الترويج مجددا لمشاريع الصادرات الزراعية بدلا من حماية المنتجين المحليين ومنع استيراد المنتجات الإسرائيلية في سوق محاصر ومخنوق لا تنطبق عليه "قوانين السوق" المتعارف عليها
توريط مزارعينا في الزراعات الكمالية والتصديرية وإغرائهم بالتخلي عن الزراعات الأساسية والتقليدية هل سيدمر ما تبقى من قطاعنا الزراعي؟
الافتقار إلى سياسة إنتاجية وطنية تعتمد على مدخلات إنتاج محلية وتلبي الاحتياجات الغذائية الأساسية بالدرجة الأولى
|
المنتجات الزراعية الإسرائيلية تغرق الأسواق الفلسطينية |
جورج كرزم
خاص بآفاق البيئة والتنمية
عاد مؤخرا إلى الضفة الغربية وقطاع غزة الترويج لمشاريع إنتاج محاصيل الصادرات الزراعية المدعومة ماليا من منظمات دولية مثل "الفاو" (منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم)؛ وتنفذ مثل هذه المشاريع بالتعاون مع بعض المنظمات غير الحكومية المحلية. وتسمى المحاصيل المعدة للتصدير بالمحاصيل ذات "القيمة العالية". بل إن القائمين على هكذا مشاريع يعتبرونها معززة لعملية "الاعتماد على الذات"، علما أن السلع المصدرة تعتبر سلعا زراعية كمالية مثل الفراولة والورود بأنواعها؛ إضافة إلى الأعشاب الطبية. وتسوق هذه السلع إلى هولندا، وعبرها إلى بلجيكا وسويسرا ولوكسمبورغ.
والغريب أن هذا التوجه التصديري يحدث بالرغم من فشل السياسات والتوجهات الزراعية التي دفعت العديد من المزارعين الفلسطينيين نحو الإنتاج الزراعي التصديري، كما اتضح بشكل صارخ منذ زمن بعيد، وبخاصة منذ انتفاضة الأقصى الأخيرة. وقد تراجعت الزراعة، خاصة مع تكرار تلف معظم الإنتاج الزراعي الكمالي الموجه للتصدير إلى أوروبا وإسرائيل كأزهار القرنفل والتوت الأرضي في قطاع غزة بسبب الحصار والإغلاق. لذلك تضرر المزارعون الذين حولوا أجزاء كبيرة من أراضيهم للزراعات التصديرية، الأمر الذي دفع جزءا كبيرا منهم للعودة إلى زراعة منتجات أساسية أقل عرضة للتلف والمخاطرة، ويسهل تخزينها ويطلبها السوق المحلي (كالبطاطا والبصل والباذنجان والخيار وغيرها)، علما بأن المردود الربحي لهذه المنتجات أقل من الزراعات التصديرية.
وكما هو معروف، لم يتمكن المزارعون الفلسطينيون، في ظل الإتفاقيات الإسرائيلية – الفلسطينية الاقتصادية والسياسية الكولونيالية، من الاستفادة من الفرص والوعود النظرية الوهمية التي توفرها "التجارة الحرة" التي تتمتع بها فعليا المنتجات الإسرائيلية لوحدها، وباتجاه واحد (من إسرائيل إلى السوق الفلسطيني). كما أن الصادرات الفلسطينية بشكل عام، بين عامي 1992 و2010 تراجعت إلى أكثر من النصف.
وبالرغم من كون الضفة الغربية وقطاع غزة منطقتين زراعيتين، بل شكلت الزراعة تاريخيا أهم قطاع اقتصادي، إلا أن معظم الفلسطينيين، وخاصة في المدن، يستهلكون المنتجات الزراعية الإسرائيلية التي تغرق الأسواق الفلسطينية، علماً بأن إسرائيل تمنع عموما المنتجات الفلسطينية من الوصول إلى الأسواق الإسرائيلية. وهذا يعني، بأن الاحتلال الصهيوني فرض ويفرض "تنافسا" قسريا غير متكافئ بالمطلق بين وارداته الزراعية المدعومة والمنتجات الفلسطينية المكشوفة، مما يولد أزمة تسويق فائض الإنتاج المحلي في السوق المحلي، وذلك بسبب انكشاف هذا الانتاج وحرمانه من الحماية الوطنية والرعاية وعدم منحه الأولوية في التسويق المحلي.
الصادرات الكمالية اختراع إسرائيلي
في الواقع، يعود أصل فكرة الصادرات الزراعية الفلسطينية الكمالية كالورود والفراولة وغيرها إلى الاحتلال الذي عمل منذ أواسط الثمانينيات على تشجيع مزارعينا في غزة على زراعة الورود في إطار توجيه الزراعة الفلسطينية لإنتاج محاصيل تلبي حاجات الاقتصاد الصهيوني سواء للإستهلاك المباشر أو لسد فجوات تصديرية في الإقتصاد الصهيوني. وتأتي هذه السياسة في سياق تعميق دمج الاقتصاد الفلسطيني في الاقتصاد الصهيوني بحيث يرزح تحت سلسلة من الأوامر العسكرية والإجراءات الضريبية لمنع المنتجين الفلسطينيين من منافسة المنتجين الصهاينة سواء في السوقين الصهيوني والفلسطيني أو في الأسواق العالمية. من هنا، فإن التصدير الزراعي الفلسطيني يتم من خلال شركات التصدير الإسرائيلية. وللأسف، واصلت السلطة الفلسطينية، منذ تأسيسها عام 1994، نفس السياسة الإسرائيلية التصديرية، وكان المستفيد الأساسي من هذا التوجه ثلة من الوكلاء والسماسرة الكبار.
ولإغراء مزارعي غزة، قدمت لهم ما يسمى "الإدارة المدنية" الإسرائيلية، في حينه، بعض "الدعم المالي" و"القروض والمساعدات الفنية"، فضلا عن ضمان شراء الزهور منهم. وبالفعل، نجح الاحتلال في "إقناع" بعض المزارعين باقتلاع أشجار الحمضيات من بياراتهم، وزراعتها بالزهور بدلا من الحمضيات والخضروات، علما أن حمضيات غزة كانت، تقليديا، تعد من التراث الزراعي المميز الذي يفتخر به الفلسطينيون. وعندما تمكن الاحتلال من تسخير الإنتاج الزراعي الفلسطيني لخدمة اقتصاده، توقف عن إعطاء المزارعين "الحوافز"، فصار الإنتاج الزراعي خاضعا لتقلبات السوق. وبمعنى آخر، عمل الاحتلال على سحق المنتجات الزراعية الفلسطينية الأساسية من خلال منع حمايتها من المنافسة الإسرائيلية والأجنبية، وتشجيع تحويل المزارعين الفلسطينيين الى الزراعة الكمالية التي لا يستفيد من أرباحها سوى نفر من الملاكين والتجار الكبار.
وهنا يتم تجاهل بأن تحول زراعتنا نحو الزراعة الأحادية الموجهة "للسوق العالمي" سوف يوصل شعبنا، كما أوصل من قبلنا شعوبا أخرى في "العالم الثالث"، إلى درجة العجز عن إنتاج وتأمين غذائه الأساسي، بحيث لن يبقى أمامنا سوى مواجهة المصير المحتوم: المجاعة والفقر الغذائي.
وبالإضافة إلى الدوافع الإسرائيلية الحقيقية الكامنة وراء الاهتمام بزيادة إنتاج الزهور للتصدير، فإن المستفيد الحقيقي من هذه السياسة التصديرية هو اقتصاد الاحتلال. فمن المفيد التذكير بأن زراعة الزهور عبارة عن زراعة مروية بشكل مكثف، وتتوفر لها فجأة (ياللعجب!)، المياه النقية التي يحرم منها شعبنا، وخاصة في غزة.
المهم في الموضوع، أنه وبالرغم من الخسارة الضخمة التي منّي بها قطاع الزهور، والتي تقدر بعشرات ملايين الدولارات (منذ أواخر التسعينيات) بسبب سيطرة الإسرائيليين التامة على المعابر والجسور، وبالرغم من قيام عدد كبير من مزارعي الزهور والفراولة وغيرها من الزراعات المعدة للتصدير، في حينه، بإتلاف كميات ضخمة منها لعدم تمكنهم من تصديرها، فإن هناك إصرارا غير مفهوم لدى بعض الاقتصاديين والسياسيين الفلسطينيين على المضي قدما في إعادة إنتاج الفشل وكأن المقصود هو إثبات خطأ المثل الشعبي القائل: "اللي بجرب المجرب عقله مخرب"!
إن مشروع الصادرات الأحادية الكمالية بشكل عام منوط برحمة الإسرائيليين الذين طالما "تعهدوا" منذ أواسط التسعينيات بعدم إغلاق المعابر أمام الصادرات الزراعية الفلسطينية! علما بأنهم سبق وقدموا نفس "التعهدات" مئات المرات. والغريب في الأمر، أن التركيز المبالغ فيه على التوجه التصديري يتم في الوقت الذي يفتقر فيه الفلسطينيون في الضفة والقطاع إلى السيادة السياسية والاقتصادية على الأرض والموارد والأسواق المحلية والحدود والصادرات والواردات وحركة رؤوس الأموال!
ويُذكر أن وزارة الزراعة الاسرائيلية قد باشرت منذ أواخر التسعينيات في استثمار مئات ملايين الدولارات لزراعة أكثر من 100 ألف دونم في صحراء النقب لإنتاج كميات كبيرة من الحمضيات والخضروات والزيتون والقمح والورود. وتعد هذه المنتجات التي تُروى بالمياه العادمة المعالجة من منطقة تل أبيب منافسة في الأسواق الأوروبية والأميركية.
إذن، هدف الاحتلال الإسرائيلي من وراء توريط مزارعينا في الزراعة الكمالية وإغرائهم بالتخلي عن الزراعات الأساسية والتقليدية في النهاية هو تدمير ما تبقى من قطاعنا الزراعي، لصالح تصدير إسرائيل لنفس المحاصيل التي أُقْنِعَ المزارعون الفلسطينيون بالتخلي عنها. كما أن إسرائيل والجهات الغربية نفسها التي شجعت مزارعينا وبعض المسؤولين الفلسطينيين على زراعة الزهور عملت فيما بعد على إبادة هذا القطاع، لأن الأولوية أصبحت للزهور الإسرائيلية في النقب وغيره. لذلك فإن ما حصدناه مزيداً من تشويه اقتصادنا وإفقار وتجويع مزارعينا.
|
زراعة الورود في قطاع غزة بهدف التصدير عبر شركات أو قنوات إسرائيلية |
هل توجد حاجة اقتصادية حقيقية للتصدير؟
ومن المفيد هنا أن نتذكر المبادرات الإنتاجية الشعبية في مطلع الانتفاضة الأولى (أواخر الثمانينيات)، والتي شكلت بوصلة البديل التنموي للاستغلال الاقتصادي القائم على قاعدة "من أعلى الى أسفل" والمدعوم بحراب الاحتلال. وهذه المبادرات تحديدا تشكل تناقضا مع المفهوم التنموي للبنك الدولي والمستند الى اقتصاد "السوق الحر" الذي يريد أن يجعل من الحياة الريفية الزراعية التقليدية في الضفة والقطاع أول ضحاياه. إذ كيف يمكن لمجتمع يرزح تحت الاحتلال الاستيطاني والعسكري منذ عقود طويلة وتتواصل ضده الضغوط الاقتصادية والسياسية الهائلة أن يقف فورا ودفعة واحدة في "اقتصاد السوق" ويواجه المنافسات "الحرة" التي لا ترحم؟ فالبطالة في الدول الغربية نفسها تعد من أهم النتاجات "الجانبية" المدمرة لاقتصاد "السوق الحرة"، في حين أن نتاجاتها في دول الجنوب تتجسد في الفقر والمجاعة والحروب القبلية والمحلية.
إذن عندما نتحدث عن الزراعات التصديرية، لا بد أن نسأل أنفسنا: على أية أرضية إنتاجية يجب أن تقف الزراعات التصديرية؟ ومن منظور الأمن الغذائي الاستراتيجي والسيادة على الغذاء: هل ثمة حاجة اقتصادية - تنموية حقيقية أصلا للتصدير؟ إن جزءا كبيرا من الاستهلاك المحلي للخضروات والفاكهة والحمضيات مصدره إسرائيل، وهذا يعني زيادة فائض الانتاج وتوجيه مزيد من الضربات للمنتجين المحليين، بل وإخراجهم أحيانا من السوق المحلية وإفقارهم بما يتناقض مع هدف تعزيز الأمن الغذائي، وبخاصة أن حركة البضائع إلى الأسواق الخارجية تتحكم فيها إسرائيل تماما، وهي التي تقرر متى يُسمح للتصدير ومتى يُمنع.
وغالبا ما نسمع أن التسويق الزراعي هو المشكلة الأكبر. الحقيقة أن هذا ليس صحيحا، لأن الفائض الناتج (الانتاج/الاستهلاك) هو في بضعة محاصيل قليلة، بينما نعاني من نقص فادح في معظم احتياجاتنا الزراعية التي تشكل العمود الفقري لأمننا الغذائي؛ فنستوردها من الاحتلال الإسرائيلي أو الخارج. ألسنا نستورد معظم المحاصيل الاستراتيجية مثل الحبوب والقمح والأعلاف وغيرها كما لاحظنا للتو؟ فالمشكلة إذن تكمن في ماذا وكيف نزرع. فهل نزرع المحاصيل الأساسية والاستراتيجية بكميات محدودة؛ في وقت نزرع فيه بشكل غير مدروس بعض المحاصيل الأخرى بكميات ضخمة لا لزوم لها، وتصديرها غير مضمون أساسا؛ لأننا لا نتحكم أصلا بالمعابر والحدود وعمليات التصدير ذاتها.
كما أن الحيازات الزراعية الصغيرة أو ما يعرف بتفتت الملكية ليس بالمشكلة؛ إذ أنه في الزراعة المقاومة والمعتمدة على الذات، يفضل أصلا العودة إلى الحيازات الصغيرة. فمشكلتنا، إذن، تكمن في افتقارنا إلى سياسة إنتاجية وطنية تعتمد على مدخلات انتاج محلية، وتشجع الناس على العمل الزراعي وتنويع الانتاج الذي يلبي الاحتياجات المحلية بالدرجة الأولى. وعندئذ، سنتحرر من عقلية البحث عن الخلاص من الخارج.
وفي ظل وجودنا تحت احتلال استيطاني وعسكري اقتلاعي يمارس سياسات الحصار والتجويع بشكل منظم ومنهجي، فإن الأولوية هي لضمان تحقيق الأمن الغذائي الفعلي والسيادة على الغذاء لأوسع الشرائح الشعبية وليس لصالح شريحة تجارية هامشية من التجار والمصدرين والوكلاء. ولا يتحقق ذلك إلا من خلال تغطية احتياجاتنا الغذائية الأساسية والاستراتيجية من إنتاجنا المحلي المتحرر من التبعية لمدخلات الإنتاج الإسرائيلية التي يتحكم بها الاحتلال وشركاته. وهذا يتطلب تشجيع المزارعين على العودة إلى الزراعات البلدية والعضوية التي تتميز مدخلاتها بأنها محلية سواء على مستوى السماد البلدي المحلي أو السماد الأخضر أو الحيوانات أو الأيدي العاملة أو البذور البلدية غير الصناعية، أو العلاجات الزراعية الطبيعية والعضوية المشتقة من الموارد والنباتات المحلية. وهذا التوجه الإنتاجي الغذائي الاستراتيجي، يضمن بقاء وتدفق الثروة ورأس المال وتدويرهما داخل بلدنا، لأن الاعتماد على المستلزمات الزراعية التي يعيد المزارعون إنتاجها بأنفسهم محليا، يكون في إطار نفس دائرة الإنتاج والاستهلاك المحلية. وهذا يعني الاعتماد على الذات وتحقيق الاستقلال والأمن الغذائيين وطنيا. بمعنى، أن الاقتصاد الزراعي التصديري لا علاقة له بالاعتماد على الذات والتحرر من تحكم الاحتلال والأجنبي بعملية إطعام وتجويع الفلسطينيين.
وهم "السوق الحرة"
بما أن الاقتصاد الزراعي الفلسطيني يواجه منذ عقود، عملية إسرائيلية منظمة لتحطيم مقوماته، فالأوْلى أن يحصل المزارعون الفلسطينيون على الحد الأدنى الممكن من الدعم المادي والمالي من خلال إعفاء منتجاتهم من الضرائب بكافة أنواعها ومنع استيراد المنتجات الإسرائيلية والأجنبية الأخرى المنافسة والتي تتمتع بميزات تسويقية غير عادلة، وبالتالي حماية المنتجين المحليين من الضغوط السياسية والاقتصادية الخارجية، وبخاصة أن السوق الفلسطيني المحاصر والمخنوق، لا ينطبق عليه ما يُسمى بقوانين السوق المتعارف عليها عالميا في الظروف الاقتصادية الطبيعية. كما لا يوجد عمليا في الضفة والقطاع (ولا يمكن أن يكون في المستقبل) "سوق حرة" ما دام الاحتلال يسيطر على الاقتصاد والموارد الفلسطينية. ولعل ما يُسمى بالسوق الحرة في الضفة والقطاع ليس سوى وهم تروّج له المؤسسات المالية والاقتصادية الرأسمالية الدولية، علما بأن هذه السوق تفتقر إلى الشروط الأساسية والبديهية لوجودها وأهمها السيادة والاستقلال وحرية حركة القوى البشرية والمنتجات ورؤوس الأموال.
وهنا، ربما نحتاج إلى دراسة تحليلية للسوق المحلية تبين الميزات التسويقية غير المتكافئة وغير العادلة التي تتمتع بها الواردات الزراعية الأجنبية. كما سنحتاج إلى شن حملات توعية وحملات خارجية لمؤسسات الرقابة الدولية وحقوق الإنسان والقوى المناصرة للشعب الفلسطيني. علاوة على ذلك، ثمة حاجة لبرامج توعية وتدريب تتعلق بقيم السوق الاستراتيجية للمنتجات المحلية.
المزايا الاستراتيجية في المنافسة على الأسواق الخارجية
إذا كان لا بد من التصدير ، كما يروج عدد كبير من الاقتصاديين والسياسيين الفلسطينيين، فيجب ألا يكون ذلك قبل تلبية كل احتياجاتنا الغذائية الأساسية من إنتاجنا المحلي. ومن ثم بإمكان الزراعة التصديرية أن تستند الى تنوع الإنتاج (لأن في التنوع تقليلا للمخاطرة) وزراعة منتجات عضوية (خالية من الأوساخ الكيماوية). فالطلب على الأخيرة يزداد باستمرار في الأسواق العالمية عامة والغربية خاصة، وبإمكان مزارعينا التفوق في هذا المجال والاستفادة من مزايا استراتيجية حقيقية في المنافسة على الأسواق الخارجية بالاعتماد على قوتنا الزراعية المحلية الكامنة وتراثنا الزراعي الطبيعي والعضوي الغني.
وفي الواقع، تمتلك الزراعة البلدية الفلسطينية، حينما يجري العمل على إغنائها وتطويرها وتحويلها إلى زراعة عضوية – بيئية، تمتلك ميزة تنافسية من الدرجة الأولى خلافا للزراعة الكيماوية الفلسطينية التي لا تستطيع منتجاتها الفلسطينية المنافسة في الأسواق الخارجية نظرا لإغراق تلك الأسواق بكميات هائلة من المنتجات "الأكثر جودة" والأرخص ثمنا. فعلى سبيل المثال، يتسبب استخدام الكيماويات الزراعية في حقول الزيتون في تدني جودة زيت الزيتون الفلسطيني الذي يعتبر سعره مرتفعا بسبب ارتفاع كلفة الإنتاج قياسا لأسعار زيوت بعض الدول الأخرى مثل اسبانيا والبرتغال وإيطاليا واليونان، الأمر الذي يفقد الزيت الفلسطيني ميزته التنافسية في الأسواق الخارجية.
ولذلك سوف يحتاج بعض المنتجين المحليين، والعديد من موظفي الوزارات والمؤسسات الرسمية المعنية إلى عملية تدريب مكثفة حول المميزات الاستراتيجية الكامنة في الدخول إلى الأسواق الزراعية العضوية. وسيحتاج المزارعون المعنيون إلى برامج إرشادية وتدريبية حول الممارسات الزراعية العضوية لإنتاج المحاصيل التقليدية التي يزداد الطلب عليها.
وفي سياق التوجه الهادف إلى تكريس سيادتنا على غذائنا، يمكننا تشجيع زراعة أصناف نباتية تتحمل الجفاف وتتأقلم مع البيئة المحلية (في ظل التقلبات والتغيرات المناخية)، وتثمر مبكرا قبل بداية فصل الجفاف وتأثيره على المحاصيل، وتحتاج إلى قليل من المياه؛ مثل أصناف معينة من المشمش والخوخ واللوزيات...يضاف إلى ذلك أصناف شجرية يمكن أن تطيل فترة الموسم مثل برتقال الفَلَنسيا (موسمه متأخر) ودم الزغلول (حاليا نادر الوجود فلسطينيا)، إضافة إلى الشموط وأبو صرة؛ علما أن جزءا كبيرا من البرتقال الموجود حاليا في الأسواق مصدره السوق الإسرائيلي.
كما لا بد أن نعمل على تشجيع زراعة المحاصيل التقليدية، أو أصناف جديدة تتحمل الحرارة وتحتاج إلى قليل من العناية وتحقق فوائد اقتصادية وصحية وبيئية حقيقية للمزارعين، ويوجد عليها طلب في الأسواق المحلية والخارجية، ويمكن زراعتها بطرق عضوية وتحتاج إلى قليل من العناية؛ مثل الصبر والخروب والبلح والسمسم والأعشاب الطبية وغيرها. وبإمكاننا أيضا، إدخال الزراعة العضوية لإنتاج المحاصيل التقليدية التي لها آفاق تسويقية جيدة مثل الحمضيات والبلح والعنب والتين والخضار، فضلا عن محاصيل جديدة مناسبة. كما أننا نستطيع تربية الدواجن والمواشي وإنتاج مشتقات الألبان العضوية.
يضاف إلى ذلك، الاهتمام بتسويق أجزاء من الثمار التي غالبا ما تلقى في القمامة، مثل زهر ثمار الكوسا التي يعمل حاليا العديد من المزارعين في أوروبا على تبكيتها وتسويقها؛ إذ أنها تستخدم في الشوربات والسلطات...إلخ. يضاف إلى ذلك زراعات عشبية غذائية وخضرية من بلدنا أصلا ولكن الجيل الجديد يجهلها، مثل الهليون (للسلطات والشوربات وغيرها)، والعصفر، والكراوية، والكرسنة، وحصالبان، والعكوب، والشومر، والفيجن...
إن أكثر ما يُعرّض الإنتاج الزراعي الفلسطيني الحالي للصدمات أنه يفتقر إلى التخطيط في إطار اقتصاد الصمود والمقاومة ومواجهة السياسات الاقتصادية الصهيونية الهادفة إلى تدمير الاقتصاد والسوق الفلسطينيين مما يجعل هذا الانتاج غير حصين وحساسا جدا وسريع التأثر بالضغوط الخارجية، الأمر الذي يهدد استمرارية وجوده.
وأمام هذا الواقع الاقتصادي الكولونيالي، فإن توفير مقومات الأمن الغذائي الاستراتيجي يتطلب بالدرجة الأولى تشجيع المزارعين والناس عموما على إنتاج السلع الزراعية الاستراتيجية التي تلبي الاحتياجات الغذائية المحلية أولا. وفي إطار نفس الاستراتيجية الزراعية، لا بد من تشجيع المشاريع الصناعية المحلية التي لا تحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة، وتعتمد أساسا على تصنيع المنتجات الزراعية العضوية والبلدية المحلية وتدر دخلا جيدا عن طريق الاستفادة من الموارد والمهارات المحلية. وبإمكاننا، على سبيل المثال، تصنيع العنب والخروب لصناعة الدبس والملبن، أو المتبل (معجونة الباذنجان) وتعليبه، وغير ذلك، بهدف التسويق المحلي والتصدير للأسواق الخارجية.
كما يمكننا أيضا إنشاء مشاريع لتجفيف المحاصيل بالطاقة الشمسية وتصنيعها وتعليبها، فضلا عن تصنيع منتجات إنشاء مصانع لإنتاج الألبان ومشتقاتها بحيث يتم تسويق المنتجات من خلال تعاونيات لتسويق المنتجات العضوية.
إن التركيز على التصنيع الزراعي وزيادة الإنتاج الغذائي وحمايته، يضمن التأسيس لاقتصاد المقاومة في مواجهة سياسات الحصار والخنق والتجويع الصهيونية، فضلا عن تحسين مستوى معيشة أهل الريف إجمالا الأمر الذي سيخلق دورة اقتصادية تؤدي إلى توسيع سوق الصناعة المحلية وبلورة صناعات جديدة، بما في ذلك إنتاج بعض التجهيزات الزراعية الصغيرة وإصلاحها. بمعنى أن التصنيع لا بد أن يكون منسجما مع عملية ربط الاستراتيجية الزراعية بالتنمية الصناعية انطلاقا من الإمكانيات المتوفرة بحيث تبنى هذه العملية على أساس تكاملي مع الأقطار العربية المجاورة. وسيتطلب هذا التوجه الإنتاجي الاستراتيجي خدمات توعية وإرشاد وبرامج تدريبية مناسبة.
ابتكار آليات ترويجية
بما أن السوق الفلسطينية تفتقر إلى الآليات والتقنيات البسيطة الهادفة إلى تعزيز عملية التسويق المحلية للمنتجات البلدية والعضوية، فمن الضرورة بمكان ابتكار وتطوير آليات ترويجية غير مكلفة وسهلة التطبيق لتحفيز عملية التسويق الواسعة للمنتجات البلدية (العضوية) المحلية، كأن تسم مجموعة من المزارعين، وبشكل جماعي، منتجاتها بعلامات تجارية خاصة بها، أو أن يضع المزارعون ملصقات على منتجاتهم التي ستباع بالمفرق، بحيث توضح (الملصقات) طبيعة المنتجات البلدية الخام أو المصنعة، فضلا عن توزيع نشرات توضيحية بسيطة مع المنتجات في "الحسبة" أو في المحلات التجارية. ولتعزيز هذا التوجه التسويقي المدروس والمنظم، لا بد من توفير بعض الخدمات الإرشادية والتدريبية للمزارعين ولأطر وجمعيات المزارعين وللوزارات والمؤسسات الرسمية ذات الصلة حول أفضل طرق وتقنيات ترويج وتسويق المنتجات المحلية.
ويُذكر أن المزارعين يتميزون تقليديا بالتوجه الفردي نحو التسويق، الأمر الذي يزيد من تكاليف الإنتاج والنقل والتسويق، وبالتالي يخفض كثيرا من الجدوى الاقتصادية لعملية التسويق. لذا، من الضروري تشجيع المزارعين على عملية الشراء الجماعية لمدخلات الإنتاج، فضلا عن عمليات التسويق الجماعية من خلال الوسطاء والتجار.
إن عقد صفقات تجارية جماعية للمزارعين، مع تجار المفرق أو الجملة سيرفع كثيرا الجدوى المالية لعملية التسويق، وسيخفض كثيرا من تكاليف النقل والتسويق، الأمر الذي يمنح المزارعين موقعا أقوى في عملية التفاوض مع التجار والوسطاء.
وعلاوة على ذلك، بالإمكان إقامة علاقات مباشرة بين المنتجين والمستهلكين. فعلى سبيل المثال قد تنظم بعض الأسر الفلسطينية نفسها كمجموعات من المستهلكين، وترتبط بشكل جماعي ومباشر مع المزارع أو مجموعة من المزارعين بحيث تدفع الأسر للمزارع مبلغا مسبقا مقابل إنتاج الأخير لمحاصيل بلدية وطبيعية.
كما أن مجموعة من المزارعين البلديين (العضويين) قد ينشئون، بشكل جماعي، شبكات تسويق أو مستودعات تخزين وتوزيع بالمفرق والجملة، خاصة بهم، بحيث تخدم احتياجاتهم التسويقية في المدن والأرياف.
وبهدف نشر وتعزيز هذا التوجه التسويقي الجماعي، فلا بد من توفير الخدمات الإرشادية والتدريبية للمزارعين ولأطر وجمعيات المزارعين والوزارات المعنية، حول المنافع والمزايا الكبيرة الكامنة في التسويق الجماعي، والتسويق المباشر من المنتجين إلى المزارعين، وقنوات التسويق المباشرة والخاصة بالمزارعين، بالجملة والمفرق.
يضاف إلى ما ورد أعلاه تنظيم زيارات جماعية متواصلة ومنتظمة لمجموعات من الأسر الفلسطينية وطلاب المدارس والجامعات في المدن والمخيمات (كمستهلكين) إلى منتجين محليين في حقولهم بهدف التعرف على طبيعة وجودة المنتجات الزراعية وشرائها مباشرة من المزارعين.
|