة للإخضاع وفرض الشروط السياسية على شعب يسعى لحريته من الاحتلال، قبل أن تكون شروطًا سياسية على نخب أو قوى سياسية؛ هذه الخطورة تكمن في تحويل عملية إعادة الإعمار إلى وسيلة لتفريغ المحتوى الوطني، وتحميل الشعب الفلسطيني كله ثمنًا سياسيًا لعملية إعادة الإعمار، بالتنازل عن حقوقه الوطنية، والقبول بما هو أدنى من تقرير المصير، لشعب عانى من عمليات السلب والاقتلاع والدمار والقتل والمصادرة، بحيث تصبح مسألة إعادة إنتاج الحياة هي الهم الأساسي للمواطن.
وهنا، فإن ما أطلقه ترمب حول التهجير وإعادة الإعمار السياحية، ليس سوى الحد الأقصى لمشروع يحاول أن يجعل من القطاع حالة مسكونة بالخوف من الحروب، وبناء وعي جديد يتصالح مع الركون إلى المصالح الفردية على حساب المصلحة الجمعية.

الدمار والخراب أصبح المشهد المهيمن على جميع زوايا ومناطق قطاع غزة- خاص
المبالغة في كلفة إعادة الإعمار ومدتها
المبالغات التي تطرحها مؤسسات غربية أو دولية حول كلفة إعادة الإعمار ومدتها اللازمة للعودة إلى الوضع الطبيعي، والخلاف حول الهيئات المسؤولة عن إعادة الإعمار، ما هي إلا جزء من عملية مرسومة تهدف إلى فصل البعد المجتمعي-الشعبي عن الأهداف الوطنية، وهو ما لم يتحقق تاريخيًا، رغم خروج قسم كبير من أبناء المخيمات من إطار المخيم والحراك الطبقي الذي نشأ عبر عقود التشريد، كل هذا لم يُثنِ الشعب عن المطالبة بحقوقه، وبالتالي فإن الجوهر هنا هو الحقوق الوطنية لا الوضع الاقتصادي.
ولنتذكر أن الاتحاد السوفياتي رفض الدخول في مشروع مارشال، حيث دُعِي للانضمام إليه، مفضلاً سياساته المعتمدة على الذات، وقد استطاع أن ينجز هذه المهام، دون الخضوع للشرط الأميركي.
وبطبيعة الحال، لا بد من قراءة الفرق ليس في الإرادة لإعادة البناء، ولكن في المقدرات التي تستطيع الاستغناء عن الدعم الخارجي، فالاتحاد السوفياتي كان كبيرًا بمقدّراته المادية والبشرية، فيما قطاع غزة محاصر ويخضع لشروط فاشية في تدبير حياته اليومية، ما يعني أنه لا بد من رؤية سياساتية فلسطينية تقّلص إلى أدنى حد الشروط غير الانسانية لإعادة الإعمار، عدا عن عدم التفريط بالحقوق الوطنية أو جوانب منها، لقاء ذلك.
ترمب أعلنها صراحة، أن من يتكفّل بإعادة إعمار القطاع ليست أميركا ولا من سبَّب كل الدمار، بمعنى دولة الاحتلال، ولا أوروبا، إنما من يتكّفل بذلك هي الدول العربية الغنية، وكأن مساهمتها ليست عن طيب خاطر، بل "رغم أنفها"، ستدفع هذا التعويض بدلاً من الاحتلال.
هل هناك دور للجماهير؟
في عملية إعادة الإعمار، هناك قوى بشرية تساهم فيها، وقطاع غزة له تجربته، ولديه الإمكانات البشرية سواء من الفنيين والتقنيين أم العمال.
كما أن الحاجة إلى توفير المساكن والبنى التحتية والمرافق العامة، يمكنها أن تدفع الناس إلى العمل بكل جد إذا توفرت الإمكانات المادية لذلك؛ وبالتالي هناك ضرورة لصياغة سياسات تشرك قطاعات المجتمع كافة في العملية، كما أن هناك ضرورة لتفادي الأخطاء السابقة في مجالات الإعمار، إضافة إلى قوة البطش الهائلة.
علماً أن إعادة الإعمار ليست مجرد عملية تقتصر على استعادة المباني أو ترميمها، بل هي أيضًا عملية تهدف إلى منع كثير من المظاهر السلبية على المستوى الاجتماعي والتي برزت في الحرب، ما يعني أن البناء المادي يقتضي تدعيمه بشبكة حماية اجتماعية قوية، وهو ما تغفله الإدارات المختلفة التي كانت تدير القطاع.
هل يمكن التخلص من المخلفات الناتجة عن الدمار؟
تشير التقديرات الإحصائية إلى نحو 50 مليون طن من الركام يجب التخلص منها قبل بدء إعادة الإعمار، وإلى أضرار بيئية تنجم عن عملية التخلص من الركام، فضلاً عن تكلفتها البالغة قرابة المليار دولار.
إنها مجرد تقديرات تكنوقراطية، تهمل ما أبدعه أهل القطاع في الحروب السابقة من إعادة تدوير واستخدام الركام، سواء الإسمنتي منه أم المعدني.
إن تطوير عملية إعادة التدوير من شأنه أن يوفر إلى حد كبير في الكلفة اللازمة للتخلص من الركام، وفي تكلفة البناء أيضاً.
كما أن إمكانية رصف ميناء في كل مدينة مركزية في غزة من هذا الركام، سيخفّف إلى حد كبير من هذه التكلفة ويختصر المدة الزمنية اللازمة لإعادة الإعمار.
إذن، لا بد من استنهاض من صمدوا وجاعوا وشُرّدوا، كي يسهموا في استعادة بيوتهم، ولا بد أيضًا من تحويل المخلفات إلى مادة للاستثمار والتدوير، وبالتالي نخدم البيئة ونسرّع عملية البناء ونقلّص التكلفة.