بين الكوارث المناخيّة وتلك السكانيّة
حبيب معلوف
بالتزامن مع الحديث عن الكوارث المناخية في قمم المناخ العالمية، هناك من ذكّر بشكل مباشر وغير مباشر بالكوارث السكانية التي لا تقلّ فداحة بالنسبة إلى الدول النامية. فما مدى صحة ترابطهما أو مساواتهما؟ بدأ الحديث عن "كوارث الزيادات السكانية" على المستوى الدولي منذ زمن بعيد. منذ بداية ظهور تلك العلاقة المعقّدة بين قضايا السكان والتنمية والبيئة (الموارد الطبيعية)، التي كانت ولا تزال تشكل حزمة واحدة من المشكلات والكوارث. من مؤتمر روما عام 1954 إلى مؤتمر بلغراد عام 1965، على مستوى الخبراء، إلى أول مؤتمر دولي للأمم المتحدة الذي عُقد في بوخارست عام 1974. منذ تلك المؤتمرات، لا يزال الصراع بين من يقول إن زيادة السكان ستصبح غير متوازنة بالنسبة إلى ديمومة الموارد، ومن يقول إن المشكلة في نموذج التقدّم الغربي الذي يدمّر الموارد أكثر من زيادة السكان. في حين أن علماء البيولوجيا والإيكولوجيا كانوا يستخدمون لغة أخرى، كأن تصبح المشكلة عندهم بين النوع الإنساني ونشاطه، والتنوّع البيولوجي وتهديده، لا بين السكان والموارد. وهو تمييز غير بسيط إذا ما تمّ الإقرار به، كمقدّمة للبحث في باقي مقوّمات الحياة ومشكلاتها. فهذا التعبير البيولوجي، الذي يعتبر الإنسان مجرد نوع من الأنواع، يضع حدوداً لتصرّفاته، ويترك للطبيعة أن تحدّد هي نفسها العلاقات والأدوار، أي العيش ضمن قوانين الطبيعة.
ليس النوع الإنساني هو النوع الوحيد الذي يعيش ضمن جماعات أو مجموعات. وأعداد بعض هذه الجماعات، النمل على سبيل المثال، أكبر بكثير من أعداد النوع الإنساني، وفيها تنوّع أكثر من التنوّع الإنساني، ومع ذلك لم تخرق في حياتها كلّ تلك السنين قوانين الطبيعة كما فعل الإنسان، قابلة بمصيرها الطبيعي بأن تأكل من غيرها من الكائنات وأن تؤكل من كائنات أخرى أيضاً.
القاعدة الأولى بالنسبة إلى النوع الإنساني التي كان يفترض البناء عليها، هي احترام قواعد الطبيعة وقوانينها، وعدم خرق التوازن مع باقي الأنواع. وعلى الجماعة الإنسانية أن تبني على هذا القانون الطبيعي باقي القوانين الإنسانية والسياسات الاقتصادية والسكانية والتنموية، على قاعدة أن يحترم النوع الإنساني التوازن الموجود بينه وبين باقي الأنواع، ويحافظ على التنوّع في طريقة حياته. إلا أن التعمّق في توصيف ذاك الخلل الذي حصل، إن على مستوى التوزيع السكاني أو توزيع موارد الأرض، قد بدأ فعلاً مع الزراعة بشكل جزئي، ومع الثورة الصناعية التي حصلت في الغرب بشكل أكبر وأشمل. هذه الثورة التي قامت في أساسها على تجاوز قوانين الطبيعة. صحيح أن تطوّر الصناعات وتقسيم العمل، ولا سيما مع تطوّر الأدوات واختراع الآلات ودخول المرأة إلى سوق العمل، قد قلّل من الولادات، إلا أن آثار هذا التطوّر والتقدّم كانت مكلفة جداً على الطبيعة وعلى ديمومة الموارد، بما لا يقاس مع الزيادات السكانية التي لو تُركت للطبيعة لصحّحت نفسها بنفسها من خلال الأمراض والأوبئة. فالتقدّم الذي حصل في الغرب لم يتوقف عند حدود الصناعات الثقيلة وفي قطاع النقل، بل امتدّ إلى الطب، لناحية ضبط الكثير من الأمراض وإنقاذ الكثير من الولادات، على الرغم من اختلاف الثقافات.
ضمن هذا المنطق، يمكن الادّعاء بأن الخطاب الديني المحافظ والمتحفّظ على ضبط الولادات لم تكن له الآثار الكارثية على الطبيعة، بالمقارنة مع خطاب التنمية الدولية المتمثل بتوجيهات البنك الدولي والوكالة الأميركية للتنمية الدولية(USAID) والمشاريع التنموية والاستثمارية للاتحاد الأوروبي والشركات العالمية المعولمة العابرة لحدود الأوطان والنوع… بوصفها خطابات تشجع زيادة الإنتاج والاستهلاك دون حدود، والتي تروّج أن المشكلة بين الجغرافيا والديموغرافيا، أي مشكلة "فيض سكان ونقص أرض"، وليس في طريق استثمار هذه الأرض.
إلا أن المشكلة بقيت في العمق بين خطين، يزايد أحدهما على الآخر، ويتسبّبان، وإن بطرق متفاوتة، بتدمير مقوّمات الحياة والتسبّب بكوارث لامتناهية. خط جماعة التنمية والتقدّم والاستهلاك الشره، صاحب البصمة البيئية التي تتحمّلها الطبيعة، والخط الذي يعاني من ازدواجية في الشخصية والمعايير، المبهور بفكرة التقدّم الغربية ويريد أن يحافظ على هويته الثقافية في الوقت نفسه! يريد نتائج التقدم العلمي الغربي لناحية استخدام المضادات الحيوية واللقاحات على أنواعها من جهة، ويعتبر أدوية منع الحمل تدخلاً في المشيئة الإلهية من جهة أخرى!
غالبية التوقعات الدولية تتحدث عن نمو سكاني يمكن أن يقارب العشرة مليارات بحلول عام 2050، وهو التاريخ نفسه الذي ستبلغ فيه الانبعاثات المناخية ذروتها أيضاً، حسب خطط الدول الطاقوية (وليس تعهداتها) ولا سيما تلك الناشئة منها مثل الصين والهند، البلدين الأكثر اكتظاظاً بالسكان والأكثر اعتماداً على الوقود الأحفوري والفحم الحجري.
هذا لا يعني، أن زيادة الانبعاثات مرتبطة بزيادة السكان، بقدر ما يعني أنّ تبني الدول الناشئة والنامية لنفس النموذج الحضاري الغربي، ولا سيما قيم التنمية الفردية والرفاهية والتقدم… وتبني نموذج المنافسة في اقتصاد السوق هما اللذان سيدمران الكوكب. وقد كتبنا منذ بداية التسعينيات، إذا أرادت الصين أن تتبنّى النموذج الحضاري الغربي لناحية نسب اقتناء السيارات الخاصة فقط، أيّ لكلّ فرد ونصف فرد سيارة، فإن هذا الكوكب لن يعود قابلاً للعيش. فالعالم اليوم قد ضاق بما يقارب المليار و400 مليون سيارة، فكيف ستكون الحال مع 6 و7 مليارات من السيارات (وبنيتها التحتية)؟!
من هنا يمكن الاستنتاج أخيراً، أن أهم معيار لمعرفة أي "نموذج حضاري" هو الأفضل للنوع الإنساني ولحفظ التنوع وديمومة مقوّمات الحياة على هذا الكوكب، على المستوى الدولي أو الإقليمي أو الوطني، هو استشراف وتوقّع ماذا سيحصل لو تبنّاه العالم أجمع.