خاص بآفاق البيئة والتنمية
يقارن التقرير التالي، عبر مختصين، ومسؤولين، وأكاديميين، بين المباني القديمة التي شيدَها الأجداد، ونظيرتها الجديدة التي يطغى عليها الإسمنت، من حيث تحملّهما للأجواء الاستثنائية، ونقاط قوتهما وضعفهما أمام التهديدات المناخية التي يشهدها العالم. ويقف مراسل "آفاق البيئة والتنمية" على طبيعة المواد المستخدمة في النمطين، ودرجة صداقتهما للبيئة، ومدى قدرتهما على مواجهة الهزات الأرضية.
|
|
نمط معماري فلسطيني قديم |
يطرح الارتفاع غير المعهود في درجات الحرارة، أسئلة عديدة حول أنماط المباني في فلسطين، ومقومات صمودها في وجه التغيرات المناخية والظروف الجوية المتطرفة.
في هذا التقرير، نقارن عبر مختصين، ومسؤولين، وأكاديميين، بين المباني القديمة التي شيدّها الأجداد، ونظيرتها الجديدة التي يطغى عليها الإسمنت، من حيث احتمالهما للأجواء الاستثنائية، ونقاط قوتهما وضعفهما أمام التهديدات المناخية التي يشهدها العالم.
كما نقف على طبيعة المواد المستخدمة في النمطين، ودرجة صداقتهما للبيئة، إضافة إلى مدى قدرتهما على مواجهة الهزات الأرضية.
ليندا الخطيب المنسقة في المجلس الأعلى للبناء الأخضر في نقابة المهندسين
نقابة المهندسين: عيوب كثيرة للإسمنت
تستهل ليندا الخطيب، المنسقة في المجلس الأعلى للبناء الأخضر في نقابة المهندسين، حديثها بذكر مزايا النمط المعماري القديم، قائلة: "يمتاز بجدران خارجية يتفاوت سمكها من 80 إلى 120 سم، وبنوافذ علوية وجانبية تسمح بتحريك الهواء، وبقباب نصف كروية تسمح للهواء بالتحرك بسلاسة، ما يساهم في بناء مريح للاستخدام، دون الحاجة لوسيلة تلّطف الأجواء.
وفي المقابل، تشير إلى "المأخذ الأهم" على النمط القديم وهو أنه يتطلب حيزًا كبيرًا، فضلاً عن صعوبة "التحميل الإنشائي" وبناء طوابق أعلاه.
في حين، تفتقد المباني الإسمنتية الحديثة إلى روح الجمال، إنها "مستعمرات بلا روح إبداعية"، وتشبه "علب الكبريت"، ويُستخدم الحجر فيها منظرًا ولا يدخل في إنشائها، حسب قولها.
وتؤكد الخطيب، التي تتولى مسؤولة تصميم البرامج التدريبية في النقابة، أن من عيوب الإسمنت والحجر المستعمل حاليًا احتفاظها بدرجات الحرارة، فتصبح باردة شتاءَ وحارة صيفًا، وتحتاج إلى طاقة كبيرة، ويكلف عزلها عن محيطها مبالغ باهظة.
إهمال يطال المباني الفلسطينية القديمة
الأنماط القديمة "ابنة بيئتها" من حيث المواد المستخدمة فيها، موضحة ما تعنيه عبارتها: "تلك المواد كانت تتكون من الطين والحوّر والتبن "القش المطحون"، على عكس المباني الحديثة، التي تقوم على نزعة الربح، ويرفض مالكوها استخدام خامات طبيعية لارتفاع كلفتها، بينما استخدام الأخشاب مكلف وصعب المعالجة، ويحتاج عزلًا جيدًا، وتنقصه الخبرة والأيدي العاملة في إنشائه.
وتطرقت إلى وجود محاولات في أريحا لبناء مختلف، على غرار البيوت الطينية والقباب، إلا أنها لم تنتشر على نطاق واسع، معقبّة: "لقد تغيَّر التفكير الهندسي الحالي، الذي ما عاد يهتم في غالبيته بالراحة، أو مراعاة توزيع دخول الهواء إلى المبنى أو غرس أشجار في محيطه، بل تغلب عليه "النزعة المادية"، وهذا ينعكس سلباً على المباني القديمة بهدمها وإقامة بنايات حديثة مكانها.
وحثت الخطيب على تشجيع المواطنين عبر وسائل الإعلام على تبني الأنماط المعمارية القديمة، بعرض مميزاتها، ومقارنة درجة استهلاك الأنماط الحديثة للطاقة والماء بالقديمة.
|
|
جدران قديمة |
مبان فلسطينية قديمة |
أكاديمي: كفاءة العمارة التقليدية أعلى
"العمارة التقليدية ذات كفاءة أعلى و"ارتياح حراري"، بفضل طبيعة المواد المستخدمة فيها، التي لديها قدرة تخزينية عالية للحرارة، فكانت الحجارة سمكها كبير، إذ يستغرق تسخينها بواسطة الشمس وقتًا، وبالتالي تُخزّن الحرارة ويمنع مرورها إلى داخل البيت، لذا كانت المباني باردة صيفًا، ودافئة شتاء" يقول د. مهند الحاج حسين، عميد كلية الهندسة في جامعة النجاح الوطنية.
مهند الحاج حسين عميد كلية الهندسة في جامعة النجاح الوطنية
وأضاف أن سُمك جدران العقود القديمة- الفترة السابقة لإدخال جسور الحديد للمباني- كان يتفاوت من 50 إلى 100 سم، وكان التركيز على الجدران الحاملة المكونة من الحجر والطين والشيد "الجير" والقش، فيما الوقت الذي تستغرقه الحرارة للوصول إلى الداخل يتفاوت من 8 إلى 12 ساعة، وهنا نلاحظ برودة المباني نهارًا، ودفئها ليلًا.
ويذكر أن فتحات المباني القديمة وإطلالتها للخارج كانت أقل مساحة وبأقل عدد ممكن، ما يعني السيطرة على أشعة الشمس التي تدخل مباشرة إلى المبنى، وفي حال زادت مساحة النوافذ تُظلل بمشربيات وإطارات الخشب التي تُفتح للخارج وتنقي أشعة الشمس، كما كانت النوافذ تُوضع على الحرف الداخلي للجدار وليس الخارجي؛ لأن عمق الجدار يُحدث تظليلًا على النافذة.
وبمزيد من التفاصيل، يخبرنا عميد كلية الهندسة أن الفراغات في السقف كانت عالية، تتجاوز ثلاثة أمتار ونصف (اليوم نحو 270 سم)، فالحرارة الداخلية كانت تنتقل إلى سطح السقف، كما انتشرت الطاقات "الروزنات" المرتفعة، التي كانت تهرّب الهواء الساخن.
ويوضح:" أثرَّ تحدب القبة وطلاؤها بألوان زاهية على عكس أشعة الشمس الساقطة عليها، ومنع عموديتها، وساعد التحدب الداخلي للقباب على تخزين الهواء الساخن وتهريبه من النوافذ العلوية."
وأشار إلى أن العزل في البناء الحديث جديد، وليس شائعًا، وهو إما من الخارج أو من منتصف الواجهة، أو من الداخل.
ويرى أن التغير المناخي الذي نعيشه، وتأخر المطر، وتبكير موجات الحر وطولها، يتطلب منا "معالجات حرارية" تتماشى مع هذا الواقع، وتراعي أهمية العزل في المباني وسماكة الواجهات وألوانها.
نمط معماري حديث قيد التشييد
وأفاد أن الإسمنت الحالي موصّل للحرارة بدرجة أعلى من المواد المستخدمة قديمًا، ولا يمكن حاليًا زيادة سماكة الجدران والسقف إلى 60 سم لأن ذلك مكلف، ويُلجأ إلى طرق أخرى منها عزل الهواء، للوصول إلى بدائل عن سماكة الجدران.
ويتحدث د. الحاج حسين عن وجه مقارنة آخر، بقوله: "أجدادنا كانوا يعيشون في مبانيهم لحاجتهم الشخصية "، لكن البيوت الحالية في غالبيتها استثمارية، وتهتم في معظمها بالأرباح أكثر من راحة المستخدم، ولا تراعي الراحة الحرارية والبيئية والضوئية".
وتبعًا لحديثه، يرتفع استهلاك المباني الحديثة للطاقة؛ لوجود مناطق فيها لا تصل الشمس إليها، لاكتظاظ البنايات.
وبسبب تهديد "تغير مناخي" أعلى مما هو محتمل، فإن المباني القديمة في منطقة مثل الخليج لم تعد قادرة على تحمل الأجواء، وهو ما يدفعنا إلى الاستخدام الذكي لتقنيات التبريد والتدفئة لتكون أقل استهلاكًا للطاقة، والتوجه للطاقة النظيفة.
ووفق الحاج حسين، فإن المباني القديمة القائمة تأثرت بالتغير المناخي، وصارت تحتاج لتبريد وتدفئة؛ بسبب المباني المحيطة بها، واختلاف البيئة حولها، والاحتباس والانبعاث الحراري، وتشكّل "الجزر الحرارية" داخل المدن، جراء الاحتباس الداخلي، وعوادم المركبات، لكن بالرغم من كل التطورات، تبقى البيئة الداخلية للبلدات القديمة أفضل من الحديثة.
وشدّد في نهاية حديثه على أهمية إعادة النظر في طبيعة مواد البناء وتطويرها، بحيث تكون محلية، تخدم بيئتنا وتقلل تكلفة الاستيراد، فيما يستدعي الأمر أنظمة وقوانين ومواصفات خاصة كالعزل والارتياح الحراري ومقاومة الزلازل، والتوجه نحو مصادر الطاقة النظيفة.
جلال الدبيك مدير وحدة علوم الأرض وهندسة الزلازل في جامعة النجاح الوطنية
مبانٍ تاريخية تفوّقت على الجديدة أمام الزلزال
بدوره، يقول جلال الدبيك مدير مركز التخطيط الحضري والحد من مخاطر الكوارث، ومدير وحدة علوم الأرض وهندسة الزلازل في جامعة النجاح الوطنية، إن مقارنة قدرة الأنماط التقليدية والجديدة على مقاومة الزلازل، ينبغي أن يتم في المباني المبنية حسب الأصول والمعايير في النوعين، في أثناء إنشائهما.
ويؤكد في السياق نفسه: "في الأصل أن تكون المباني الجديدة أكثر قدرة على مواجهة الزلازل، إلا أن جزءًا من المباني التاريخية في بعض الدول تضرّر أقل من مثيلتها الحديثة، كون الأخيرة لم تلتزم بأصول التصميم الزلزالي".
وما يقلل قابلية إصابة المباني القديمة هو "تماثل شكلها"، حسب قوله، مستدركًا: "لكن الجانب السلبي فيها وزنها، فكلما زاد ارتفعت قابلية إصابتها، ومن ثغراتها عدم وجود "عناصر تربيط" بينها لمقاومة قوى الشد".
عقد الصوافطة في طوباس
وتبعًا لـلدبيك وهو نقيب سابق للمهندسين، فإن مباني فلسطين التي كانت قائمة عام 1927، وتُسمى "التاريخية" كانت عرضة لهزات أرضية أثرّت بوضوح على بعضها، وبعضها الآخر صمد نظرًا لتماثلها وطريقة تنفيذها، حيث قاوم الزلزال، وذلك يعني أن هذه المباني تفوقت إيجابياتها على سلبياتها.
"لو – لا قدّر الله - حدث زلزال عنيف هل برأيك ستتأثر المباني التاريخية؟".. يجيب عن سؤال مراسل "آفاق البيئة والتنمية": "نعم، وذلك لعدم صيانتها ومرور وقت طويل على بنائها، ومن المرجح أن تتضرر أيضًا بعض المباني الحديثة إلى حد كبير، لعدم التزامها بمعايير التصميم والتنفيذ".
مضيفًا: "جودة المباني القديمة، كانت محكومة "بنمط إنشائي" يتوقف تضرره من الزلازل على شكل المبنى، والمواد المستخدمة فيه، وطبيعته، وقدرة مالكيه المادية، فإما أن يكون بسيطًا للفقراء، أو أكثر متانة للأغنياء".
وأبدى إعجابه بجودة بعض المواد المستخدمة قديمًا التي وصفها بــ "الفطرية ودون فكر هندسي"، عادًا أن سوء بعض المباني الجديدة يحدث بسبب الغش المقصود، والجهل، وعدم المعرفة، بل الإصرار على عدم المعرفة، حسب تعبيره.
وأشار إلى "نظام الإشراف الهندسي الإلزامي" في نقابة المهندسين، الذي صدر عن المجلس التنظيمي الأعلى نهاية عام 2019، وصادق عليه مجلس الوزراء في نيسان 2020، حيث خضع 900 مهندس للتدريب، وجرى استحداث "الضابطة الهندسية"، التي شددت على واجب النقابة، والبلديات، والدفاع المدني، ووزارة العمل بشأن متابعة الإشراف الهندسي، وربطته بــ "إذن الإشغال"، بمعنى أنه إذا لم يطابق المبنى المواصفات سيُمنع استخدامه.
أحمد القاضي نقيب المقاولين
اتحاد المقاولين: الحل في الأبنية الخضراء
يرى أحمد القاضي نقيب المقاولين أن لفلسطين تاريخًا طويلًا في مجال العمارة، التي مزجت بين الأنماط القديمة والحديثة.
ويشرح وجهة نظره: "النمط التقليدي يمتاز بتوظيف مواد البناء المحلية مثل الحجر والطين، وبتصاميم ذات شرفات وأقواس وقباب تعكس الثقافة والتقاليد المحلية، وقد طُوّر على مر العصور ليتناسب مع المناخ والبيئة المحيطة، وعلى الرغم من جماله وعراقة تاريخه وتراثه، إلا أنه قد يواجه صعوبة في التكيف مع التقلبات والتغيرات المناخية الراهنة".
وأضاف أن العمارة الحديثة تنادي بــ "مبادئ الاستدامة والبيئة"، حيث تتصاعد أهمية الأبنية الخضراء والمستدامة في إطار سعيها للحد من الأثر البيئي، إذ تستخدم تقنيات العزل الحراري، والتهوية الطبيعية، والزجاج المزدوج لتحسين كفاءة استهلاك الطاقة، والحفاظ على الحرارة المناسبة في الداخل؛ وذلك كله، لتقليل تأثير التغيرات المناخية.
ووفق القاضي، فإن الاختلافات واضحة فيما يخص قدرة النمطين على مقاومتهما للتغيرات المناخية والتعامل معها، فتُظهر الأبنية التقليدية عدم قدرتها على تقديم حماية كافية من الحر الشديد والبرد القارس، ويمكن أن يكون البناء التقليدي عرضة للضرر نتيجة الحرارة الشديدة، أو التساقطات المطرية الغزيرة، في حين يتيح التصميم الحديث فرصاً أكبر للتحكم في درجات الحرارة، وتحسين الراحة الداخلية.
ويستطرد قائلًا: "تشجيع الأبنية الخضراء، واستخدام مواد البناء الصديقة للبيئة، وتبني تصاميم معمارية مستدامة تعتمد على الطاقة المتجددة وتقنيات الاستدامة، في مجملها خطوة هامة نحو المستقبل، يمكن تحقيقها بتعزيز استخدام مواد البناء المستدامة، وتقديم حوافز حكومية لأصحاب المشاريع البيئية، والتوعية بأهمية التصاميم المُكيّفة للبيئة".
وتوقّف القاضي عند التحديات التي تواجه المباني في فلسطين وأبرزها التأقلم مع التغيرات المناخية، مما يستوجب تقدم الخطى نحو الاستدامة والابتكار ليصبحا حجر أساس في إستراتيجيات العمارة المستقبلية؛ بما يحافظ على التراث، ويضمن الراحة والصحة للسكان، موصيًا بضرورة التعاون بين المصممين والمهندسين، للموازنة بين الحفاظ على التراث المعماري، وتبني تصاميم تتناسب مع التغيرات المناخية المتسارعة.
مدرسة بنات عقابا الثانوية الخضراء
مدرسة خضراء
مدرسة عقابا الخضراء في عقابا، هي الوحيدة من نوعها في الضفة الغربية حتى الآن، المُصممة بشكل صديق للبيئة.
وتصف مديرة المدرسة، آمنة أبو خيزران الأجواء في المدرسة، بأنها لا تتأثر بارتفاع الحرارة إلى حدٍ كبير في شهري مايو ويونيو، لكن في موجات الحر الشديدة تلجأ إلى وسائل التبريد.
وذكرت أن مدرستها تعتمد على الطاقة الشمسية، وتعيد استخدام المياه الرمادية، وتخزن مياه الأمطار، ولا تستعين بوسائل التدفئة شتاءً.
مدرسة فلسطينية خضراء
سُمك جدران المدرسة كبير مقارنة بالمباني الأخرى، ويماثل الأنماط المعمارية التراثية، كما تقول، مضيفة: "تفتح الطالبات عادة النوافذ المواجهة للشمس وأيضًا الستائر، ما يساهم في ارتفاع حرارة الغرف، أما في الجهة المعاكسة للشمس، فلا تحتاج الغرف للتبريد".
ومن المثير للاهتمام أنها في فترة دوامها في شهر يوليو لا تستخدم التكييف، حين تكون بمفردها، ففي حال قلَّ عدد المتواجدين في الغرف يصبح لا داعي لوسائل التبريد.
عماد دواس الأستاذ المساعد في قسم هندسة التخطيط العمراني في جامعة النجاح
العودة للطين
من ناحيته، يعدّد عماد دوّاس الأستاذ المساعد في قسم هندسة التخطيط العمراني في جامعة النجاح، مزايا البيوت القديمة، فهي "صديقة للبيئة" من حيث المواد المستخدمة، وعدم وجود تصنيع لها، كما أن العزل الصوتي والحراري فيها كبير، إضافة إلى أنها تحافظ على درجة حرارتها، لكن قدرتها على عزل المياه متدنية، والكلام لدواس.
وبحسب متابعاته، هناك دول أفريقية مثل موريتانيا عادت إلى استخدام الطين، لكن بعد التغلب على عيوبه ومنها حاجته الدائمة للترميم، وهو ما كان يقوم به الأجداد قديمًا، في موسم خاص لصيانة البيوت يُعرف بــ "التطيين".
وحديثًا، تُستخدم مواد طينية يجري ضغطها مثل الطوب، كما تُستخدم مواد بديلة للإسمنت "ذات تماسك وعزل عال"، وغير نفاذة للمياه، ولا تحتاج لصيانة دورية، وفق قوله.
معمار فلسطيني قديم عام 1967