خاص بآفاق البيئة والتنمية
حيثما تسر في ربوع البلد طولاً وعرضًا، شمالاً وجنوبًا، ترَ حجم الدمار الذي نلحقه بالأرض الزراعية، بالسهول الخصبة، الأرض التي يُفترض بأصحاب القرار فيها، أنهم مؤتمنون على حمايتها لمستقبل من سيأتون بعدنا، نسلّمهم إياها كما استلمناها من الأجداد، الذين كانوا أكثر وعياً بحماية أصل الإنتاج "الأرض". السهل الذي نتغنّى به، وكان ينتج كل الخيرات لفلسطين ندمره بأيدينا، فها هو سهل "مرج ابن عامر" جارٍ تدميره أمام أعين المسؤولين من وزراء ووزارات، رغم كل التغني بأن الزراعة هي خط الدفاع الأول عن فلسطين وحقوقهم في أرض كنعان، وما هي إلا سنوات قليلة ولن يتبقى مكان للزراعة، لأننا ندمر أصل الإنتاج. واقع الحال في سهل مرج ابن عامر وسهول أريحا كأنه يقول "لم نجد مكانًا لإنشاء مدن صناعية سوى على الأراضي الزراعية، بل على أخصبها، ولا قوانين تحمي تلك الأراضي من غول الإسمنت والأسفلت، ولا مسؤول يهتم". ولننظر إلى "بالوع بيتونيا" الذي كان ينتج من الخضار ما لذ وطاب، ولنراقب كيف يُدمر سهل بيت فوريك في بيت دجن، وسهول عرابة ويعبد.
|
 |
البناء على الأراضي الزراعية في أريحا |
سأَلَتْني "وماذا لو كان الشخص لا يملك سوى قطعة أرض مساحتها ٥٠٠ متر مربع ورثها عن أبيه أو أبيها، ليبني عليها بيته، ماذا لو كانت أرضاً زراعية تقع في السهل؟ ألا يكون له الحق في البناء في مثل هذه الأرض، طالما أنها مِلكه وهو حر التصرف فيها؟".
في أثناء سؤالها كنت أنظر للسهول، التي تُغتصب بطرق متنوعة، ففي مكان منها تُطمر بالمخلفات الصلبة، كمخلفات البناء والطمم، وفي مكان آخر تجد ورشة أو معملًا ومنشار حجر، أو بناءً لمصنع ومنازل متناثرة في السهول الزراعية.
نفس الموقف والتساؤل تجده في تبرير غالبية المسؤولين، حين يصادقون ويسمحون بالبناء والإعمار (الذي هو تخريب وليس إعمار) وتوسيع المخططات الهيكلية للمدن والقرى فوق أخصب الأراضي الزراعية وعلى حسابها؛ حتى أن الأراضي التي تحيط بالينابيع وذات الطبيعة الخاصة والنظم البيئية الفريدة، لم تسلم من التدمير أمام أعين ذوي العلاقة، قائلين: "بعض الناس لا أرض لهم سوى تلك التي تقع في السهول الزراعية أو حول الينابيع، فهل نمنعهم من إقامة مشروع المستقبل أو بناء "منزل العمر" على أرض ورثوها من الآباء؟"

البناء في السهول الخصبة وفي الخلفية جبال جرداء
لكن في المقابل، هناك أناس لا يملكون أرضًا، سوى تلك الموجودة في مناطق ذات قيمة زراعية منخفضة، لماذا لا يُتوسع في ذلك الاتجاه؟ التخطيط للمستقبل ينبغي ألا يُترك بهذه البساطة والسذاجة، فمن لا يدرك قيمة الأرض الزراعية الحقيقية، المتمثلة أولاً في إنتاج الغذاء، ومن لا يدرك الخطر المحدق والقادم المتصل بإنتاج الغذاء، يجب أن يَخْرج أو يُخرج من مكانه.
التفريط بالأراضي الزراعية لحساب مشاريع بناء وغيرها هو جريمة ووصفة رخيصة للانتحار الذاتي، بفقدان القدرة على الاكتفاء الذاتي في الغذاء حاضراً ومستقبلاً، حتى وإن كان اكتفاءً جزئياً، لكنه يبقى أفضل من الفقدان الكلي للقدرة على إنتاج الغذاء، وهذا ما نسير نحوه، كالسائر نحو هوةٍ عميقة لا يُدرك لها نهاية.
إن مجرد طرح سؤال من هذا القبيل كما ورد في البداية، إنما يدل على عمق أزمة في التفكير في المستقبل، مستقبل بلد تشعر أنه يسير وفقًا للمثل القائل "سايرة والرب راعيها"، لكن في هذه الحالة الرب- والمقصود به هنا الجهات المسؤولة - لا يرعاها، بل يدمرها بقِصر نظره ومنظوره ومصالحه الخاصة، التي يحكم بها على الأمور وبها يسيرّها.
وربما المسألة لا تتصل بعمق أزمة في التفكير فحسب، بل بسطحية تصل حد السذاجة والغباء في النظر للمستقبل، ومصالح طابعها أنها "آنية شخصية"، تعلو على الوطنية وعلى مستقبل من سيأتون بعدنا، حتى من أبناء أولئك المسؤولين.
وأكثر الأشياء مرارة في النفس، أن تلك الأراضي الزراعية عالية الخصوبة، حُفظت لآلاف السنين، وتحت كل الكيانات الاستعمارية، وظلت كذلك محفوظة، حتى جاء أبناء جلدتنا، ففرطت المسبحة واُستبيحت المحرمات باغتصاب الأراضي الزراعية.
وبالنظر إلى حال "سلة الغذاء الشتوية أريحا والأغوار"، حيث "السيطرة" الإدارية للسلطة الفلسطينية في بعض مناطقها التي تحولت أراضيها لمشاريع "ڤيلات" وشاليهات سياحية، وحال مناطق الينابيع، التي لم تؤخذ في الاعتبار في "مشروع تسوية الأراضي والمياه"، فما حدث هو رصد الينابيع نفسها، دون الأخذ في الاعتبار المناطق الطبيعية المحيطة بالينابيع (وهي عادة صغيرة تتفاوت مساحتها من ٥ إلى٥٠ دونمًا)، ذات التنوع الحيوي والأنظمة البيئية التي تطورت على مر آلاف السنين، وتُدمر بتحويل الكثير من تلك المناطق، لمناطق سكنية أو تُقام عليها المشاريع الصناعية.

البناء والمخلفات في سهل بيت فوريك وفي الخلفية جبال جرداء
وهنا من حق كل حريص أن يتساءل عن دور وزارة الزراعة وسلطة جودة البيئة والمؤسسات التنموية والبيئية وكل أصحاب العلاقة والمشرّعين، من كل ما يحدث في هذا الصدد، فضًلا عن دور المخططين وواضعي الإستراتيجيات المستقبلية من تدمير مقومات العيش المستقبلي.
ونحن إذ نتحدث عن المستقبل، لا نقصد المستقبل البعيد، بل القريب والقريب جداً، فحجم الدمار الذي شهدناه في العشرين سنة الأخيرة يفوق قدرتنا على التخيل، والدمار الكلي لا يحتاج لأكثر من عشرين أو ثلاثين سنة قادمة، إذا استمر الحال على ما هو عليه، وستصبح الأراضي الزراعية والسهول الخصبة مجرد ذكريات نراها في الصور ويتحدث عنها الناس في إطار قصص الخيال.
حيثما تسر في ربوع البلد طولًا وعرضًا، شمالًا وجنوبًا، ترَ حجم الدمار الذي نُلحقه بالأرض الزراعية، بالسهول الخصبة، الأرض التي يفترض بأصحاب القرار فيها، أنهم مؤتمنون على حمايتها لمستقبل من سيأتون بعدنا، نسلّمهم إياها كما استلمناها من الأجداد، الذين كانوا أكثر وعياً بحماية أصل الإنتاج "الأرض"، ونرى أمام أعيننا، كيف يتحول سهل سميط شرق مدينة نابلس إلى مشاريع إسكان، بينما تحيط به جبال جرداء قاحلة ليست زراعية.
جبال جرداء لا قيمة زراعية لها، تُترك بلا بناء وبلا مشاريع إسكان، وسهول زراعية ذات تربة خصبة تتحول لمشاريع إسكان و"إعمار" فيما الأصح أن نصفها بمشاريع "دمار"، كونها تدمر القدرة على الصمود على الأرض لأن أساس الصمود أن تنتج غذاءك بنفسك، وهي مشاريع تدمر المستقبل.
وهنا علينا أن نسأل: "عن أي مستقبل نتحدث؟ أهو ذاك الذي لا تستطيع الأجيال القادمة أن تجد لها مكاناً لتنتج فيه غذاءها؟"

الزحف الاسمنتي على السهول الزراعية الفلسطينية الخصبة
وليس سهل سميط هو الوحيد الذي يُدّمر، بل إن أكثر السهول خصوبةً، ذلك السهل الذي نتغنى به، وكان ينتج كل الخيرات لفلسطين ندمره بأيدينا، سهل "مرج ابن عامر" جارٍ تدميره أمام أعين المسؤولين من وزراء ووزارات، رغم كل التغنّي بأن الزراعة هي خط الدفاع الأول عن فلسطين وحقوقهم في أرض كنعان، وما هي إلا سنوات قليلة ولن يتبقى مكان للزراعة، إننا ندمر أصل الإنتاج، وكأن الأرض كما يقال "لها الله".
واقع الحال في سهل مرج ابن عامر وسهول أريحا كأنه يقول "لم يجدوا مكانًا لإنشاء مدن صناعية سوى على الأراضي الزراعية، بل على أخصبها، ولا قوانين تحمي تلك الأراضي من غول الإسمنت والأسفلت، ولا مسؤول يهتم".
لننظر إلى "بالوع بيتونيا" الذي كان ينتج من الخضار ما لذَّ وطاب، ولنراقب كيف يُدمر سهل بيت فوريك في قرية بيت دجن، وسهول عرابة ويعبد.
لقد عُقدت المؤتمرات وورش العمل وضُخّت الأموال على مشاريع لتنفيذ المخططات المكانية، والمخططات التي تحدد القيمة الزراعية للأرض، وصُنّفت الأراضي على أنها إما أن تكون عالية القيمة الزراعية، أو متوسطة القيمة، أو منخفضة القيمة الزراعية أو لا قيمة زراعية لها.
والسؤال المطروح هنا: "ضمن أي تصنيف وقع سهل مرج ابن عامر؟ وضمن أي تصنيف وقعت أرض أريحا؟ وسهل بيت فوريك- بيت دجن، وسهول جنوب الضفة، وسهل طمون؟ ضمن أي تصنيف؟ هل هي بلا قيمة زراعية؟ إذا كانت في نظر المسؤولين بلا قيمة زراعية، فأين الأرض ذات القيمة الزراعية؟ ثم من ناحية أخرى، ما قيمة التصنيف للأراضي إن لم يكن تصنيفًا هادفاً لحمايتها؟
نعم، هم ورثوا أرضاً من الآباء، فليورّثوها كما هي للأبناء، وليقيموا المباني في سفوح الجبال الجرداء، فامتلاكك للأرض الزراعية لا يعني أنه يحق لك حرية التصرف بها، لأن مسؤوليتك حفظها وتسليمها كما هي أو أكثر خصوبة لمن سيأتون بعدك.
أما البناء فمسؤوليتك أن تجد وتتملك مكاناً آخر في مناطق غير زراعية، مثل المناطق الجرداء، ومسؤولية السلطة تتمثل في وضع القوانين وتنفيذها لحماية الأرض الزراعية، أما مسألة أن السلطة لا تسمح بهدم البناء المخالف، فهي وصفة تقاعس لجعل الناس ينتهكون حرمة الأراضي الزراعية ويستمرون في تصحير الأراضي وإخراجها من دائرة الإنتاج.

إلقاء مخلفات البناء والزحف الاسمنتي في سهل بيت فوريك
تستحضرني هنا قصة روسية عن فلاح كان لديه دجاجة تبيض له، وفي صباح أحد الأيام وجد دجاجته قد وضعت له بيضة ذهبية، ذهب إلى السوق وباعها وحصل على الكثير من المال، في اليوم التالي وضعت له بيضة جديدة، ومجددًا باع الثانية، وفي اليوم الثالث والرابع استمرت الدجاجة في وضع البيض الذهبي، فازدادت ثروة الفلاح، ومعها ازداد طمعه، وأصبح ينتظر البيضة في كل صباح بفارغ الصبر.
وما لبث أن زادت رغبته في سرعة الحصول على البيض، وفي إحدى الليالي قرر الحصول على كل البيض الذهبي دفعة واحدة، دون انتظار بيضة ذهبية كل صباح، وعندها قرر ذبح الدجاجة وإخراج البيض الذهبي كله منها، وفي الصباح فعلها وذبح الدجاجة. لم يجد سوى البيضة التي كانت على وشك أن تبيضها، وبعدها انتهت رحلته في الحصول على البيض الذهبي كل صباح، لقد قتل أصل الإنتاج ليعود تدريجياً إلى فقره، ونحن نفعل الشيء نفسه، نقتل أصل الإنتاج، نقتل أرضنا الزراعية الخصبة بسهولها الصغيرة والكبيرة.

الورش والمعامل على الأراضي السهلية الخصبة
خلاصة القول إن الأرض لو كانت ملكك، فإن حرية التصرف بها ليست من حقك، فإن كانت أرضاً زراعية فليس من حقك أن تحولها لأرض الإسمنت والأسفلت، بل من واجبك حفظها وزراعتها وتسليمها للجيل الذي يأتي لاحقًا، ليستمر في فلاحتها.
ولأن الإنسان بطبيعته الجشع والطمع وقصر النظر، يصبح واجب حمايتها على القانون، والمسؤول الذي من واجبه السهر على تطبيقه، وما عدا ذلك فالهاوية مصيرنا ولا مستقبل لنا غير التبعية والعبودية لمن سيضع الغذاء في فمنا.