خاص بآفاق البيئة والتنمية
تتزايد التحذيرات من الخبراء والعلماء والاقتصاديين وخبراء الزراعة وغيرهم، من انقطاع سلاسل الإمداد للمنتجات الغذائية وارتفاع أسعارها وبالتالي بوادر أزمة غذائية وإنسانية تلوح في الأفق، ويعتبر عدم وقوع الأزمة الغذائية أو حدوثها معتمداً على إجراءات وسياسات كثيرة ستتخذها حكومات العالم بأكمله، وبالتالي سيؤشر هذا على قدرة واستجابة هذه الدول وسياساتها لمواجهة الكارثة.
وقبل الخوض في تحقيق الأمن الغذائي فلسطينيا، لابد وان نلقي نظرة على مفهوم الأمن الغذائي والسيادة الغذائية والاكتفاء الذاتي كمفاهيم أساسية حتى تكون الأمور سهلة التناول للجميع:
مفهوم الأمن الغذائي
حسب منظمة الفاو يتحقق الأمن الغذائي عندما يتمتع كافة البشر وفي جميع الأوقات بفرص الحصول على أغذية كافية وصحية ومغذية تلبي احتياجاتهم الغذائية والتغذوية، بما يتناسب مع أذواقهم وتمتعهم بحياة نشطة صحيا. ويتضمن هذا التعريف مجموعة من العناصر المترابطة في آن واحد: المقدرة على إنتاج أو استيراد السلع الغذائية، أو الاثنين معا، وتخزينها وتوزيعها بكميات كافية من الغذاء وقت الأزمات، وتقليل مخاطر التعرض لآثار تقلبات السوق والاستيراد عند الضرورة، والتقليل من التغيرات الموسمية للوصول إلى الغذاء.
وبمعنى آخر؛ الأمن الغذائي هو نظام سياسي اقتصادي اجتماعي متكافل ومرتبط بقطاعات التماس: (الزراعة والصحة والصناعة والتجارة والشؤون الاجتماعية والتعليم والتخطيط والقطاع الخاص والأهلي وغيرها).
من وجهة نظري كباحث فإن هذا التعريف لا يمكن إسقاطه على الحالة الفلسطينية وذلك للأسباب التالية: أولا: لا يوجد لدينا سيطرة على الموارد الطبيعية مثل الأرض والمياه والأصول الوراثية النباتية والحيوانية. ثانياً: لا يوجد لدينا سيطرة على الحدود والمعابر التجارية. ثالثاً: تبنت اغلب الدول في سياساتها بتخزين ما يكفي من المواد الغذائية لشعوبها لمدة تتراوح ما بين ثلاثة أشهر إلى سنتين تديره الدولة، وهذا أيضا غير موجود في فلسطين، وبدون هذه المعطيات جميعها يبقى أمننا الغذائي هش للغاية. |
مفهوم الأمن الغذائي الأسري
الأمن الغذائي الأسري: "قدرة الأسرة على أن تؤمن، إما عن طريق إنتاجها الخاص، وإما عن طريق مشترياتها، أغذية تكفي لتلبية الاحتياجات التغذوية لأفرادها" (منظمة الأغذية والزراعة/منظمة الصحة العالمية، 1992). وهذا يعني في الممارسة العملية؛ أن الأسر التي تعتبر "آمنة غذائيا" يجب أن تضمن فرص الحصول -على مدار العام- على أغذية آمنة بالمقادير والأنواع اللازمة لتلبية الاحتياجات التغذوية لكل فرد من أفرادها. ويمكن تحقيق الأمن الأسري من خلال الوسائل التالية: تنوع مصادر الكسب والرزق، إنتاج منزلي وتنوع في المحاصيل الغذائية والحصول على مساعدات نقدية أو عينية من خلال برامج الحماية الاجتماعية".
الأرض لمن يفلحها- تظاهرة عارمة تطالب بالسيادة على الغذاء
مفهوم السيادة الغذائية
السيادة الغذائية حسب حركة نهج المزارعين: هي حق الشعوب ودولهم في تحديد سياسة زراعية وغذائية بشكل مستقل ودون تدخل أو إغراق من طرف عناصر خارجية. حُّدد المفهوم لأول مرة في قمة الغذاء التي نظمتها منظمة الأغذية والزراعة العالمية (FAO) في روما عام 1996 بكونه: "حق الشعوب في إتباع نظام غذائي صحي وثقافي ملائم ينتج بطرق مستدامة". وتشمل السيادة الغذائية ما يلي: الأولوية للزراعة المحلية لتغذية الشعوب وإمكانية وصول الفلاحين وغير المالكين للأرض لمصادر الماء والأرض والبذور والاقتراض. لذا وجب ضرورة الإصلاح الزراعي من أجل الحصول المجاني على البذور والحفاظ على المياه كمنفعة مشتركة وعامة لتوزيعه بشكل مستدام. بالإضافة إلى حق المزارعين في إنتاج الأغذية، وحق المستهلكين في تحديد نوعية ما يستهلكون وكيفية إنتاجه، وحق الدول في حماية نفسها من الواردات الزراعية والغذائية ذات الأسعار المنخفضة، وضرورة ربط الأسعار الزراعية بتكاليف الإنتاج: بحيث يكون للدول الحق في فرض الضرائب على الواردات منخفضة الأسعار، وإلزام نفسها بإنتاج فلاحي مستدام للفلاحين ومراقبة الإنتاج في السوق الداخلي لتجنب الفائض، ومشاركة الشعوب في اختيارات السياسة الزراعية والاعتراف بحقوق الفلاحين، الذين يلعبون دورا رئيسيا في الإنتاج الزراعي والغذائي.
التراث الزراعي الفلسطيني البلدي
مفهوم الاكتفاء الذاتي
الاكتفاء الذاتي بشكل عام: هو القدرة على إنتاج جميع الاحتياجات الغذائية محلياً من خلال الاعتماد الكامل على الموارد والإمكانات الذاتية، والاستغناء كليا عن استيراد الأغذية من الخارج لتلبية هذه الاحتياجات.
الاكتفاء الذاتي الأسري: هو قدرة الأسرة على أن تؤمن، إما عن طريق إنتاجها الخاص، وإما عن طريق مشترياتها، أغذية تكفي لتلبية الاحتياجات التغذوية لأفرادها ذاتياً. من خلال: تنوع مصادر الكسب والرزق وإنتاج منزلي (بستان أو حديقة منزلية أو كلاهما) وتنوع في المحاصيل الغذائية.
فلسطينياً، لابد من استعراض المراحل التاريخية للأمن الغذائي في فلسطين، ويمكن تقسيمها إلى أربع مراحل مفصلية: |
مرحلة ما قبل الاحتلال في عام 1967 فسنجد بأن الاقتصاد المنزلي الفلسطيني كان يشكّل قاعدة الأمن الغذائي في فلسطين، حيث بلغت نسبة الاكتفاء الذاتي 90%. حيث كان الإنتاج الزراعي يفوق احتياجات الناس في بعض المنتجات مثل القمح والبرتقال والتفاح، وكانت تصدر إلى بريطانيا وأوروبا.
مع الأخذ بعين الاعتبار بأن تعداد سكان فلسطين في هذه الفترة كان اقل ب 50% تقريباً، حسب تقديرات الدولة العثمانية حينذاك . |
المرحلة الثانية:
مرحلة الانتفاضة الأولى (1987-1993) تراجع الأمن الغذائي إلى 20%، حيث أصبحت السوق الإسرائيلية تمثل سلة الغذاء الفلسطيني، بالإضافة إلى العمالة في إسرائيل.
المرحلة الثالثة:
مرحلة السلطة الفلسطينية، حيث حصل تراجع في دخل الفرد وتذبذب في وفرة الغذاء وأسعار المنتجات الغذائية وتراجعٌ كبير في الأمن الغذائي، حيث تعاني حالياً 27% من الأسر الفلسطينية من انعدام الأمن الغذائي.
وفقا لدراسة بعنوان "مراجعة إستراتيجية الأمن الغذائي في فلسطين"، والتي أجراها معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني/ماس لعام 2017 ، ووفقا لمسح الظروف الاجتماعية والاقتصادية والأمن الغذائي لعام 2014، فإن 47% من سكان قطاع غزة يصنفون على أنهم غير آمنين غذائياً، مقارنة مع 16% من سكان الضفة الغربية كما يلي:
نسبة الأسر التي عانت من انعدام الأمن الغذائي الشديد في فلسطين في عام 2014 هي 13.4% منها 5.5% في الضفة و 28.4% في قطاع غزة.
نسبة الأسر التي عانت من انعدام الأمن الغذائي المتوسط في فلسطين في عام 2014 هي 13.4% منها 10.8% في الضفة، و 18.3% في قطاع غزة.
نسبة الأسر في عام 2014 التي لديها أمن غذائي جزئي في فلسطين هي 15%، منها 13.3% في الضفة و 18.3% في قطاع غزة.
نسبة الأسر في عام 2014 الآمنة غذائيا في فلسطين هي 58.3%، منها 70.4% في الضفة و 35.1% في قطاع غزة.
الزراعات البيئية المتداخلة والمنوعة في مركز جبل النجمة بمدينة رام الله
واقع الإنتاج الزراعي
بخصوص الواقع الزراعي؛ فنلاحظ من الجدول أدناه تراجعاً في المساحات الزراعية وبالتالي تراجعاً في الإنتاج الزراعي، وحسب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية أو ما يعرف بالاونكتاد (UNCTAD) 2015، فإن الإنتاج الزراعي في الفترة ما بين عام 1968- 2011 كان كما يلي:
جدول يوضح أنماط التغير في حجم الأراضي الزراعية بالألف دونم خلال الفترة منذ 1968- 2011
|
الرقم:
|
|
|
1968-1970
|
1978-1980
|
1984-1986
|
1990
|
2011
|
1
|
الضفة الغربية
|
محاصيل حقلية
|
955
|
530
|
439
|
588
|
221
|
2
|
خضراوات
|
107
|
101
|
170
|
150
|
96
|
3
|
أشجار مثمرة
|
670
|
983
|
1034
|
1055
|
613
|
|
المجموع
|
1732
|
1614
|
1643
|
1793
|
930
|
4
|
قطاع غزة
|
محاصيل حقلية
|
53
|
23
|
35
|
37
|
25
|
5
|
خضراوات
|
20
|
39
|
40
|
48
|
34
|
6
|
أشجار مثمرة
|
69
|
93
|
108
|
103
|
47
|
|
المجموع
|
142
|
155
|
183
|
188
|
106
|
|
|
|
|
|
|
|
|
ولعل التراجع يعود إلى أسباب عدة من أبرزها ما يلي:
الاحتلال الإسرائيلي
السبب الأول بالطبع هو الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والسياسات والإجراءات الإسرائيلية وسيطرته شبه الكاملة على الموارد الطبيعية وهي الأرض والمياه والأصول النباتية والحيوانية، فعلى سبيل المثال لا للحصر وحسب اتفاقية أوسلو فإن:
منطقة ما تسمى (أ) تبلغ مساحتها 18% من إجمالي مساحة الضفة الغربية، منطقة ما تسمى (ب) تبلغ 22% . باقي المساحة المتبقية وما يسمى ب منطقة (ج) تقع تحت السيطرة الإسرائيلية من ضمنها حوالي 40% أعلنها الاحتلال أراضي دولة ويحظر فيها جميع الأنشطة الاقتصادية والبناء وغيرها، بالإضافة إلا أن 30% من الأراضي أعلنها الاحتلال كأراضي عسكرية ومحميات طبيعية.
إضافة إلى ذلك؛ تسبب جدار الفصل العنصري في تدمير جزء كبير من الأراضي الزراعية الخصبة، وحدّ من الوصول إلى 170 ألف دونم من إجمالي المساحة المزروعة، والتي تعادل حوالي 10%. كما أن سياسة الاحتلال الممنهجة بضم وتدمير الأراضي واقتلاع الأشجار المثمرة وتدمير الآبار زادت الأمر سوءا.
الاكتفاء الذاتي
ولا يخفى على أحد، بأن الاكتفاء الذاتي في المنتجات الغذائية وخصوصا القمح والدقيق حسب البيانات الرسمية لعام 2014-2017 لا تتعدى وللأسف الشديد 5.23%، وبمعنى آخر نستورد ما قيمته 94.87% من القمح وهو أهم سلعة إستراتيجية.
ويبلغ الاكتفاء الذاتي في مجموعات الحبوب والأعلاف حوالي 9.48% ونستورد ما نسبته 90.52%. هذا وفي نفس المجالات التي نعتبر بأننا حققنا فيها مستوى جيد أو جيد جدا من الاكتفاء الذاتي، فيتبين بأن اغلب المواد الخام مستورة من الخارج، وبمعنى آخر بدون استيرادها لا نحقق المستوى المطلوب ومثال ذلك منتجات الألبان حيث نسبة الاكتفاء الذاتي بلغ 87.64% وهكذا دواليك.
واقع الأمن المائي
بموجب اتفاقية أوسلو يجب أن يحصل الفلسطينيون على 1358 مليون م3 من المياه سنوياً، ولكن لم يحصلوا إلا على 87 مليون م3 في عام 2011 فقط. بعد عام 1994 استطاع الفلسطينيون حفر آبار تزودهم ب 13 مليون م3 سنويا من المياه، وهذا أقل من الحصة المخصصة للفلسطينيين وهي 20.5 مليون م3 سنويا. حيث لجأت السلطة لحلّ الفجوة المائية من خلال الشراء المباشر من إسرائيل. وعلى الرغم من ذلك، فإن 97% من مياه قطاع غزة لا تنطبق عليها معايير منظمة الصحة العالمية.
التقديرات تشير إلى حاجة فلسطين مستقبلا إلى 70-80 مليون م3 سنويا، وبمعنى آخر نحن نتحدث عن مياه الشرب ولا يوجد حصة مائية زراعية، وبالتالي هذا سببٌ آخر لتراجع الإنتاج الزراعي بسبب شح المياه، لذلك معظم الزراعة في الأراضي الفلسطينية هي بعلية بالأساس.
السلطة الفلسطينية والأمن الغذائي
أكدت السلطة الوطنية في أجندة السياسات الوطنية 2017-2022 على التزامها بأهداف التنمية المستدامة في قمة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2015، والتي تبناها أكثر من 182 من زعماء دول العالم. حيث ينصُّ الهدف الثاني على "القضاء تماما على الجوع وتحقيق الأمن الغذائي وتحسين التغذية وتشجيع الزراعة المستدامة بحلول عام 2030". وإن تحقيق الأمن الغذائي هو أحد الأهداف الرئيسية لوزارة الزراعة الفلسطينية، وقد بدأوا خلال العام الماضي (عام 2019) بإعداد "خطة الاستثمار الوطنية في مجال الأمن الغذائي في فلسطين" بالتعاون مع منظمة الغذاء والزراعة (FAO)، واعتقد أنها في قيد الإعداد، وهي خطوة بالاتجاه الصحيح ولكنها غير كافية.
إلا أن ذكر الأمن الغذائي في المستوى الرابع في أجندة السياسات الوطنية يشير إلى أن الاهتمام بموضوع الأمن الغذائي انحصر في المجال الخدمي، ولم تتطرق الأجندة في أي من مستوياتها الأخرى للأمن الغذائي، إذ كان من الأجدر التعامل مع الأمن الغذائي كمنظومة شاملة من السياسات الوطنية، والتي تدمج بها السياسات الاقتصادية والاجتماعية العامة، ويجب ربط الأمن الغذائي برؤية وطنية أشمل كأمن إنساني وقومي. وهذا يدل على عدم الوضوح في مفهوم الأمن الغذائي والتغذوي في فلسطين، ما أدى إلى غياب أو عدم الوضوح في توزيع الأدوار والمسؤوليات والصلاحيات بين وزارات الاختصاص، وهذا مدعاة إلى استحداث قيادة وطنية تنظم هذه الأدوار، وتنسق مع المؤسسات الدولية ذات العلاقة.
الموضوع الآخر، هو التعامل مع ملف الفقر والبطالة والأمن الغذائي من منظور إغاثي وليس من منظور تنموي، وبمعنى آخر التعامل مع آثار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وليس معالجة أسبابها. إضافة إلى ذلك افتقار المنظومة القانونية الفلسطينية إلى نصوص صريحة حول حماية الحق في الحصول على الغذاء، مع عدم وجود فهم مشترك لمفهوم الأمن الغذائي بين وزارات السلطة والمجتمع المحلي، وغياب نظام معلومات حول الأمن الغذائي وغياب نظام تسويقي منحاز لصغار المزارعين لدعم المنتجات المحلية.
المرحلة الرابعة:
وهي مرحلة كورونا وما بعد كورونا، وهذا ما سنسلط الضوء عليه في هذه المقالة.
ماذا عن الأمن الغذائي بعد كورونا؟
حسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني ووزارة التنمية الاجتماعية، فإن نسبة البطالة قبل اندلاع جائحة كورونا بلغت 29% ، وبعد الجائحة قفزت النسبة في شهر واحد تقريبا إلى 40%، أي بمعنى آخر حوالي 2 مليون فلسطيني تعرضوا للانكشاف وانعدام الأمن الغذائي.
في حالة استمرار الأزمة، ستزيد نسبة الفقر والبطالة وبالتالي ينعدم الأمن الغذائي، كما أن سوء التغذية سيطال وبشكل مفاجئ ما نسبته 50% أو أكثر، ما يكشف هشاشة السياسات والإجراءات الفلسطينية بكل مكوناتها وخير دليل على ذلك جائحة كورونا.
تجارب بعض الدول الأخرى في معالجة انعدام الأمن الغذائي وقت الأزمات:
إذا نظرنا إلى تجارب الدول الأخرى والتي تمتلك السيادة الكاملة على أراضيها ومواردها الطبيعية فرغم ذلك؛ لجأت الكثير من هذه الدول إلى تشكيل هيئة مستقلة خاصة بالأمن الغذائي لحساسية الموضوع وخطورته، وهو أكبر من إمكانيات وزارة لوحدها، فعلى سبيل المثال لا للحصر، لجأت منظمة الأغذية والزراعة الفاو بتشكيل ما يسمى لجنة الأمن الغذائي العالمي، وأيضا لجأت سلطنة عُمان إلى تشكيل ما يسمى بالهيئة العامة للمخازن والاحتياطي الغذائي، وهي هيئة مستقلة تُعنى بالأمن الغذائي. ولجأت الإمارات إلى تشكيل ما يسمى بهيئة أبو ظبي للزراعة والسلامة الغذائية، ولجأت روسيا إلى تشكيل جسم مشابه منذ عشرات السنين، وتم ربطه بلجنة البذور الوطنية الروسية العليا، وحديثاً جدا أي قبل أسبوع؛ صادق الرئيس بوتين على ما يسمى بوثيقة أطلق عليها "عقيدة الأمن الغذائي الروسي" وهناك تجارب أخرى.
تبنت اغلب الدول إستراتيجيات وطنية قادرة على تخزين مواد غذائية تكفي شعوبها لمدة تتراوح ما بين ستة شهور كحد أدنى إلى سنتين، وهذا طبعا ليس موجوداً في فلسطين. من ناحية أخرى في أول اجتماع لمجلس الأمن في عهد كورونا، اتفقت مجموعة الدول العشرين على مواجهة اضطراب أسعار الغذاء وتوقعات أممية من أزمة غذائية حادة وغير مسبوقة. ورغم ذلك؛ لجأت روسيا قبل أيام إلى تقييد صادراتها من الحبوب وهي اكبر منتج لها في العالم، وذهبت كازاخستان إلى ابعد من ذلك لمنع تصدير الحبوب، وذهبت فيتنام إلى تعليق صادراتها من الأرز، وذهبت صربيا إلى تعليق صادراتها من زيت دوار الشمس ومنتجات أخرى، وتدرس الهند تعليق صادراتها من الأرز أيضا، وهناك مطالبات مجتمعية للضغط على الحكومة الأوكرانية بمنع صادرات الحبوب خشية امتداد أزمة كورونا وتوقعات بارتفاع أسعار الخبز قريبا.
ما العمل وطنياً؟
تحقيق الأمن الغذائي يشكل تحدٍ كبير حتى للدول العظمى والدول ذات السيادة. وفلسطينيا فمن الطبيعي أن يكون تحقيق الأمن الغذائي من أكبر التحديات، وذلك لخصوصية الوضع الفلسطيني المرتبط ارتباطا مباشرا مع الكيان الإسرائيلي، وعدم السيادة على الموارد الطبيعية وهي الأرض والمياه والأصول النباتية والحيوانية، وسيطرة الاحتلال على المعابر كما أسلفنا ما يشكل تدميراً شبه كامل للبنية التحتية الزراعية. ناهيك عن أن جائحة كورونا كشفت هشاشة الاقتصاد الوطني، حيث أن الحكومة الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني عجزت عن توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية.
لذلك فان مسؤولية تحقيق الأمن الغذائي أكبر من مسؤولية وزارة أو مؤسسة ما، ويجب أن تكون أولوية ومسؤولية وطنية شاملة من خلال تشكيل مجلس وطني للأمن الغذائي، وإعادة هيكلة الأنظمة والسياسات والإجراءات والقوانين وتكامل القطاعات لتوطين الاقتصاد الوطني المقاوم.
أهداف المجلس الأعلى للأمن الغذائي الفلسطيني المقترح:
الهدف العام:
تهدف اللجنة الوطنية للأمن والسيادة الغذائيين إلى معالجة الأمن الغذائي والتغذية في ظل الأزمات الطارئة والأزمات الممتدة، وتحسين الأمن الغذائي للسكان المتضررين من الأزمات والمعرضين لخطر الانكشاف بطريقة تعالج الأسباب الكامنة، وبالتالي دعم الحق في غذاء كاف للجميع في سياق الأمن الغذائي الوطني.
من الأهداف الأخرى للجنة الوطنية للأمن الغذائي ما يلي:
رسم السياسات للأمن الغذائي والسيادة الغذائية في فلسطين والضغط على الكيان الإسرائيلي، وانتزاع حقوقنا في مجال السيادة الغذائية والأمن المائي، من خلال المنظمات الدولية، وتعزيز القدرة على التحرك سياسياً في حال إغلاق المعابر التجارية لأي سبب كان، وتحقيق العدالة الاجتماعية في مجال الأمن الغذائي والاعتماد على الذات، وتعزيز الاقتصاد الوطني المقاوم وصمود الشعب الفلسطيني وقت الأزمات المحلية والعالمية، ودعم القطاع الزراعي والتصنيع الغذائي والمزارعين والمشاريع الصغيرة والإرشاد والتوعية في مجالات الاكتفاء الذاتي؛ بما يتناغم مع الهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، والتي تنص على "القضاء تماما على الجوع وتحقيق الأمن الغذائي وتحسين التغذية، وتشجيع الزراعة المستدامة بحلول عام 2030". المساهمة في تحقيق الاكتفاء الذاتي إلى أقصى حدوده، وتقليل الاستيراد إلى الحد الأدنى من السلع الغذائية وخصوصا محاصيل الحبوب، والتركيز على الاكتفاء الذاتي الأسري والتخفيف من آثار التغير المناخي، وأثره السلبي على كميات الإنتاج الزراعي في فلسطين.
المزارع الصغيرة المنتجة لمعظم الغذاء الذي نستهلكه
أصحاب العلاقة للأمن الغذائي الوطني:
المؤسسات والوزارات العامة وعلى رأسها: وزارة الزراعة، سلطة البيئة والطاقة، سلطة المياه، وزارة الصحة، وزارة الاقتصاد الوطني، وزارة التنمية المجتمعية، وزارة العمل، وزارة الحكم المحلي، وزارة التخطيط والجهات الفاعلة في مجال الأمن والسياسة: الأجهزة الأمنية والمجلس التشريعي ومنظمات المجتمع المدني، وكيانات القطاع الخاص، ومنظمات حماية المستهلك، ومنظمات البحوث والجامعات ومنظمات الإرشاد، والمزارعون ولا سيما أصحاب الحيازات الصغيرة، والمؤسسات المالية والجهات المانحة، والمجتمعات المحلية والأفراد المتضررون، والمنظمات الحكومية الدولية والجهات المانحة: مثل منظمة الفاو ومنظمة الصحة العالمية وبرنامج الغذاء العالمي والبنك الدولي وغيرها.
مبررات الطرح
في ظل الظروف الراهنة والأزمات المتعاقبة والمتزامنة التي تجتاح العالم ومنها أزمة كورونا وأزمة النفط وأزمات اقتصادية أخرى، وتوقعات سوء الحالة في المرحلة القادمة في العالم بأسره، ما يؤدي إلى مرور الدولة بمرحلة ركود في الدورة الاقتصادية. هذا وعادة فإن الركود يحدث نتيجة وجود عدد كبيرٍ من المعروض من السلع والخدمات مقابل تراجع مستويات الطلب، أي أن معدلات الإنتاج تفوق معدلات الاستهلاك، وبالتالي يدفع الاقتصاد إلى الانزلاق إلى مرحلة الركود، مما يؤثر بالسلب على دخل الأسر وتراجع الأسواق المالية في الدولة.
على الجانب الأخر، الكساد هو باختصار عبارة عن كارثة اقتصادية، حيث ينخفض فيه الناتج المحلي الإجمالي بشكل حاد ويعتبر أكثر ضررًا من الركود على الاقتصاد بوجه عام. ويحدث الكساد أيضًا عندما يتخطى الإنتاج مستويات الاستهلاك أيضًا ولكن يكون الفارق بينهما كبير جدًا.
وينتج عن الكساد ارتفاع معدلات البطالة بشكل كبير مع تراجع حاد في الأجور. وأكثر الأمثلة الشائعة على الكساد هو وقوع الكساد الكبير في عام 1930، والذي استمر لعقد من الزمن. أي بمعنى أدق يعتبر الكساد مرحلة متقدمة من الركود، فإذا لم تتخذ الدولة إجراءات فعالة للحد من الركود، فقد ينتهي بها المطاف لتعاني من الكساد.
والعالم اليوم يتجه وبسرعة إلى الركود والكساد، وهذه الظاهرة نادرة في تاريخ البشرية ولها تداعيات كارثية على اقتصاديات العالم، حيث يؤدي كلٌ من الكساد والركود إلى تدهور النشاط الاقتصادي، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع مستويات العرض بشكل كبير. بالإضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة وتراجع معدلات التوظيف والأجور وإغلاق الكثير من الشركات بعد إفلاسها، وأخيرًا تراجع أسعار الأسهم بشكل كبير وتراجع أرباح الشركات.
لذلك كله وبما أن فلسطين جزء من المنظومة الدولية وعلى العكس تعيش في ظروف أصعب، أرى انه آن الأوان لتشكيل لجنة وطنية تضع السياسات للأمن والسيادة الغذائيين وتعزيز الاقتصاد الوطني المقاوم للأسباب التالية: |
توفر الإرادة السياسية والمجتمعية وخصوصا في الوقت الحاضر، حيث يعتبر القطاع الزراعي من أهم القطاعات ذات الأولوية في فلسطين، وبالتالي مكافحة الفقر والمجاعة وخلق فرص عمل وارتفاع عدد الفقراء إلى 2 مليون فلسطيني تقريبا في أول شهر من جائحة كورونا والعدد مرشح للمزيد، والتقديرات تشير إلى ارتفاع العدد إلى 2.5 مليون فلسطيني بعد انتهاء شهر رمضان، واستمرار الاحتلال الإسرائيلي وعدم وجود أفق سياسي، وتدمير الاحتلال الممنهج للبنية التحتية ومصادرة الأراضي، والاعتماد الكبير على الاستيراد في مجال المنتجات الغذائية وخصوصا في السلع الإستراتيجية كالقمح والدقيق، حيث نستورد حوالي 95% من احتياجاتنا. بالإضافة إلى التغير المناخي المتزايد في الآونة الأخيرة، وآثاره السلبية على القطاع الزراعي في فلسطين والعالم بأسره.
التدخلات الوطنية المقترحة:
تأسيس لجنة وطنية للأمن والسيادة الغذائيين، وهو عبارة عن جهات حكومية سيادية ومؤسسات أهلية وخبراء وأكاديميين وقانونيين واقتصاديين وزراعيين وغيرهم، وينبثق عنها لجان تخصصية فرعية:
- إنشاء بنك وطني لتخزين المواد الغذائية لاستخدامها في الظروف الطارئة، بحيث تكفي مدة ستة شهور على الأقل أسوة ببعض الدول.
- إنشاء بنك بذور وطني والتوجه نحو الزراعات العضوية والبيئية الخالية من الكيماويات.
- إنشاء بنك معلومات وطني موحّد يجمع بين وزارات الاختصاص
- تطوير مدارس زراعية وطنية ( تعني بالزراعة العضوية والبيئية والمائية والممارسات الصديقة للبيئة)
- تأسيس مجلس وطني للتصدير ( من خلال وجود بيت تعبئة في الأردن ومصر، لتوريد المواد الخام وتعبئتها بالأردن، لتشغيل العمال الفلسطينيين بالمخيمات، وتخفيف التكلفة ووضع أسعار منافسة على مستوى العالم).
- لجنة وطنية لإدارة الأراضي الزراعية العالية القيمة الوقفية.