خاص بآفاق البيئة والتنمية / غزة
فاقمت جائحة كورونا متاعب الزراعة في قطاع غزة الذي يعاني جراء الحصار والاعتداءات، وقلة الموارد والتلوث البيئي، وأزمة المياه والزحف العمراني، على حساب المساحة الزراعية والتركيبة الهشة للنظام الاقتصادي والتقلبات المناخية، وزيادة المنافسة الخارجية، وضعف تنفيذ السياسات المحلية، عدا عن تحكم السلطات الإسرائيلية بموارد ومعابر قطاع غزة، وارتباط الاقتصاد والسوق الفلسطيني باقتصاد الاحتلال، وبخاصة فيما يتعلق بمدخلات الإنتاج وتصريف المنتجات الزراعية. في مرحلة ما بعد التعافي من الوباء، سيكون التحدي؛ كيف تُصبح الزراعة صغيرة النطاق أكثر كفاءة وأكثر توجهًا نحو السوق ومربحة ومستدامة بيئيًا، بحيث لا تسهم فقط في السيادة الغذائية، ولكن يمكنها أيضًا تحفيز النمو الاقتصادي ومكافحة الفقر، ولا سيما في حال رفع الحصار وانفتحت غزة على جوارها الإقليمي.
|
|
أراض زراعية في قطاع غزة تعانى جراء كورونا وتخوف المزارعين من الفيروس |
قضى "عيسى النحال" طفولته مع والده في الأرض. ومع السنين وخلال ثلاثة عقود، أضحت الزراعة مصدر رزقه التي يعيل منها أسرته على مدار العام، لكن انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد- 19) جعل موسمه الحالي الأسوأ على الإطلاق.
المزارع "النحال" واحد من مئات المزارعين في قطاع غزة ممن ذهب موسمهم الزراعي لهذا العام أدراج الرياح، بفعل توقف عمل المعابر الحدودية وحركة التصدير، كتجسيد لحالة الطوارئ التي أعُلنت في جميع العالم.
يقول النحال (42 عامًا) لمجلة "آفاق البيئة والتنمية": "عند ظهور الأزمات سواء داخل غزة أو حول العالم، يكون المتضرر الأكبر هو المزارع؛ فنحن ندفع الثمن دائمًا وعائلاتنا أيضًا".
ويضيف بنبرات من الحسرة: "خسرنا هذا الموسم لأن المحصول ظلّ عالقاً في غزة، وبيع بثمن بخس في الأسواق المحلية، ولا ندري إن كانت زراعتنا القادمة ستواجه نفس المصير".
والنحال كان يضع كمّامةً ويرتدي قفازين بساعديه لكن العمال من حوله كانوا لا يرتدون أي من وسائل الوقاية، في ظل ارتفاع أسعارها وعدم الحصول عليها بشكل مجاني.
وعلى مدار العام؛ يعمل النحال وأشقاؤه واثنين من أبنائه في زراعة نحو 40 دونما شرق مدينة رفح جنوبي قطاع غزة بالمحاصيل الفصلية، والشهر الماضي حصدوا خمسة دونمات كانت مزروعة بمحصول القمح.
وزادت جائحة كورونا من متاعب القطاع الزراعي الذي يعاني جراء التعرض للتقلبات المناخية، وزيادة المنافسة الخارجية، وضعف تنفيذ السياسات المحلية، عدا عن تحكم السلطات الإسرائيلية بموارد ومعابر قطاع غزة والضفة الغربية، وارتباط الاقتصاد والسوق الفلسطيني باقتصاد الاحتلال، خاصة فيما يتعلق بمدخلات الإنتاج وتصريف المنتجات الزراعية.
المحاصيل الزراعية في قطاع غزة تعانى من عدم التسويق اثر كورونا والحصار الإسرائيلي المتواصل
أزمة غذائية محتملة
ووُجهت رسالةٌ إلى قادة العالم من علماء وسياسيين وشركات تحثهم على اتخاذ إجراءات لمنع تحول وباء كورونا إلى أزمة غذائية وإنسانية عالمية مع انقطاع سلاسل التوريد، حيث يُخشى بروز أزمة غذاء في القريب العاجل.
مع ذلك، يرى بعض الخبراء أن نقص الغذاء على نطاق واسع غير مرجح في المدى القريب، ويعتمد الأمر على ما هو غير معروف؛ بمعنى: إلى متى سيستمر تفشي الوباء، وعدد البلدان التي تتأثر به، وطبيعة السياسات والاجراءات التي ستتخذها الحكومات للاستجابة للأزمة. و"النحال" واحد من مئات المزارعين الذين تكبدوا خسائر جرّاء الأزمة الراهنة.
ووفق المتحدث باسم وزارة الزراعة أدهم البسيوني، فإن القطاع الزراعي في قطاع غزة لم يتأثر لغاية اللحظة نتيجة انتشار فيروس كورونا، وأن وزارة الزراعة وضعت خطة الاستجابة الطارئة والسريعة لتنسيق وحشد الموارد الممكنة في مواجهة مخاطر انتشار الفيروس، وتأثيره على الأمن الغذائي في قطاع غزة.
ورغم ذلك، عبّر البسيوني عن وجود "تخوف من قبل الوزارة إثر جملة من المخاطر المحتملة التي إذا حدثت ستؤدي إلى عدم السيطرة على منع الفيروس في قطاع غزة وانتشاره، فالقطاع الزراعي بمختلف مجالاته من نباتي وحيواني وسمكي يمرّ بعدة مراحل، بدايةً من مرحلة الإنتاج والتربية، وصولاً إلى المستهلك عبر أدوات النقل والتوزيع. وقد تتعرض إحدى هذه المراحل إلى المخاطر المحتملة، كتعرض أحد العاملين في سلسلة الإنتاج الزراعي للإصابة بالفيروس.
ومن جملة المخاطر التي تحدث عنها البسيوني انتشار الفيروس في السلع المنقولة بين الموزعين، ما سيؤدي إلى توسيع دائرة المخاطر التي من شأنها المساهمة في انتشار جائحة كورونا بين المواطنين، رغم تأكيده على اتخاذ الوزارة كافة التدابير والإجراءات الوقائية خلال جميع المراحل.
ويندرج قطاع الغذاء، وفق البسيوني، ضمن البنية التحتية الحيوية، إلى جانب الرعاية الصحية وخدمات الطوارئ، ولكن تظل له الأولوية باعتباره شرط "البقاء"، حيث أظهر وباء كورونا أهمية استعادة مفهوم "الأمن الإنساني" وركائزه السبع: (الغذائي والصحي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والبيئي والشخصي). و"كورونا ربما يقذف بنصف مليار إنسان إلى أتون الجوع".
ويعتقد بعض الخبراء أن البلدان الأكثر فقرا والتي تعاني انعداما للأمن الغذائي سيتأثر اقتصادها أكثر بسبب الوباء مقارنةً ببقية البلدان، ومن المرجح أن تشهد انتشاراً واسعا للوباء ومعدلات أعلى من الإصابات والوفيات.
وفلسطينياً، بدأ الاهتمام بالأمن الغذائي في فلسطين عام 2000 وذلك لارتباط ذلك بحدثين: الأول اندلاع الانتفاضة الثانية وتزايد الحاجة الماسة للغذاء. الحدث الثاني: صدور الإعلان العالمي المتعلق بالحق في الأمن الغذائي والحصول على غذاء آمن وكافٍ ومستمر على مدار العام؛ وفقًا للمختص الإقتصادى تيسير محيسن.
وطبقا للبيان الختامي لمؤتمر القمة العالمي للأغذية (1996)، يتحقق الأمن الغذائي عندما يتمتع الناس كافة وفي جميع الأوقات؛ بفرص الحصول والوصول إلى أغذية كافية وسليمة ومفيدة لتلبية احتياجاتهم وتفضيلاتهم الغذائية من أجل حياة صحية ومنتجة وموفورة النشاط.
خسائر المزارعين الغزيين تتواصل في ظل ازمة كورونا
القطاع والأمن الغذائي
تفيد الاحصائيات أن حوالي 69% يعانون من انعدام الأمن الغذائي في قطاع غزة، منهم 47% يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، و22% بشكل معتدل.
ويقول المختص في الشأن الاقتصادى الزراعي م. تيسير محيسن، تعدُّ مناطق السلطة الفلسطينية من بين المناطق التي شهدت نسبة عالية من انعدام الأمن الغذائي، بسبب الصراعات السياسية والأزمات الاقتصادية خلال عام 2019.
ويضيف محيسن، ما يفاقم الأزمة، التي تعود أساساً إلى الحصار والاعتداءات المتكررة والزيادة السكانية وقلة الموارد؛ والتركيبة الهشة للنظام الاقتصادي، التغير المناخي الذي يؤثر على الرزنامة الزراعية، التلوث البيئي، أزمة المياه من حيث الكم والنوع، والزحف العمراني على حساب المساحة الزراعية. من المرجح أن وباء كورونا سوف يزيد الأمر سوءا؛ فقد بدت تظهر مؤشرات أولية واتجاهات وميول غير مسبوقة بفعل الوباء والإجراءات المتخذة لمكافحته والحد من انتشاره.
ويشير محيسن إلى أنه من جراء ذلك سقطت ما لا يقل عن 53 ألف أسرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة في وهن الفقر بعد فقدان مصدر دخلها بسبب كورونا. من ذلك، تأثرت سبل العيش الزراعية، من حيث انخفاض أسعار المنتجات الزراعية بعد توقف تصديرها لإسرائيل والخارج، علاوة على صعوبة الحصول على المدخلات الزراعية والأعلاف.
ويوضح أنه يخشى أنه في حال أقدمت إسرائيل على الإغلاق الشامل أن يتأثر الموسم الزراعي الثاني (أوائل أغسطس) من حيث السماح بدخول المستلزمات (البذور، معقمات التربة، الأسمدة والمبيدات بكافة أنواعها،....).
يذكر أن القدرة الإنتاجية لمصانع المستلزمات الزراعية انخفضت إلى 40%، ما أدى إلى إرتفاع أسعارها وأسعار توصيلها في ظل الضائقة التي يعاني منها التجار والمزارعون على حد سواء.
ومن المرجح أن تكون خسارة قطاع الثروة الحيوانية فادحة بسب عدم القدرة على إستيراد الأعلاف أو تخزينها أو الوصول إليها، إذ أن حاجة القطاع من المستلزمات الزراعية في قطاع غزة تبلغ 21 مليون دولار (7 إنتاج نباتي، 14 إنتاج حيواني)
كورونا تحاصر المزراعين في قطاع غزة
قوة المزارع الصغيرة
ويؤكد الخبير الاقتصادي على أنه من الضروري، في زمن كورونا، العودة إلى التعريف الإجرائي للأمن الغذائي في قطاع غزة الذي طوره الباحثون والمستمد من نظرية النظام الغذائي والاقتصاد السياسي للاحتلال، حيث يرتكز على المبادئ التالية: للناس الحق في تعريف أمنهم الغذائي وقياسه، السيادة الغذائية أساس الأمن الغذائي، انعدام الأمن الغذائي لا ينتج عن البطالة وانخفاض الدخل فقط، وإنما كذلك نتيجة انعدام المساواة الهيكلية في أنظمة الغذاء والزراعة الناجمة أساسا عن سياسات الاحتلال.
وتشير التجربة الفلسطينية، وتجربة غزة تحديدا، - وفق محيسن – إلى أنها واحدة من أهم استراتيجيات مواجهة الاختلالات في سلاسل الإمدادات الغذائية وذلك عبر الاستفادة من إمكانات الإنتاج الزراعي للمزارع الصغيرة بما في ذلك الزراعة على مستوى المنزل أو ما يسمى "الحديقة المنزلية" واعتماد سياسة الاكتفاء الذاتي أو تعزيز سلاسل التوريد المحلية والإقليمية، وتطوير البدائل المحلية في مواجهة سياسة الحصار، وفرض القيود على الحركة من وإلى القطاع!
وتابع في مرحلة ما، بعد التعافي من الوباء، سيكون التحدي: "كيف نجعل الزراعة صغيرة النطاق أكثر كفاءة وأكثر توجهًا نحو السوق ومربحة ومستدامة بيئيًا بحيث لا تسهم فقط في الأمن الغذائي ولكن أيضًا تستطيع تحفيز النمو الاقتصادي ومكافحة الفقر، ولا سيما في حال رفع الحصار وانفتحت غزة على جوارها الإقليمي.
ويقول محيسن "وقتئذ يمكن الافتراض أن إنتاج الغذاء سوف يصبح عملًا تجاريًا مربحا وصديقا للبيئة ومستداما، ويمكن استخدام مناهج سلسلة القيمة لدمج أصحاب الحيازات الصغيرة، عبر تنمية قدراتهم وتمكينهم من الوصول إلى الخدمات المالية والمعرفة والتعليم والمعلومات والأراضي والمياه والأسمدة، وذلك عن طريق تنظيمهم جماعيا وتأطيرهم ضمن تعاونيات، تجمع بين الجانبين الاقتصادي والاجتماعي".
ويضيف: "من شأن هذه التعاونيات أن تعوض عيوب الإنتاج الصغير وتجزئته، وخلق جبهة موحدة أقوى وأقدر على المفاوضة والتأثير والمحافظة على حصة سوقية، ولكن قبل هذا كله؛ وطالما استمرت الجائحة والقيود المفروضة على حركة الأفراد والسلع؛ فلا بد من التشديد على الجانب التكافلي والتضامني في إنتاج الغذاء، بهدف الحفاظ على الحياة وتمكين الفقراء والفئات الضعيفة من الوصول إليه بالمعنى المادي والاقتصادي عبر أنماط مختلفة من الحماية الاجتماعية".
كورونا تهدد موسم الفراولة في قطاع غزة
استراتيجيات التكيف والمواجهة
وفي إطار الجهود المبذولة لمواجه هذه الأزمة المحتملة ولمنع تحول أزمة كورونا إلى أزمة غذاء حقيقية، ثمة تدابير واستراتيجيات للتكيف والمواجهة:
أولا؛ تعزيز شبكات الأمان لصغار المنتجين من المزارعين وأصحاب المشاريع الصغيرة، وتوفير أنماط مختلفة من الحماية الاجتماعية تشمل الطرود الغذائية والتحويلات النقدية، الخدمات الطبية المجانية، الاستثمار في جهود التعافي المبكر والإعفاء الضريبي.
ثانيا؛ تشجيع الزراعة الحضرية (الحدائق المنزلية والاقتصاد المنزلي)، تأسيس بنوك البذور البلدية وتطويرها، تشجيع صناعة الكمبوست المحلي من مخلفات المزرعة والمنزل، الاستمرار في مراقبة أسعار الغذاء عن كثب، وتعزيز الإشراف على السوق.
ثالثا؛ تشجيع ودعم المزارعين على مواصلة العمل في مزارعهم (خاصة الأعمال التي ممكن أن تستمر دون أن تتأثر بالوباء) وذلك باتخاذ إجراءات الوقاية والسلامة، ومنها تطوير صيغة ملائمة لاستراتيجية "التباعد الاجتماعي" داخل الأسرة وداخل المزرعة، وتمكينهم من الوصول إلى السوق دون مخاطرة.