خاص بآفاق البيئة والتنمية
بدأت الزراعة البيئية تثبت نفسها في الواقع الفلسطيني في السنوات العشر الأخيرة، وما ميزها انخراط فئات شبابية واعية في هذا الفعل، وقبل نحو عشر سنوات ظهرت مزرعة بيت قاد/جنين وفي نفس الفترة “المزرعة الإنسانية” في بني زيد الشرقية/رام الله، وفي آخر ثلاث سنوات، تصاعد الفعل لتظهر مزارع بيئية بأسماء مختلفة يديرها شباب من كلا الجنسين في رابود/الخليل، وأنشأت مزرعة “أم سليمان”/بلعين، مزرعة الفلاح/كفر نعمة، مزرعة خلة العين البيئية/بني زيد الشرقية، مزرعة تعاونية الأخوة/بني زيد الشرقية، مزرعة الدرب/البيرة (وهي استمرار للمزرعة الأولى في مدارس الفرندز التي أنشأت عام 2002)، مزرعة “الأرض تنبت الحياة”/بورين مزرعة تالا وجميل الإنسانية/رام الله وغيرها الكثير من المزارع. لكن، لماذا انخرط الشباب والشابات في هذا النوع من الزراعة؟ هذا ما يجيب عنه المقال التالي.
|
 |
أطفال فلسطينيون يمارسون الزراعة البيئية |
وعلامات الدهشة أو الفرح لا أعرف، سأل: ما هذا؟ قلت: هي حديقة لإنتاج خضار بدون كيماويات. فأجاب: إنها زراعة بيئية. قلت: ماذا تقصد؟ نعم هي زراعة بيئية، هكذا تسمى، قال. كانت بداية العام 2003 حين جاء صديق من أصول لاتينية لزيارتي في مكان عملي الجديد، أحببت أن يشاهد تلك الحديقة، التي كنا قد بدأنا بإنشاءها قبل نحو عام من ذلك التاريخ . لأول مرة أعرف عن هذا المصطلح - الزراعة البيئية Agroecology، فقبله كنا نعرف عن الزراعة العضوية أو الزراعة المستدامة، أو الزراعة الديناميكية الحيوية. غادر وعدت للمكتب وبدأت البحث عن هذا الجديد، لأجد نفسي أقلب الصفحات والمواقع مكتشفاً عالماً من المعرفة الجديدة يأخذك في رحاب البحث والاستكشاف بنهمٍ، وكأنك تقول: وجدتها، ولتعرف أن هذا المنهج الزراعي وهذا المصطلح الذي تبحث عنه؛ عمره نحو مئة عام.
`حديقة القيقب في البيرة، وأرض مدرسة الفرندز كانت المسرح لأول حديقة خضار متكاملة مزروعة بمنهج وفلسفة الزراعة البيئية، بعد تجارب متواضعة، لم تنجح، بدأتها عام ١٩٩٦-١٩٩٧ في حديقة البيت عند والدتي. لم أكن أعرف ماذا أريد أن أعمل سوى أنني أريد إنتاجاً يتم الوصول إليه دون استخدام أي مادة كيماوية، ورغم فشل أولى المحاولات، لكنها استمرت وفي كل مرة تعديل أو إضافة جديدة، لتكتمل أخيراً بعد التجربة في مدارس الفرندز.

حديقة فلسطينية زرعت بحسب أسس الزراعات البيئية
بدأت أعجن الإسم الجديد وأقلبه كطفل حصل على لعبة جديدة، لتصقلني تلك اللعبة بمعارف لم أعهدها في سنين دراستي الست التي قضيتها في دراسة العلوم الزراعية وسنين عملي الميداني السابقة. زوار تلك الحديقة من طلاب مدارس ومعلمات، نساء ومهندسين أصدقاء عرفوا ذلك المكان استمعوا للشرح، تعرفوا على التجربة، بعضهم أنصت باهتمام، وآخرون كان الشك في تلافيف وجوههم وآخرون لم يظهر في عيونهم ردة فعل. تلك التجربة أحكمت فصول التحدي الجديد، تحدي يتطلب نقل هذا المنهج الزراعي وهذه الفلسفة في العمل مع الأرض إلى الميدان، إلى المزارع والحقول، إلى جعل هذا الاسم “الزراعة البيئية” يتردد ويأخذ مكانه وتميزه، فهناك مناهج رديفة أصبح لها حضور في الواقع الزراعي الفلسطيني. كل النقد، والتشكيك، بل والاستهزاء دفع نحو مزيد من الإصرار لإثبات أن الزراعة البيئية هي طريق فلسطين المستقبلي لإنتاج الغذاء — الغذاء الحقيقي.

خبير الزراعات البيئية سعد داغر يدرب تلاميذ مدرسة الفرندز على أسس الزراعة البيئية
التدريب واللقاءات الفردية والمحاضرات والتلفزيون والراديو والوسائل الأخرى حفرت الإسم في الوعي الفلسطيني وتردد في أماكن أخرى، لتظهر فئات التقطت الفلسفة وراء هذا المنهج، فئات كان يغلب عليها صفات خاصة: نساء وجدت في الزراعة البيئية شغفها لأسباب ستأتي لاحقاً، وشبابٍ وجدوا فيها السر، لأسباب أيضاً ستأتي لاحقاً، ودعمها أناسٌ لأسباب مختلفة وتبنتها مؤسسات آمن بعض من فيها بأن الزراعة البيئية هي أكثر من زراعة، لها أبعادها الاقتصادية، الصحية، البيئية، الوطنية، الاجتماعية، الزراعية. هي زراعة كما ورد في مقال سابق نقدم من خلالها رسالتنا الإنسانية كشعب تحت الإحتلال، مقابل زراعة الإحتلال الهادفة للاحتكار والسيطرة.
بدأت الزراعة البيئية تثبت نفسها في الواقع الفلسطيني في السنوات العشر الأخيرة، وما ميزها كما ورد سابقاً، انخراط فئات شبابية واعية في هذا الفعل وقبل نحو عشر سنوات ظهرت مزرعة بيت قاد/جنين وفي نفس الفترة "المزرعة الإنسانية" في بني زيد الشرقية/رام الله، وفي آخر ثلاث سنوات، تصاعد الفعل لتظهر مزارع بيئية بأسماء مختلفة يديرها شباب من كلا الجنسين في رابود/الخليل، وأنشأت مزرعة أم سليمان/بلعين، مزرعة الفلاح/كفر نعمة، مزرعة خلة العين البيئية/بني زيد الشرقية، مزرعة تعاونية الأخوة/بني زيد الشرقية، مزرعة الدرب/البيرة (وهي استمرار للمزرعة الأولى في مدارس الفرندز التي أنشأت عام 2002)، مزرعة “الأرض تنبت الحياة”/بورين، مزرعة تالا وجميل الإنسانية/رام الله وغيرها الكثير من المزارع. لكن، لماذا انخرط الشباب في هذا النوع من الزراعة؟

ورشة تدريبية خاصة بتقنيات الزراعات البيئية في الضفة الغربية
أولاً: مما ميز هذه الفئة الواعية أنها اختارت الزراعة البيئية من منطلقات وطنية سياسية، فهي ترى فيها تمرداً على المدرسة الزراعية الاستعمارية، التي يمثلها الاحتلال الإسرائيلي، الذي يفرض تحكمه في ميدان “الزراعة المسمومة”، بسيطرته على البذور المهجنة أو المعدلة، والأسمدة الكيماوية، والتكنولوجيا والبرمجيات وغيرها من مدخلات الإنتاج في الزراعة المسمومة
ثانياً: هذه الفئات الشبابية أكثر انفتاحاً على الأفكار الجديدة (القديمة)، ولديها الجلد الكافي في البحث والتقصي لتعرف عمق الزراعة البيئية بأبعادها المختلفة.
ثالثاً: الزراعة البيئية، كما أطلق عليها كاتب هذا المقال منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، هي زراعة التحرر، والفئة الشابة التي تتبنى هذا المنهج تدرك المعاني التحررية الكامنة هنا.
رابعاً: جزءٌ مهم من هذه الفئة يرفض التقيد بالوظائف المكتبية ويبحث عن تحقيق الذات بعيداً عن وظيفة قد تبقيه مكبلاً سنين طويلة بلا إبداع.
من جهة ثانية، كانت النساء من الفئات الأكثر إقبالاً على الزراعة البيئية بعد كل تدريب تتلقاه في هذا المجال، لتنشأ مزراع بيئية (لتغطية حاجة الأسرة وللتسويق) تديرها النساء بشكل كامل، بدءاً من مزرعة العقربانية/نابلس، إلى مزرعة سها تركمان/الزبابدة، ومزارع رابود/الخليل وبعض المزارع في جب الذيب وواد فوكين/بيت لحم. ويأتي إقبال النساء على الزراعة البيئية لأسباب عديدة منها:
أولاً: تجد النساء أكثر حرصاً على توفير غذاء صحي لأفراد العائلة، بعد أن فقدت الكثير من النساء الثقة بالمنتجات الموجودة في السوق.
ثانياً: النساء تمتلك حساً أكثر رهافة حول قضايا الطبيعة بكل مكوناتها.
ثالثاً: وجدت العديد من النساء نفسها قادرة على تحقيق الذات وأخذ دورها داخل الأسرة والمجتمع من خلال تميزها بتبني زراعة فيها تحدي للأنظمة الزراعية السائدة، وفيها حالة كبيرة من الإبداع والثقة بالنفس والاستقلال.
رابعاً: الزراعة البيئية هي زراعة بمسحةٍ روحانية، ويبدو أن النساء أكثر قرباً لما هو روحاني، فتجدها باحثةً عن اليوغا كممارسة روحانية، وعن أساليب العلاج غير المألوفة كالعلاج بالطاقة وغيرها من الأشكال ذات الصبغة الروحانية.
خامساً: بعض النساء وجدت في الزراعة البيئية مساعداً في جمع العائلة وتقريب الأطفال للطبيعة وإبعادهم عن وسائل الترفيه الإلكترونية الضارة.

ورشة تدريبية خاصة بتقنيات الزراعات البيئية في الضفة الغربية
كان لكل ذلك ارتدادات مهمة لتظهر ما يمكن أن نسميها حركة الزراعة البيئية في فلسطين، بعد أن أصبح عدد من يمارسون الزراعة البيئية هنا يزيد عن ثلاثمئة، ومن هذه الإرتدادات بروز فلسطين كنموذج للزراعة البيئية في محيطها الإقليمي والعالمي، تأسيس “الملتقى الفلسطيني للزراعة البيئية” الذي أصبحت عضويته في شبكات عالمية وإقليمية للزراعة البيئية، ظهور شركة عدل، التي تعنى بتسويق المنتجات البيئية بشكل أساسي.
وإن كان لنا أن نقول الآن بكل يقين، بأن الزراعة البيئية في فلسطين انتصرت وتنتصر، فإننا يمكن أن نقول أنها تنتصر بالشباب والنساء، وهؤلاء سيدفعون الجهات المختلفة ذات العلاقة للاعتراف بواقعٍ زراعي جديد، مبني على الإيمان والوعي ومعاني الإنسانية وأسس التحرر، ولن تبقَ الزراعة البيئية موضوع “فرصة” لتجنيد أموال فقط، لدى البعض (وهذا ما قد يفسد الفكرة أحياناً وفي بعض المواقع والحالات)، لكنها تتحول إلى حاجة لكل الناس.