على أبواب موسم الشتاء.. عندما يتحول العدوان وإجراءات الاحتلال إلى فرصة
خاص بآفاق البيئة والتنمية
هناك حاجة لتوجيه البرامج التدريبية والإرشاد الزراعي، نحو توجيه الفلاحين للتنويع الزراعي، في إطار الحقل الواحد، وأن يكون الاعتماد على الموارد المحلية ومدخلات الإنتاج الطبيعية، من أجل تعزيز الاعتماد على الذات في الإنتاج، في ظل ظروف سياسية معقدة، ومخاطر كبيرة تعصف بنا وبالمنطقة، ظروف لن تتغير للأحسن في المدى المنظور، بل هي آخذة في التدهور، وستكون مسألة تأمين الغذاء هي الأهم لكل فرد وأسرة. كما سيكون للعونة والعمل التعاوني والجماعي في كل مجالات الفلاحة الدور الأهم من أجل تعظيم الإنجاز وتبادل الأدوار ونشر ثقافة العمل الجماعي التعاوني.
|
|
التراث الزراعي الفلسطيني البلدي |
على مدى عقود أُهملت الزراعة والأراضي الزراعية، وتراجع الاهتمام بالإنتاج، ليس فقط بسبب العمل في سوق العمل الإسرائيلي في الورش والمستعمرات الإسرائيلية، بل ومع نشوء السلطة الفلسطينية، وسراب السلام.
امتصت المدن عشرات الآلاف من شباب الريف، الذين ذهبوا للعمل في مقاهيها ومطاعمها، أو التحقوا بالعمل في الورش والشركات والمؤسسات الحكومية والأهلية، المدنية والأمنية، لنجد قرى مفرغة من شبابها، الذين انقطعت صلتهم بالأرض والفلاحة، أو على الأقل ريف مفرغ من شبابه في النهار ويعودون إليه في الليل.
ولم يكن هناك من البرامج والخطط والاستراتيجيات ما يشجع على بقاء الشباب في قراهم، ليعملوا في الأرض، التي يقضمها الاستعمار والمستعمرين جبلاً بعد جبل وسهلاً بعد آخر، في وقت بدأت المصادرة وانتزاع الأرض بأمتار ودونمات قليلة وتوسع القضم والاستعمار ليشمل آلاف الدونمات.
ووصل إهمال هذا القطاع لدرجة أن الزراعة لم تعد من ضمن المنهاج الفلسطيني المدرسي إلا بالقدر القليل، الذي لا يخلق ارتباطاً بالأرض ولا بالفلاحة بين شباب الريف، ولا يجعل العمل الفلاحي جذاباً لا بجدواه الاقتصادية ولا قيمته الوطنية ولا بعده الاجتماعي وغيره، ولا يُعلم الزراعة.
وبالرغم من مرورنا بأزمات عديدة، وهزات أمنية واقتصادية، كان من المفروض أن تكون كافية، لتنبه الناس إلى قيمة العمل الزراعي وحياة الفلاحة، إلا أننا وصلنا -على ما يبدو- مرحلة من التخدير، جعلتنا لا نرى قيمة الأرض والزراعة، إلا عند النزر القليل من الناس.
كانت أزمة كورونا كفيلة بأن تصدمنا بواقع هشاشة النظام الاقتصادي وسلاسل توريد الغذاء، وتصدمنا بما وصلنا إليه من حالة الاعتماد على الغذاء القادم عبر الحدود، وتتحكم به دولة الاحتلال، لكن الصدمة كانت محدودة الفاعلية، ولم تكن كافية لتعيدنا إلى الصواب، وضرورة العودة والالتفات للأرض والزراعة وحتمية العودة يوماً ما للاعتماد على الذات في إنتاج بعضٍ من الغذاء الأساسي.
المزارع الصغيرة المنتجة لمعظم الغذاء الذي نستهلكه
وبعد صدمة كورونا التي لم تكن كافية، جاءت الحرب في أوكرانيا، التي أوضحت المدى القاتل، من الاعتماد على قمح وأعلاف روسيا وأوكرانيا. لكن هذه أيضاً لم تكن كافية لصنع التغيير والالتفات إلى الأرض والزراعة والإنتاج، سواء عند صانعي القرارات، أو عند الأفراد والأسر، إلا القليل وما ندر من المبادرات التي لا تشكل حالة عامة، كما كانت عليه الزراعة قبل عقود قليلة مضت.
ثم جاءت الحرب الإجرامية على قطاع غزة، والتي كان من أهم ارتداداتها على عشرات آلاف العمال، أنهم توقفوا عن العمل في سوق العمل الإسرائيلي وفقدوا مصادر دخلهم العالي، الذي اعتادوا عليه، وانعكاسات هذا التوقف عن العمل على الاقتصاد الفلسطيني الهش، الذي ندرك يوماً بعد يوم مقدار هشاشته، باعتباره يتيم الأب والأم.
ودخلت الكثير من الأسر حالة الفقر وبعضها الفقر المدقع، وظهرت حالات انعدام الأمن الغذائي الأسري، الذي يمكن أن يتفاقم كثيراً في الأشهر القليلة القادمة، تبعاً لتطور الحرب في المنطقة، ووفقاً لازدياد حرب المستوطنين المتصاعدة على الضفة الغربية. وقد أظهر العدوان على قطاع غزة أهمية الزراعة والإنتاج الذاتي للغذاء، الذي أصبح سلاحاً للقتل كأي سلاح.
اليوم نحن نقف على أبواب الموسم الزراعي الشتوي، موسم يفيض بالخيرات، حيث لا حاجة للري، والاعتماد فيه يرتكز على الماء الآتي من غيث السماء. تراجع العمل في السوق الإسرائيلي، وعشرات ألوف العمال توقفوا عن عملهم وفقدوا مصدر رزقهم، ومن جموع العمال هذه عشرات آلافٍ هم من أهل الريف، الذين يمتلكون أراضيَ زراعية، أهملوها وتجاهلوا العمل فيها لعقود طويلة في أوج طفرة العمل في ورش الداخل المحتل.
إنه أوان الاستعداد للزراعة والفلاحة الشتوية، التي تعطي فرصة لإنتاج المحاصيل الشتوية المتنوعة، حيث الشتاء يفيض بالماء الوفير والمجاني، وهو تنوع أكبر بكثير مما يتوفر في الصيف، الذي يتميز أيضاً بندرة المياه. فما يمكن زراعته يتمثل في محاصيل الفول والعدس والبازيلاء، والقمح والشعير والبيكا، والزهرة والملفوف والبروكلي واللفت والجزر والشمندر، والسبانخ والخس والجرجير والشومر، والبصل والثوم والبطاطا، والعلك والرشاد والعين جرادة، والزعتر والمريمية.
إضافة لذلك، هو فرصة لغرس الأشجار المثمرة وإعادة التنوع الزراعي الشجري، وزيادة تنوع الانتاج من ثمار الفاكهة، التي ما زالت تسجل تراجعاً شديداً، فنحن نستورد التفاح والرمان والمشمش والبرقوق، ونستورد السفرجل والكمثرى والخرما (الكاكي)، وغيرها الكثير، بينما أراضينا صالحة لزراعة وإنتاج كل تلك المحاصيل والفواكه.
حديقة فلسطينية زرعت بحسب أسس الزراعات البيئية
وما زالت مساحات وفيرة من الأراضي الصالحة للزراعة وغير المزروعة، رغم كل المصادرة للأراضي وإغلاقها عسكرياً أو بحجج أخرى، كما تتوفر مساحات فارغة في حقول الزيتون، التي يمكن إعادة التنوع الشجري إليها، بزراعة المشمش البلدي والتين والرمان والعنب والبرقوق والسفرجل وبعض أصناف التفاح واللوز والدراق. مع الإشارة إلى أن كل تلك المحاصيل لا ننتج منها نصف ما نستهلكه. فما الذي نحتاجه لكي نبدأ؟
نحتاج بعض الإرادة والوعي للخطر القادم وبعضاً من التعاون والمعرفة لنبدأ، وأول ذلك أن ندرك أننا نحتاج للقليل من المدخلات لتنجح زراعتنا. الحاجة أولاً لحماية الحقول من الحيوانات البرية وتحديداً الخنازير، وهذا يمكن للمؤسسات أن تنطلق في مشاريع هدفها فقط تسييج الأراضي الجاهزة للزراعة، والتي لا تتم زراعتها خوفاً من الخنازير التي باتت تدمر الحقول، فقد توقفت الزراعة في الكثير من المناطق فقط بسبب الخنازير البرية، وهناك قرى كاملة لا تزرع المحاصيل الحقلية على الإطلاق لأن الخنازير تدمر محاصيل القمح والشعير والحمص، وغيرها.
غير ذلك لا حاجة سوى للبذور والأشتال وبعض المخصبات الطبيعية وقليل من التدريب والإرشاد. الأسمدة الكيميائية لا حاجة لها، ومع منع الاحتلال دخول الكثير من أنواع الأسمدة الكيميائية، تكمن الفرصة لنتحول بزراعتنا إلى زراعة معتمدة على مدخلات إنتاج محلية وزراعة طبيعية تعتمد على مواد متوفرة وقريبة، بعيداً عن السموم الكيميائية.
ومع وقف العمل في الورش الاسرائيلية، لدينا فرصة أخرى لنوجه كل الطاقات نحو إحياء الأرض، وبذلك نحول إجراءات الاحتلال إلى فرصة، للنهوض بالفلاحة وإعادة الاعتبار للزراعة والإنتاج الذاتي للغذاء كقيمة عليا، بعد أن تم -على مر السنين الأخيرة- تحويل العمل الزراعي إلى قيمة دنيا في نظر أبناء الفلاحين، بسبب سياسات خاطئة.
هناك حاجة لتوجيه البرامج التدريبية والإرشاد الزراعي، نحو توجيه الفلاحين للتنويع الزراعي، في إطار الحقل الواحد، وأن يكون الاعتماد على الموارد المحلية ومدخلات الإنتاج الطبيعية، من أجل تعزيز الاعتماد على الذات في الإنتاج، في ظل ظروف سياسية معقدة، ومخاطر كبيرة تعصف بنا وبالمنطقة. ظروف لن تتغير للأحسن في المدى المنظور، بل هي آخذة في التدهور، وستكون مسألة تأمين الغذاء هي الأهم لكل فرد وأسرة. كما سيكون للعونة والعمل التعاوني والجماعي في كل مجالات الفلاحة الدور الأهم من أجل تعظيم الإنجاز وتبادل الأدوار ونشر ثقافة العمل الجماعي التعاوني.
يعتمد نجاح الزراعة الشتوية على مجموعة من العوامل، ومنها إعداد الأرض بالشكل الأمثل، لاستقبال مياه الأمطار وزيادة قدرة التربة على تخزين تلك المياه في داخلها ولأطول فترة زمنية ممكنة، كي نعمل على إطالة الموسم الزراعي الشتوي لمدة أطول، وأيضاً من أجل تهيئة الظروف لزراعة المحاصيل الصيفية البعلية مثل الكوسا البلدي، والبامية، واللوبيا، والفقوس، والعصفر، والبندورة البلدية، وغيرها.
ولكي تستطيع التربة امتصاص كميات كبيرة من المياه والاحتفاظ بها في داخلها، تحتاج لزيادة نسبة المادة العضوية في داخلها، من خلال إضافة روث الحيوانات ومخلفات النباتات، حيث تعمل المادة العضوية كالإسفنج وتمتص وتحتفظ بكميات كبيرة من المياه.
التطبيق الآخر المهم لحفظ رطوبة التربة لأطول فترة ممكنة وتقليل التبخر هو بالإبقاء على غطاء دائم من المواد النباتية (القش ومخلفات المحاصيل والأعشاب الجافة وورق الأشجار) ليغطي سطح التربة. إنها فرصة الآن لجمع الأعشاب الجافة والاحتفاظ بها لتغطية سطح التربة بطبقة جيدة من القش بسمك لا يقل عن العشرة سنتيمترات. وهي فرصة للتواصل مع أصحاب مزارع الأغنام والدواجن والأبقار للحصول على روث الحيوانات والطيور لتغطية سطح التربة به أيضاً، ومع التجربة الشخصية الممتدة، لا توجد حاجة لخلط الروث بالتربة، بل يمكن إبقاءه على سطحها أيضاً، ونترك للطبيعة أن تتعامل معه وتخلطه وتدخل بعضه للتربة.
إن الحاجة كبيرة لإنتاج بعض المحاصيل ذات الاستعمال العالي، والتي لا نستغني عنها في وجباتنا اليومية، مثل: البطاطا والبصل والثوم والحمص والقمح والفول والبازيلاء والخس والزهرة والملفوف. ويمكن الإبقاء على جزء من الحقل لزراعته بالمحاصيل الصيفية البعلية، وبذلك نؤمن بعض الحاجات. إن كل مكان تصله أشعة الشمس يمكن زراعته، فضوء الشمس هو المحدد الرئيسي للزراعة من عدمها، فلنزرع حيث يصل النور، ولنحول العدوان وتبعاته إلى فرصة لليقظة.