مسار بيت دقو.. موسم العنب
خاص بآفاق البيئة والتنمية
|
أراضي قرية بيت دقو |
في بلدة بيت دقو، الواقعة شمال غرب القدس، تلتقي الطبيعة بالتاريخ في لوحة رائعة من الجمال والعراقة. بدأت رحلتنا عندما استيقظت قبل الفجر، مستعداً لمسار بيت دقو المليء بالإثارة. برفقة صديقي أبو أدهم، وصلنا إلى دوار المنارة في رام الله، ومن هناك انطلقت الحافلة باتجاه البلدة. كان الطريق هادئاً، مع أضواء الفجر الأولى التي بدأت تنير السماء.
عند وصولنا إلى بيت دقو، استقبلنا دليلنا أبو الأمير بحفاوة قائلاً: "أرحب بكم في بلدكم الصغيرة بيت دقو". وبدأنا الجولة من "أم الكاف"، وصعدنا باتجاه جبل بريطة الذي يطل على بيت دقو والقرى المحيطة مثل القبيبة وبيت عنان وبدو من الجنوب، وبيتونيا وقرية الطيرة من الشمال، وخربثا المصباح وبيت سيرا من الغرب.
ولكن قبل الانطلاق، كان أول ما لفت انتباهنا هو مشروع ترميم خان "قلعة سلمان العنيد"، الذي يقع بجوار عين سلمان في شمال البلدة. "نحن نَحيا للذكريات.. فتذكرنا بقلب راضٍ"، كلمات رغم قلتها، إلا أنها تحمل الكثير من المعاني، خصوصاً أنها مخطوطة على لافتة صفراء معلقة على جدار الخان، الذي أعيدت له الحياة بعد أن رممه المجلس القروي بدعم من الاتحاد الفلسطيني للهيئات المحلية بتمويل من الاتحاد الأوروبي، ضمن مشاريع المنح الفرعية لتنفيذ مبادرات تنموية اجتماعية واقتصادية في المناطق المسماة "ج".
سررت جداً مع غيري من المشاركين -البالغ عددهم ستين مشاركاً- بأعمال التطوير والتأهيل لهذه المنطقة السياحية، والتي أصبحت وجهة للمتنزهين في فصل الصيف للاستمتاع بالمشاهد الخلابة، والسباحة في بركتها، وعمل المشاوي على المناقل التي تم توزيعها في المنطقة، مع تزويدها بالمقاعد والطاولات في محيط ساحة "البلازا" التي تتوسطها بركة للسباحة.
أما مبنى الخان، فقد رُممت غرفتان منه، وبُلطت أرضيته ببلاط البورسلان المشابه لبلاط "الموزايكو" القديم، كما تم حمايته بالدرابزين المعدني وتنظيف وتكحيل الحجر من الداخل والخارج، وإزالة الركام وتنظيف باقي الغرف، التي سيتم ترميمها في مرحلة لاحقة.
|
|
اقواس رومية في قرية بيت دقو |
الاستيطان الاقتلاعي يتمدد ويفترس أراضي قرية بيت دقو والقرى الأخرى المجاورة |
مع خيوط الشمس
بدأنا الصعود في الطريق الترابي المؤدي لجبل بريطة، كنا نتسابق مع الشمس التي ما زالت مختبئة خلف التلال الشرقية، وبدأت ترسل خيوطها الذهبية على عناقيد العنب، لتضيء تماماً كالقناديل المتدلية وتذكرنا بأغنية فيروز "أعطني الناي وغني".
وصلنا القمة وكنا نرى خلفنا قرى بيت إجزا وبدو وبيت عنان وغيرها. سحب الضباب المنتشرة بدأت بالتصاعد والتلاشي في منظر بديع، مع سماع تغريد الطيور وصياح الديك ونباح كلب من بعيد. ونمر في أراض محروثة وفيها كروم مزروعة حديثاً ونبدأ النزول في الشارع المعبد، ويلوح أمامنا المشهد الرائع للبلدة التي نحبها، وننعطف نحو اليمين حتى نصل بيت أبو الأمير لتلاقينا زوجته بوجهها البشوش وابتسامتها العريضة. أمام المنزل طاولة عليها القهوة والعنب والتين والبطيخ وبعض الحلويات، ودائماً يقوم دليلنا بضيافة كافة أعضاء الفريق ويفتح بيته لاستقبالنا.
أشعر بشوق وحب لبلدة بيت دقو والتي انطبعت في ذاكرتي كبلدة الجاعونة المهجرة في قضاء صفد، فالمشهد الحضري للبلدة رائع، خصوصاً عند مشاهدتها من الفرندة في بيت صديقنا أبو الأمير والذي تزينه الأشجار والأزهار، فهي تتربع على تلة كاشفة لكل ما حولها، ولا يلوث المشهد إلا العمارات والبيوت لمستعمرة "بيسغات زئيف" التي سرقت أراضي بيت دقو وباقي القرى، ولوثت كل البيئة المحيطة بالمستوطنين.
يلاقينا أبو النور، وأبو العبد شقيق أبو الأمير، ليتجولوا معنا في مسارنا هذا، وبعد أن نشكر أم الأمير على الضيافة وتوثيق المشهد بالصور، نغادر المنزل نزولاً وننعطف يساراً بين المباني ونمر وسط أشجار الزيتون والتين ونقطف بعضاً منها، ونتابع النزول ومن ثم ننعطف يساراً وأمامنا بلدة القبيبة ونصل منطقة الظهر، ونبدأ النزول في طريق ترابية على جانبها أشجار الزيتون والتين وكروم العنب. ومن ثم نبدأ بالصعود في طريق معبدة ميلانها حاد باتجاه الشارع الرئيس للبلدة قرب المجلس القروي والمسجد ببوابته الحجرية وفيها قوس مدبب وفي وسطه قوس آخر على شكل زهرة.
|
|
الخان بعمارته البسيطة ويدعى قلعة سلمان العنيد ويقع بالقرب من عين سلمان شمال بيت دقو |
بلدة بيت دقو |
ندخل ساحة الفناء الداخلي وحولها مبنى مكون من طابقين، ومن الواضح أن هناك أعمال للترميم ستجرى عليه، والطابق السفلي عبارة عن أقواس رومية أغلق الجزء السفلي لبعضها بالطوب، والقسم الآخر مفتوح وتم إضافة جدران من الطوب على يساره، وهذا خرب المشهد العام للعمارة التراثية.
وبين هذه الأقواس درج خرساني. أما الطابق العلوي فواجهته حجرية مرصعة بفتحات شبابيك مقوسة بأقواس مدببة على شكل حذوة الفرس، ويتوسطها باب معدني أخضر.
نغادر المكان باتجاه عين جفنا في شمال غرب البلدة قرب خربة الملك جفنا. ما زالت آثار كرسي الحمام المنحوت في الصخر موجودة لأيامنا هذه. وللأسف لم نستطع الوصول للخربة نظراً لأن برنامج المسار مزدحم، إذ تحتاج زيارة الخربة مساراً خاصاً وفقاً لكلمات "أبو النور" ابن بلدة بيت دقو.
نصل عين جفنا بعد أن نزلنا في الطريق الترابية الوعرة والتي احتاجت منا الانتباه الشديد اثناء المشي. نأخذ استراحة في المكان ونغادره باتجاه واد سلمان.
هذا الواد مشهور بنمو نبات الشومر البري، وعلى يمينه كروم عنب وأشجار اللوزيات وتمتد لكيلومترات، لكننا لاحظنا وجود صوت خرير مياه في الواد، ونراها لأول مرة. تبين أن المستوطنين في مستعمرة "بيسغات زئيف" يستغلون أوضاع الحرب الظالمة على قطاع غزة، وعدم وجود قانون يردعهم بعد أن سمحت لهم حكومتهم بالتصرف في أراضينا المحتلة، فقاموا بفتح مياه الصرف الصحي على الوادي ملوثين أركانه بالرائحة النتنة وبالأضرار البيئية لكل الأراضي المجاورة.
|
|
خربة الملك جفناو آثار كرسي الحمام المنحوت في الصخر |
خلال المسار البيئي في قرية بيت دقو |
نسير قرب بركس أقيم حديثاً عبارة عن مزرعة للأبقار والخراف لمواطن من قلنديا قام بشراء الأرض، إذ سيبدأ في الإنتاج قريباً، ويبدو أن ظروف الحرب أخرت المشروع، كما قال دليلنا أبو الأمير.
نصل الجسر فوق مجرى الوادي وننعطف نحو اليمين للوصول لعين سلمان والقلعة فوق الجبل. نرى أن هناك تطويراً في المنطقة، وأنه تم إقامة غرفة مرحاض، إضافة إلى ترميم جزء من الخان وإحاطة البركة بسياج من الشادر. بعضنا بدأ السباحة، والآخرون -وأنا منهم- وضعنا أقدامنا في المياه الباردة، بعد أن اغتسلنا وشربنا من مياه العين العذب. وعند مغادرتها تفاجئنا بحضور مجموعة شطحة والتقينا بالأستاذ إياد الرفيدي وصديقنا داوود الصالحي وآخرين جاءوا لدعم المزارعين في بيت دقو.
وبعد أن تناولنا وجبة الفطور توجهنا نحو ساحة البلدة في طريق صاعدة. بدأت حرارة الشمس بالارتفاع رغم أن الوقت كان مبكراً. الصعود لم يكن سهلاً في مقطعه الأول، لكننا وبعد استمتاعنا بالإطلالة الرائعة على موارس العنب والزيتون، شعرنا بالفخر بالمزارعين الصامدين في بلدة بيت دقو، رغم كل المضايقات الاحتلالية بالمصادرة والتهويد لأراضيهم الزراعية.
|
|
عمارة تراثية في قرية بيت دقو وبين أقواسها درج خرساني |
قرية بيت دقو |
بيت دقو.. جذور ضاربة في التاريخ
بيت دقو تلك البلدة الوادعة تمتاز بنظافتها ورقي أهلها وكرمهم، وتشتهر بالزراعة خصوصاً العنب بكل أنواعه وأشكاله. هي إحدى قرى شمال غرب القدس وتبعد عنها 13 كم. وهي آخر قرية من قرى غرب القدس حيث تنتهي الطريق اليها، إذ تحاصرها المستوطنات وتصادر أراضيها كمستعمرة "جيفعات زئيف" والتي تكبر يوماً عن يوم، وقطعان المستوطنين فيها يشددون الخناق على أهالي بيت دقو ويعيثون في الأرض فساداً وتدميراً، واستغلوا الحرب الشعواء على أهلنا في القطاع ليقوموا بمصادرة أراض إضافية من بيت دقو، وبلدة الطيرة المقابلة لها، وقاموا بفتح مياه الصرف الصحي على وادي سلمان، للإضرار بالبيئة وتلويث مزروعات القرية.
أما سبب تسمية بيت دقو بهذا الاسم فهو تحوير من بيت الدقَاق، كون الشيخ عمر الدقاق مؤسس القرية كان من المتصوفة الذين استخدموا في بيوتهم عدة الصوفية وكان يعرف بوجاهته في المنطقة. جاءها السكان في القرن التاسع عشر من حوران من قرية تدعى أم الولد في سوريا. للقرية تاريخ نضالي في محاربة الإنجليز ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وقدمت العديد من الشهداء على درب الحرية والتحرير.
|
|
متنزه تراثي-سياحي في أحضان الطبيعة في قرية بيت دقو |
متنزه تراثي-سياحي في قرية بيت دقو |
مهرجان العنب
نصل مكان التجمع عند مبنى المسجد والمجلس القروي والذي تزيته لوحة بأسماء شهداء بيت دقو. وبعد أن حضرت الحافة توجهنا لسوق العنب على المدخل الشرقي للبلدة، واشترينا ما لذ وطاب من العنب واللوز الفريك والعسل والدبس وغيرها دعماً للمزارعين.
تحت شعار "خلي زادك من زرع بلادك" تم افتتاح مهرجان سوق العنب الشعبي بنسخته الثالثة، خلال شهر آب/أغسطس. المهرجان محاولة تسويقية ذات رسائل مختلفة تهدف لحماية منتج العنب من خطر التلاشي في ظل استمرار غزو الخنازير البرية لحقول المزارعين، وانتشار الأمراض التي تفتك بهذا المحصول.
|
|
متنزه قرية بيت دقو |
مهرجان العنب في قرية بيت دقو |
يستغل المزارعون الحدث لرفع صوتهم ونقل رسالة مفادها بأنهم ما زلوا صامدين، رغم أن الزراعة في القرية تعاني من أزمة وتراجع، كما أنه فرصة لجذب الزوار إلى القرية.
دار في ذهني سؤال: لماذا يتم استخدام الكراتين من إنتاج إسرائيلي مع أننا نقاطع منتوجات العدو؟ سؤال برسم الإجابة من الجهات المسؤولة. لماذا لا يتم انتاج صناديق من مصانع الكرتون الفلسطينية المنتشرة في كل مدن الضفة ومكتوب عليها انتاج فلسطيني، أم أن هذا بحاجة لموافقة خاصة؟!
غادرنا بيت دقو في طريق العودة لرام الله بعد أن شكرنا أبو الأمير وأبو النور وأبو العبد وأهالي البلدة على كرمهم وحسن ضيافتهم، ونشكر عب الفتاح حجة على جهوده في تنسيق المسارات واختيار الوقت المناسب لها.
موقع عين سلمان الأثري في قرية بيت دقو