حبيب معلوف
كُتب الكثير عن علاقة زيادة الانبعاثات بتغير المناخ والظواهر المناخية المتطرفة (ارتفاع درجة الحرارة وزيادة الجفاف والحرائق والفيضانات وتحمّض المحيطات وذوبان المتجمد منها)، وأثرُ ذلك على الأنظمة البيئية والغذائية، إلا أن تأثير هذه العلاقة على الحياة والصحة العامة بقي غامضاً.
التقارير حول أعداد الوفيات السنوية في العالم جرّاء زيادة الحرارة تحيط بها الشكوك، بسبب عدم الاتفاق بعد على توصيف هذه المشكلة وتصنيفها، إلا أن ما لا شك فيه أن عدد ضحايا ارتفاع الحرارة في ازدياد، عام تلو الآخر، وهو أكبر من عدد من تقتلهم الأعاصير والفيضانات. فهل يمكن التكيّف مع زيادة الحرارة والتخفيف من الوفيات؟
العدد تضاعف قبل الموعد
أكّد التقرير الأخير للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (تابعة للأمم المتحدة) أن زيادة حرارة الأرض أصبحت أمراً واقعاً، وأنه حتى لو توقّفت انبعاثات الأرض تماماً (وهذا مستحيل بطبيعة الحال)، فإن تأثيرات ظاهرة تغير المناخ ستستمر طويلاً، بسبب تراكم هذه الانبعاثات في الغلاف الجوي منذ الثورة الصناعية.
ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فإن عدد الوفيات الناجمة عن موجات الحر بين عامي 1998 و2017 تجاوز 166 ألف شخص.
وتوقَّعت دراسة للأمم المتحدة أجريت في عام 2018 أن يتضاعف هذا العدد أربع مرات بحلول عام 2030، وقد تضاعف فعلاً هذا العام ولم ينتظر عشر سنوات!
وهذا ما يجعل الحر من بين أكثر كوارث الطقس فتكاً، علماً أن تقارير أخرى تُقدر أن الأرقام أكبر من المُعلن عنه، إذ أن الوفيات بسبب موجات الحر لا تُسَجل كلها تحت هذا العنوان في شهادات الوفاة.
فإذا كان المتوفى قد قضى، بحسب الشهادة، بسبب إصابة بقصور في القلب، مثلاً، لا يُدرج ذلك في خانة الوفيات بسبب ارتفاع الحرارة، علماً أن زيادة الحرارة قد تقضي على من لديهم مشاكل صحية في القلب.
وذهبت دراسات أخرى إلى التأكيد أن "من تزيد أعمارهم على 65 عاماً عرضة أكثر من غيرهم للوفاة الناجمة عن ارتفاع درجات حرارة الطقس والإصابة بـ"ضربة شمس" أو "إجهاد مميت"؛ وهذان يحدثان عندما يتعذر على جسم الإنسان تبريد نفسه بدرجة كافية.
ويمكن للإجهاد الناجم عن الحر أيضاً أن يؤدي إلى الوفاة، لا سيما أن كانت هناك أمراض كامنة، مثل أمراض القلب والأوعية الدموية والأمراض التنفّسية.
والفئات الأكثر عرضة لمخاطر موجات الحر هم الأطفال وكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة ومن يعملون في أماكن مكشوفة تحت أشعة الشمس الحارة من دون حماية.
كما لاحظت الدراسات أن عدد الوفيات يزيد عندما لا تنخفض درجات الحرارة بمعدلات كبيرة في أثناء الليل وتستمر على حالها في النهار.
ومع توقع ارتفاع درجات الحرارة أكثر من درجة ونصف درجة، بعد فشل دول العالم في الوفاء بالتزاماتها باتفاقية باريس التي نصَّت على ألا ترتفع أكثر من هذا المعدل، يبقى السؤال: أين سيقع الضرر الأكبر وكيف؟
التكيف مع مستقبل حارق
يجزم التقرير السادس للهيئة والتقارير الخمسة التي سبقته (تصدر كل خمس سنوات تقريباً منذ عام 1990) أن سكان المدن هم الأكثر عرضة لمخاطر زيادة حرارة الأرض. فالأماكن التي يكثر فيها الأسفلت والإسمنت وغيرهما من الأسطح التي تمتصّ الحرارة ثم تعيد بثها، تجعل من البيئات الحضرية أكثر سخونة من الضواحي أو المناطق الريفية.
وفي النهار تكون المناطق الحضرية، في المتوسط مثلاً، أكثر سخونة بعدة درجات مئوية من المناطق الريفية المحيطة بها. وفي كثير من مدن العالم، يموت العديد من العمال المشتغلين بأعمال الإنشاءات الخارجية، نتيجة لقصور القلب والأوعية الدموية الناجم عن ضربات الشمس.
ومعلوم أن ارتفاع الحرارة، خصوصاً في المدن، يتطلب زيادة استهلاك الطاقة للتبريد، ما يعني مزيداً من الانبعاثات لأن أكثر من 70% من مصادر الطاقة تعتمد على الوقود الأحفوري.
ولا يعني هذا، أن سكان الأرياف في مأمن. فارتفاع الحرارة وزيادة الجفاف يزيدان من نسبة الحرائق في الأماكن الخضراء والحرجية ما يؤدي بدوره إلى ارتفاع سخونة المناخ.
ولكن سيكون لدى أهل الريف، ومن يعيشون قرب المساحات الخضراء، فرصة أكبر للتكيف مع درجات الحرارة القياسية والحارقة إذا حافظوا على هذه المساحات.
الأثر الأكبر لارتفاع الحرارة على المدن من ناحية زيادة الوفيات أمر مسلّم به عملياً وعلمياً. بل تعكف الأوساط العلمية على تحديد الأحياء الأكثر عرضة لهذه المخاطر، لتأمين الرعاية الصحية المبكرة والوقائية.
ويجدر الذكر أن بعض الدراسات تولي اهتمامًا لأصحاب البشرة الداكنة باعتبارهم أكثر عرضة من أصحاب البشرة البيضاء لحالات الوفاة والإصابة بالأمراض المرتبطة بالحر.
انطلاقاً من ذلك، أطلقت مدن عدة حول العالم مبادرات لزراعة مزيد من الأشجار، ودعوة السكان إلى طلاء الأسطح باللون الأبيض العاكس للحرارة، واعتمدت أساليب إلكترونية للتوعية والتنبيه من موجات الحر الشديد، ومنها إرسال الرسائل مسبقًا، أو عرض قراءات درجات الحرارة على لوحات إلكترونية.
وإذ يراهن كثير من دول العالم على التبريد الكهربائي المنزلي، إلا أن هذا لا ينطبق على سكان المدن في البلدان النامية التي تفتقر للمكيفات أو حتى للكهرباء. ويُعد لبنان أنموذجاً لأزمة متوقعة وقاتلة في هذا المجال.
ويلجأ المسؤولون عن تخطيط المدن في العالم إلى أساليب عديدة في محاولة للتغلب على الحر، وأبرزها إبقاء الأماكن العامة، مثل الحدائق والمراكز المجتمعية المكيفة، مفتوحة لساعات طويلة أثناء موجات الحر، وهو ما يوفر متنفّساً لمن يعانون الحر الشديد في منازلهم.
كما لا تزال زراعة الأشجار في المدن للتخفيف من الحر وحماية الموجود منها في الأرياف فكرة مركزية.
ويدرس هؤلاء أنواع الأشجار سريعة النمو والمرطبة للهواء والمظلّلة بشكل كبير، وإعادة النظر في تخطيط المدن للسماح بتسرب الهواء عبر الشوارع، كل ذلك من أجل التكيف مع مستقبل حارق، بات واقعاً ملموساً، ولم يعد بالإمكان تجنّبه. وهذا، ما لم ولا تفكّر به السلطات (مركزية أو لا مركزية) في بلد كلبنان، لإنقاذ الأرواح بعد أن اتبَّعت هي نفسها سياسات في الطاقة والنقل والبيئة أدت إلى خنق الناس.
البحر المتوسط الأكثر تأثرًا
ورد في التقرير التقييمي السادس للمناخ الذي أعدّته الهيئة الحكومية الدولية المعنيّة بتغيُّر المناخ، والذي صدر قبل أقل من ثلاثة أشهر من انعقاد القمة الدولية المُقبلة للمناخ في غلاسكو الإسكتلندية (في نوفمبر 2021)، أن درجة حرارة سطح الأرض ارتفعت 1.1 درجة مئوية بين عامي 1850 و1900، وهو معدل لم تشهده الأرض منذ 125 ألف عام، أي منذ ما قبل العصر الجليدي الحديث.
وتوقع التقرير زيادة الاحترار بين 2.5 و4 درجات مئوية، بعدما كان التقرير الخامس (عام 2013) قد توقَّع زيادة تراوح بين 1.5 و4.5 درجات. وهو معدل أعلى بكثير من 1.5 ودرجتين الذي وضعته الدول الموقّعة على اتفاقية باريس للمناخ عام 2015 هدفاً لها.
كما أشار التقرير إلى أن المناطق الأكثر تأثراً بالارتفاع الحاد لدرجات الحرارة، وبالأمطار والجفاف، هي بلدان البحر المتوسط وجنوب غرب أفريقيا.
الحر يفتك بــ "البلدان المعتدلة"
تاريخياً، حدثت بعض موجات الحر الأكثر فتكاً في مدن ذات طقس معتدل شهدت فجأة موجات حر شديد. فعلى سبيل المثال، مات نحو 14 ألف شخص في موجة الحر التي اجتاحت فرنسا عام 2003، وتُوفي أكثر من 700 شخص في مدينة شيكاغو الأميركية عام 1995. ولم يتضح بعد العدد النهائي لمئات من ضحايا موجة الحر التي حطمت الأرقام القياسية في شمال غرب الولايات المتحدة وجنوب غرب كندا في تموز الماضي.