خاص بـ "آفاق البيئة والتنمية"
 |
آثار الدمار في مختلف أنحاء جنين |
ركام المدينة
تقاطرت آليات ثقيلة ومتطوعون من مؤسسات جنين وهيئات محلية خارجها إلى وسط جنين ومخيمها، بعد وقت قصير من انسحاب جيش الاحتلال منها. كان واضحاً حجم الدمار الهائل الذي تسبب به الاحتلال، خلال أطول اقتحام منذ 22 عاماً، إذ تم تجريف معظم الطرقات في الحي الشرقي، وجرى إعادة تدمير طرقات مخيم جنين للمرة الثالثة عشرة في غضون أقل من عام.
وتعرضت جنين لعدوان وصفه رئيس البلدية، نضال عبيدي بـ "الأعنف والأوسع منذ الاجتياح الكبير عام 2002"، وقال إن الحي الشرقي كان المنطقة المنكوبة الثانية إضافة إلى مخيم جنين ودوار السينما، ومعالم أخرى جرى تخريبها عن بكرة أبيها.
وأكد لـ "آفاق" أن البلدية والغرفة التجارية شرعت في حصر الخسائر ورصدها، ولم يصدر بعد تقرير نهائي حول حجمها، لكنه توقع أن تتكبد المدينة ومخيمها تدميراً بنحو 20 كيلو متراً من شبكات الطرق، ومثلها من خطوط المياه، بجوار شبكات الصرف الصحي، وكوابل الكهرباء، وبيوت ومتاجر، كلها أصبحت أثراً بعد عين.
وأضاف أن خسائر جنين ومخيمها كانت 100 مليون شيقل في الاقتحامات السابقة، لكنها في هذا الاجتياح الطويل تقدر بـ 50 مليون شيقل، وستحتاج عدة أشهر للعودة إلى سابق عهدها، وما سيعقد المهمة اقتراب دخول الشتاء، واحتمالات عودة الاحتلال للتدمير مرة أخرى، بعد إصلاح الأضرار.

الفتى يامن أبو العسل، أصغر متطوع في عمليات إزالة آثار العدوان عن جنين
أطلال وحزن
كان الحزن واضحاً على وجه الثمانيني محمد نجيب مطاحن، الذي أتت جرافات الاحتلال على منجرته، وسط جنين.
كان مطاحن يدقق بقهر في تفاصيل مصدر رزقه، بعد وقت قصير من انسحاب المحتلين، وراح يروي ذكرياته مع مكان بدأ فيه منذ عام 1950، وكان يساعد والده.
وقال إن تدمير منجرته ليست مسألة مادية فقط، فهو يرى فيها قطعة منه، فقد عاش فيها لحظات فرح وحزن، وكانت شاهدة على شبابه وضعفه وقوته ومرضه. وأضاف أن والده توفي عام 2000، وقد ورث بدوره المهنة عن أبيه.

تدفق المياه العادمة في أحياء جنين بفعل التدمير الإسرائيلي
رمسيس
كان عماد نعيم أبو الحيّات، أو رمسيس، كما يعرفه أهالي جنين، في غاية الحزن، فقد دمّر الاحتلال معظم صالونه في قلب المدينة، الذي يعود تأسيسه إلى عام 1954.
ووصف ما حدث بالمؤلم له، ليس بسبب الدمار الكبير الذي تركته الجرافات الإسرائيلية الثقيلة، لكن لأن كل قطعة في صالون الحلاقة، الأشهر في جنين، لها قصة كبيرة معه ومع والده وإخوته.
وبالرغم من أن أبو الحيات أصر على مواصلة العمل كالمعتاد، وعاد إلى المهنة التي ورثها عن والده وجده، ولم ينتظر إصلاح الأضرار الكبيرة وشرع في الحلاقة أمام المارة، وفي الهواء الطلق، إلا أن المكان الذي انطلق عام 1954 فقد الكثير من ذكرياته.
وأفاد رمسيس أن جده ذيب أسس صالون حلاقة بجوار مسجد الجريني في قلب حيفا العتيقة، ثم نقلها الجد إلى الأبناء نعيم وعماد وماهر، ولاحقاً إلى الأحفاد قيس وأحمد.
ووفق الراوي، يعود سبب تسمية الصالون، كون والده كان مغرماً بمصر وسافر إليها مراراً مع صديقه محمد جرار، فاختار رمسيس لإعجابه بتمثال رمسيس الثاني، أحد أبرز حكام مصر في حقب الفراعنة، ويصور التمثال صاحبه واقفاً، وتم اكتشافه عام 1820 بالجيزة، وعثر عليه 6 أجزاء منفصلة، وطوله 11 متراً، ومنحوت من الجرانيت وردي اللون.
وأضاف أبو الحيات: أحضرت كرسي الصالون من الأردن، قبل النكسة، وكان ثمنها 70 ديناراً، لكن الركام دمرها رفقة معدات وأدوات أخرى، أدخلت في سبعينيات القرن الماضي مجفف الشعر (السشوار) إلى جنين من حيفا، مثلما طوّر قصات الشعر بالأصابع.
وبحسب أبو الحيات، فإن صالونه المستأجر من والده منذ عام 1954 مبني من حجارة نارية كانت لمحطة السكة الحديد العثمانية التي هدم الاحتلال أجزاء منها.
بينما قال جوزيف حداد، مالك الصالون، إن والده أعاد إقامة المبنى عام 1948، فقد نسفه المحتلون خلال العدوان على المدينة والمعارك مع الجيش العراقي، وانتقل عدة أمتار غرباً من مكانه الحالي؛ لتوسعه الطريق.

جانب من التخريب الإسرائيلي في مخيم جنين
متطوع يافع
كان الفتى يامن أبو العسل، أصغر متطوع في عمليات إزالة آثار العدوان عن جنين، إذ قاد اليافع جرافة والده، وشق طريقه إلى شارع البيادر في حي جنين الشرقي لأداء الواجب، بعد وقت قصير من انسحاب جيش الاحتلال.
وساهم يامن، ابن الثالثة عشرة، في إزالة الأجزاء المتداعية من أنقاض منزل عائلة سمير السعدي، التي دمّر المحتلون أجزاء منه.
وبحسب الفتى المتطوع فإن المساعدة في فتح طرقات جنين، وإزالة ما دمره المحتلون "شيء عادي."
وتحكم يامن ببراعة بجرافة والده، واستوقف عمله المارة، وأهالي الحي المنكوب، الذين خرجوا لنفقد آثار الدمار في شارعهم.
ولم يقرر المتطوع الأصغر بعد، مسار دراسته المستقبلية، غير أنه يظهر مدى تعلقه بقيادة الجرافات الثقيلة، التي تعلمها من والده.
وقال إن إعادة بناء ما يدمره الاحتلال "واجب على كل الأهالي". وأوضح أنه تعلّم من والده مساعدة الآخرين، فقد عمل مراراً في تنظيف أضرحة الشهداء في المقبرة المجاورة، التي هدم المحتلون أسوارها، وفي مخيم جنين.
وذكر والد يامن أن ابنه صاحب الترتيب الرابع في عائلته، استطاع التقاط العمل على الآليات الثقيلة بسرعة، فخلال أقل من عام أصبح "معلماً"، وصار بالإمكان الاعتماد عليه.
وقدر مواطنو الحي الشرقي عدد المنازل المتضررة بنحو 400، والأهم الدمار الهائل الذي حل بالطرق وشبكات المياه، والصرف الصحي، والكهرباء، والاتصالات.

رمسيس-صالون الحلاقة العريق الذي دمره الاحتلال في مدينة جنين
في شارعنا مفاعل نووي!
دمر الاحتلال خلال العدوان الأخير شارع بلدتنا الرئيس، كما فعلوا مراراً في جنين ومخيمها ومدن وتجمعات عدة. لم يقتحم فتية برقين ولا أشبالها غلاف مرج ابن عامر، ولم يقتلوا مستعمراً أو جندياً واحداً، ولم يحفروا أنفاقاً، ولا يجيدون مصادرة حرية أحد.
في بلدي ليست هناك قنابل ذكية أو عنقودية، ولا تضم جنبات شوارعنا منصات لإطلاق الصواريخ الفرط صوتية أو المجنحة، ولا نملك مضادات أرضية، ولم نقرر بعد بناء قبة حديدة، ولم نصل لمرحلة تخصيب اليورانيوم.
في شارعنا المدمر باعة خبز وبيتزا وخضروات وهواتف نقالة وصيدلية ومركز طبي وطبيب أسنان حديث وحلاق شعر ومحطة وقود، وفيه مسجد صغير، وعلى أطرافه ثالث أقدم كنيسة في العالم، التي ارتبطت بإشفاء السيد المسيح للعشرة البرص.
وعلى حواف طريقنا المدمر حاووز (نبع ماء) قديم جففه المحتلون، وحملت أمهاتنا منه سر الحياة على رؤوسهن.
في شارعنا المحطم حجارة وذكريات، وعليه سار جدي وأمي وأبي واسلافي رحمهم الله.
في دربنا المستهدف أحلام وذكريات وأشجار زيتون عتيقة، وبقايا شجيرات عنبر.
على طريقنا سار معلمون وأطباء وعشاق منذ مئة عام، قدموا من المدينة وضواحيها. ومنه ذهب أجدادي لحقول البطيخ في مرج ابن عامر، وابتهجوا بمواسم الحصاد، وتفاخروا بقمحهم.
في ممرنا المحاط بسفحي جبل تاريخ وجغرافيا، ومنه مرت حافلات محمولة بالفرح وبمواليد جدد، وشقته مركبات إسعاف نقلت جثامين أحبة.
على شارعنا وفي وداي الخوري وزقاق الصبر وراس المطلة، كنا نحلم بأن نرافق فلذات أكبادنا في الذهاب والإياب للمحكمة الشرعية لنشاركهم فرحة العمر، وقبلها نتقاسم معهم ابتسامة التخرج في جامعاتهم، لكننا اليوم نشاهد ركامه، ونرثي ذكرياته، ونصر البقاء فيه حتى الموت والإقامة في مقبرة بلدتنا الغربية!

شارع بلدة برقين وقد دمرته قوات الاحتلال
دمعتان ووردة!
تشاهد مدينتك التي أعادها الغزاة إلى عصر ما قبل الأسفلت، ترى آليات ثقيلة تفتك بمبانيها الجميلة، تتوقف عند أسواقها المحترقة، تنظر إلى شواهد قبورها التي لم تسلم من الدمار، تتبع أخبارها المؤلمة، تتمعن في طرقاتها الحزينة، تقفز إليك سيرتها المكحلة بالمجد والحافلة بالاستهداف.
تسترد ما قاله لك المؤرخ الراحل مخلص محجوب الحاج حسن، إن جنين دفعت عبر العصور ثمن موقعها من لحمها ودمها، وإن معركتها عام 1948 بقيادة جيش العراق أخرت احتلال الضفة الغربية 19 سنة، وإن للمحتلين الجدد ثأر معها.
تحزن لهول ما تراه، فالمدينة ليست مجرد حجارة وإسمنت وحوانيت وباعة متجولين، بل هي ذكريات تسري في الدم والروح، وتلتصق بالفؤاد، وتنقش على الجدران، وتحملها حبات المطر، وتحرسها شقائق نعمانها.
هي النخلة، والزيتونة، والكينا. إنها طاحونة القمح، ومرج ابن عامر، وعين نينه، والأحراش، ووادي عز الدين، وفاطمة خاتون، والسيباط، والزهراء، والمحطة، والريف، والمخيم، والمساجد، ودير اللاتين، وسكة الحديد، والتذكار الألماني، وسيرة الشيخ عز الدين ومن بعده من عشاق.
تبكي مدينتك، التي تذبح، ولا بواكي لها، وتقرأ بيانات وصفية لمحنتها لا تساوي ثمن الحبر، وكأن جنين من كوكب زحل!

محمد مطاحن، الذي أتت جرافات الاحتلال على منجرته
المسك والبارود
سيعتبر الطبيب الجراح جنين ترياقاً لمرضاه، فيكتبها لهم في وصفة ما قبل النوم وحين الضحى.
سيطلب المعلم من تلاميذه وصفاً لحارة الدمج ولدوواير الحصان والحمامة والبطيخة والنسيم والسنبلة، ولأحياء السيباط والبيادر، دون استعمال النكرات، لأنها صفات وأمكنة وأزمنة مرفوعة الهامة والقامة.
سيصفها عاشق بليلاه، فيغني لها، ويقطف لها سوسنة من شرقها البهي، ونرجسة من حريشها السامق.
سيدرجها المخرج السينمائي في أفلامه، فيصير شارع مهيوب روائياً، ويصبح حي الزهراء وثائقياً، وسيدخل الأوسكار بالشارع العسكري.
سينادي بائع الفاكهة على بضاعته: مال جنين يا بطيخ، في استعارة من المؤثرين لألوان العلم الفارة من رقابة "مارك وماسك".
سيكتب الصحفيون عناوينهم الجذابة في فاطمة خاتون، وشارعي الناصرة وحيفا والمحطة، ويرسلونها من الجابريات.
سيأخذ المؤرخون جولة لمريدهم في أعالي المدينة، ويستردون لهم سيرة الباسل عمر علي.
سينقش الشعراء صفات طواحين المدينة الغائبة، ويستبشرون باستدامة نهر المقطع.
سيبني المهندسون طرق المدينة ومخيمها، وسيحولون حطام الشوارع لمتحف شاهد على آثار القدم الهمجية.
سيغني لها المطربون بأهازيج وطنية من طلوع الغبز، وشارع السكة، والصناعية.
سيطلق الطهاة طبقاً جنينياً جديداً يشبه المن والسلوى، ويفوق مطابخ الشرق والغرب.

نضال عبيدي رئيس بلدية جنين