موجات حر حارقة تضرب الأرض.. هل هي القبة الحرارية أم ظاهرة النينيو المرعبة؟
خاص بآفاق البيئة والتنمية
البشرية أمام خياران؛ إما التعاون أو الهلاك؛ فإما أن يكون تعاهدًا على التضامن المناخي أو تعاهدًا على الانتحار الجماعي. نحن الآن نسلك الطريق السريع نحو الجحيم المناخي، وندوس بقوة، لنعاجل نحو النهاية الرهيبة. فما الذي يجري بالضبط على كوكب الأرض؟ هل الأرض تغلي أم أننا قد دخلنا مرحلة عدم العودة؟
|
 |
النينيو تتسبب في ابيضاض الشعب المرجانية |
"متوسط حرارة الصيف في أيامنا هذه كان يُعد صيفاً حاراً قبل عدة عقود. وعلى نحو مماثل، فإن الصيف الحار اليوم سيصبح متوسط الحرارة بعد بضعة عقود من الآن مع الاحترار العالمي المتصاعد".
وبحسب تقارير المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، فإن متوسط درجة الحرارة العالمية لشهر يوليو/ تموز 2023 بلغ أعلى مستوى سُجّل على الإطلاق.
وأشارت الأدلة إلى أنه كان الأكثر احتراراً منذ 120 ألف سنة على الأقل، بالاستناد إلى تحليل بيانات رواسب الكهوف، والكائنات المتكلسة، والشعاب المرجانية والأصداف.
المنظمة ذاتها أعلنت أن الأسبوع الأول من يوليو/ تموز 2023 كان الأكثر دفئاً على الإطلاق، وحطَّم الرقم القياسي السابق المسجل في أغسطس/آب 2016، فما الذي يجري بالضبط على كوكب الأرض؟ هل الأرض تغلي أم أننا قد دخلنا مرحلة عدم العودة؟
في افتتاحية مؤتمر الأطراف حول المناخ (COP 27) في مصر، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، حذر أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة قائلاً: "البشرية أمام خياران؛ إما التعاون أو الهلاك؛ فإما أن يكون تعاهدًا على التضامن المناخي أو تعاهدًا على الانتحار الجماعي. نحن الآن نسلك الطريق السريع نحو الجحيم المناخي، وندوس بقوة، لنعاجل نحو النهاية الرهيبة".

القبة الحرارية التي ضربت المناطق العربية في الثلث الأخير من شهر تموز
القبة الحرارية.. قبعة من حرارة حارقة تجثم فوق منطقة جغرافية
زادت موجات الحرارة الشديدة في الطول والتكرار في جميع أنحاء العالم، وضاعف من سوئها حدوث القباب الحرارية رغم أنها ليست ظاهرة جديدة وفق الدراسات العلمية والخبراء.
وعندما تتحد الظروف الجوية القوية ذات الضغط العالي "القبة الحرارية" مع تأثيرات أخرى كظاهرة النينيو، فإن ذلك يزيد كثيراً احتمال تحطيم الأرقام القياسية لدرجات الحرارة، في أجزاء كثيرة من العالم وفي المحيطات.
يصف مصطلح القبة الحرارية أنظمة الغلاف الجوي عالية الضغط التي تتسبب في دفع الهواء الدافئ إلى السطح والاحتفاظ به هناك لفترات طويلة من الزمن، حيث تحبس القبة الهواء "عالي الضغط" في مكان واحد، وتعمل كأنها غطاء قِدر، هذا الغطاء يمنع الهواء الساخن من الصعود والتيارات الهوائية الباردة من النزول في الوقت الذي يسمح بنفاذ أشعة الشمس التي تعمل على مزيد من تسخين تلك المنطقة.
تؤدي هذه المناطق الكبيرة من الهواء الساخن تحت قباب الحرارة إلى مزيج من درجات الحرارة الشديدة التي تُجفف الأرض، وتتسبب في نشوب حرائق الغابات المدمرة، والجفاف الشديد، ويستمر الهواء الساخن المحبوس في مفاقمة الظروف الحارة على الأرض، التي يمكن لتأثيراتها أن تبقى لأيام أو أسابيع بسبب دورة التغذية المرتدة لارتفاع درجات الحرارة، حتى يتلاشى نظام الضغط العالي.
الناس والمحاصيل والحيوانات الموجودين تحت ظلال هذه القباب الحرارية يعانون ثبات الطقس، والهواء الساخن، ويجعلهم يشعرون كأنهم يعيشون داخل فرن.
يعود تشكُّل القباب الحرارية إلى أسباب مختلفة أهمها الاحتباس الحراري الذي يعمل على إضعاف التيار النفاث المار عبر المحيطات (التي عادة ما تنقل البرودة والحرارة وتوزعها على جميع أنحاء الكوكب)، وزيادة تأثير الضغوط الجوية العالية على إحداث اضطرابات في أنماط دوران الرياح حول الأرض.
إضافة إلى سخونة مياه أسطح المحيطات والبحار، حيث تتبخر مياهها بسبب الحرارة، فيسخن الهواء أعلاها، لكن نظام الضغط المرتفع داخل القبة الحرارية الجاثمة فوقها يحتجز هذا الهواء الساخن المحمل بالرطوبة؛ فينتج عنه درجات حرارة أكثر ارتفاعاً على السطح.

ظاهرة النينيو
"النينيو" والتذبذب الجنوبي والحرارة اللاهبة
في الوضع العادي: تتحرك الرياح التجارية المعتادة في المحيط الهادئ حول خط الاستواء من ناحية الشرق( أميركا) باتجاه الغرب(أستراليا وآسيا)، وتسحب الرياح معها كميات هائلة من المياه السطحية الدافئة نحو الغرب، من السواحل الاستوائية لأميركا اللاتينية (الإكوادور والبرازيل وكولومبيا) إلى سواحل أستراليا وإندونيسيا، يندفع محل هذه المياه الساخنة على طول السواحل الأمريكية مياه باردة ترتفع من عمق المحيط، فتلّطف الجو وتتسبب في تساقط الأمطار( وتسمى فترة التبريد)، أما في مناطق أُستراليا وإندونيسيا فيحدث قليل من الجفاف مع قدوم المياه الساخنة.
وفي حال اشتداد هذه الرياح، تسحب معها كميات أكبر من المياه الساخنة، ويحدث تبريد كبير في مياه المناطق الأميركية وهو ما يُسمى "النينيا"، وفي الناحية الأخرى (أستراليا وإندونيسيا) يحدث حر شديد وجفاف في المقابل، ويستمر هذا الحال بمعدل ثلاث سنوات، تعود بعدها الرياح المعتادة الهادئة (تسمى بالفترة المحايدة).
يتبع ذلك فترة ينعكس فيها كل شيء، نسميها "النينيو" التي تفشل فيها الرياح التجارية في إزاحة مياه السطح الساخنة. فينعكس النظام الجوي لهذه المنطقة الواسعة كاملة، يظهر الجفاف في إندونيسيا وأستراليا، وتعم الفيضانات أميركا اللاتينية، وتقل الثروة السمكية على شواطئ بيرو، والإكوادور، وكولومبيا، وتتضرر المحاصيل الزراعية ويتأثر الاقتصاد العالمي.
ظاهرة النينيو والتذبذب الجنوبي: النينيو ظاهرة مناخية عملاقة، يحدث فيها تحول دوري في درجة حرارة المحيط (النينيو) وينخفض الضغط في الغلاف الجوي العلوي (التذبذب الجنوبي) عبر المحيط الهادئ الاستوائي، تستمر من تسعة أشهر إلى عامين، وترتبط بالفيضانات والجفاف والاضطرابات العالمية الأخرى.
وقد لاحظ عالم الأرصاد الجوية الإنجليزي جيلبرت ووكر أن ظاهرة النينيو تحدث بالتزامن مع التذبذب الجنوبي في علاقة عكسية، فعندما تصبح المياه أكثر دفئاً في شرق المحيط الهادئ الاستوائي ينخفض الضغط الجوي فوقه.
تحدث ظاهرة النينيو نتيجة تغير مؤقت وعنيف في درجة حرارة الجزء الشرقي من المحيط الهادئ على طول خط الاستواء، وتؤثر الظاهرة في سرعة وقوة التيارات البحرية، وصحة مصايد الأسماك الساحلية، والطقس المحلي في أماكن متفرقة من العالم، فتتسبّب بتأثيرات متباينة على مناطق كثيرة ومنها الكوارث الطبيعية.

يعمل الدوران عالي الضغط في الغلاف الجوي مثل القبة أو الغطاء، يحبس الحرارة على السطح ويفضل تكوين موجة حرارية
تقترن ظاهرة النينيو عادة بزيادة متطرفة لكميات الأمطار التي تهطل على أجزاء من المناطق الجنوبية لقارة أميركا الجنوبية وجنوب الولايات المتحدة والقرن الأفريقي وآسيا الوسطى.
وفي المقابل، تتسبب في حدوث موجات جفاف متطرفة أيضاً فوق أستراليا وإندونيسيا، وأجزاء من المناطق الجنوبية من آسيا وأميركا الوسطى، والمناطق الشمالية من أميركا الجنوبية.
عندما تكون ظاهرة النينيو شديدة، تتعطّل حركة الدوران الجوي العالمي، وهي حركة واسعة النطاق للهواء، تساعد على توزيع الحرارة عبر سطح الأرض.
تتسبب شرقًا في طقس شتوي قاسٍ بشكل غير عادي عند خطوط العرض العليا في أميركا الشمالية والجنوبية، وقد تشهد المناطق الواقعة في أقصى الشمال في الولايات المتحدة فصول شتاء أطول وأقسى برودة.
 |
 |
النينيو تتسبب في الجفاف |
النينيو.. الأرض تغلي وتحترق |
هل النينيو ظاهرة حديثة؟
تمتد جذور ظاهرة النينيو إلى زمن بعيد، إلى عصور ما قبل الميلاد، حيث اكتُشفت بصمات كيميائية للبحار، دفئاً وزيادة هطول الأمطار في عينات المرجان ومؤشرات المناخ القديم الأخرى منذ العصر الجليدي الأخير.
وافترض علماء الأرض والمؤرخون وعلماء الآثار أن ظاهرة النينيو كان لها دور في زوال أو تعطيل عديد من الحضارات القديمة، بما في ذلك حضارة الموتشي والإنكا وثقافات أخرى في الأميركيتين، ما حدا بهم إلى الاعتقاد بأن نجاح الغزو الإسباني للإنكا وبيرو قد يكون مدعوماً بظروف النينيو، في حين أن القرن السادس عشر هو التاريخ المسجل لظاهرة النينيو، مع وصول الأوروبيين إلى العالم الجديد.
في ثلاثينيات القرن العشرين، أطلق الصيادون في الإكوادور وبيرو على تلك الظاهرة اسم النينيو وهي كلمة إسبانية وتعني "الولد الصغير أو ابن المسيح"، لأنها تظهر قرب أعياد الميلاد، وتجعل المحيط الهادئ أكثر دفئاً، وتُغير اتجاه التيار في المحيط فتقل الأسماك قلة ملحوظة، وهو ما يدعو الصيادين لقضاء هذه الفترة في البيوت مع أسرهم، وهي المرحلة الساخنة، وتحدث كل ( 2-7 سنوات) وتشهد ظهور المياه الساخنة على السطح قبالة سواحل أميركا اللاتينية، وتنتشر عبر المحيط، دافعةً كميات كبيرة من الحرارة إلى الغلاف الجوي.
أسباب قد تؤدي إلى تطرف مثل هذه الظواهر الطبيعية
ظاهرة النينيو ليست ظاهرة جديدة على كوكب الأرض، والقباب الحرارية كذلك، لكن، ما الذي حدا بها إلى إظهار هذا السلوك المتطرف الذي تبدو به في أيامنا هذه؟
ورد في تقرير لموقع ( the conversation) العلمي، بأنه يمكن لظاهرة النينيو القوية أن تضيف ما يصل إلى 0.2 درجة مئوية إلى متوسط درجة حرارة الأرض، إضافة إلى اتجاه ظاهرة الاحتباس الحراري، وهو ما يفسر ازدياد اتجاه موجات الحر إلى الظهور بصورة أكثر تواتراً وأطول أمداً وأقسى شدة، لتصبح السمة المميزة لحالة الطوارئ المناخية التي نتجت عن حرق البشر الوقود الأحفوري وإطلاقهم الغازات الدفيئة، التي زادت الطين بلة وجعلت الكوارث الطبيعية تتزايد إلى حد كبير، خاصة مع انعدام الرغبة السياسية في الالتزام بالاتفاقيات الموقعة لتقليل الانبعاثات. عدا عن المشكلات الاقتصادية التي يواجهها كثير من دول العالم، ما جعل من المتوقع للمناطق الأفريقية والآسيوية أن تشهد تغيرات مناخية أكثر، خاصة مع صعوبة تأقلم هذه المناطق مع هذه التغيرات وعدم اتخاد إجراءات للتعامل السليم معها.
مع أن أفريقيا لم تسهم إلا قليلاً في تغير المناخ، ولم تولّد سوى جزءًا ضئيلًا من الانبعاثات العالمية، لكنها قد تكون المنطقة الأكثر حساسية في العالم بسبب ارتفاع مستويات الفقر، وانعدام الأموال والسلع والخدمات لمواجهة ما يحدث، ما سيزيد من صعوبة التكيف مع التغيرات المناخية التي تؤثر في الإمدادات الغذائية وسبل العيش.
 |
 |
ظاهرة النينيو تزيد خطر المجاعات والأمراض |
ظاهرة النينيو تسبب العواصف القوية والفيضانات |
ما الأثر الذي ينعكس من هذه الظواهر المتطرفة على المجتمعات البشرية والبيئة؟
تزامنت ظاهرة النينيو في هذا العام- كما أوردنا سابقاً- مع ارتفاع درجات حرارة أقسى وأشد تأثيراً، بشكل لم يسبق لها مثيل.
ونتيجة مباشرة لتلك التغيرات الشديدة، فمن المتوقع أن تنتشر عديد من الفطريات والبكتيريا والفيروسات التي تصيب الإنسان والحيوان والنبات، فتغدو أمراضاً معدية تصيب الإنسان مثل التهاب الكبد الوبائي، والتيفوئيد، والكوليرا، والملاريا وحمى الضنك (خاصة في المناطق التي تكون عرضة لكوارث الفيضانات)، فضلًا عن ظهور أوبئة تضر بالإنتاج الحيواني وتُهلك المحاصيل الزراعية.
وفي كل مرة تحدث فيها ظاهرة النينيو يتردد صدى عواقب فشل المحاصيل في جميع أنحاء العالم.
وساعد هذا الجو المتطرف أيضاً على انتشار البعوض والفئران والثعابين، وتكرار هجوم أسماك القرش على مناطق ساحلية مثل ساحل أوريجون في الولايات المتحدة.
كما تجف غابات الأمازون المطيرة في ظاهرة النينيو، ويتباطأ نمو النباتات في الغابات الاستوائية في أفريقيا والهند وأستراليا ما يجعلها تمتص كميات أقل من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي.

ما يحدث في العام العادي وعام النينو
وتعد الحرارة الشديدة، خاصة إذا استمرت لفترة طويلة، خطرة للغاية وربما مميتة للإنسان، فهي تُعد السبب الأول "للوفاة المرتبطة بالطقس" في الولايات المتحدة، وأخطر ما تكون على الأطفال وكبار السن، والأشخاص الذين يعانون جراء حالات صحية مثل الربو وأمراض القلب، كما تتسبب الأعاصير والفيضانات في وفيات بشرية أكثر.
وفي نهاية هذا التقرير المخيف، نشير إلى خلاصة ما توصلت إليه دراسة بحثية، نُشرت في مجلة "ساينس" للجمعية الأميركية لتقدم العلوم، والتي ذكرت أن "النينيو" تسببّت في خسائر تقدّر بتريليونات الدولارات للاقتصاد العالمي.