من فلسفة السكاكيني إلى تنمية القرى بالمدارس: حكايات التثقيف البيئي في فلسطين قبل النكبة
مدارسنا اليوم بارعة في شيء واحد وهو "تكديس المعلومات في أذهان الطلبة" أما التعلّم الحقيقي من خلال التأمل والتجربة والمجاورة فإنها ليست واردة في الكثير من الخُطط التعليمية. مع ذلك فإننا وبالعودة إلى فلسفة السكاكيني التي عاشها مع طلابه في القدس قبل أكثر من 100 عام سنجد حكايات مُلهمة، بالأخص وأن هذه الفلسفة انتشرت ولا زالت تنتشر بفضل الدكتور منير فاشة الذي يعتبر من أبرز النقاد التربويين في بلادنا وقد استفاد في طفولته من فلسفة السكاكيني.. وهذه الحكايات تسوقنا إلى تأمل حكايات د.يوسف هيكل مع المدرسة التي تعلم فيها في يافا، ثم حكايات مسابقات الحدائق المدرسيّة وكيف كان الأستاذ راشد الزعبي مدير مدرسة الشيّخ مونّس يُحاول النهوض بالقرية والفلاح الفلسطيني من خلال المدرسة وطاقمها.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
|
خليل السكاكيني |
لا شك أن مدارسنا اليوم، مهما كان وضعها مُزريًا، فإنها بارعة في شيء واحد وهو "تكديس المعلومات في أذهان الطلبة" أما التعلّم الحقيقي من خلال التأمل والتجربة والمجاورة فإنها ليست واردة في الكثير من الخُطط التعليمية. مع ذلك فإننا وبالعودة إلى فلسفة السكاكيني التي عاشها مع طلابه في القدس قبل أكثر من 100 عام سنجد حكايات مُلهمة، بالأخص وأن هذه الفلسفة انتشرت ولا زالت تنتشر بفضل الدكتور منير فاشة الذي يعتبر من أبرز النقاد التربويين في بلادنا وقد استفاد في طفولته من فلسفة السكاكيني.. وهذه الحكايات تسوقنا إلى تأمل حكايات د.يوسف هيكل مع المدرسة التي تعلم فيها في يافا، ثم حكايات مسابقات الحدائق المدرسيّة وكيف كان الأستاذ راشد الزعبي مدير مدرسة الشيّخ مونّس يُحاول النهوض بالقرية والفلاح الفلسطيني من خلال المدرسة وطاقمها.
فلسفة السكاكيني.. والمشي على الأقدام!
يُعتبر خليل السكاكيني من أبرز التربويين في فلسطين، وقد عُقدت ندوات كثيرة عن الأفكار التي طرحها في المجال التربوي كما كُتبت الكثير من المقالات التي توضّح لنا اليوم مدى تميّز تلك الأفكار، وبالأخص أنها طُرحت قبل 100 عام من قِبَل مدير مدرسة كان يُنادي بثورة في مجال التعليم، وما يُهمنا هنا هو اعتقاده الجازم بأن هذه الثورة التربوية لا تكون إلا بالارتباط بالطبيعة.
في بحث بعنوان "خليل السكاكيني انعتاق التلميذ، عقلًا وروحاً وفكراً وجسداً" يسرد لنا الباحث ناجح شاهين أفكار السكاكيني والقواعد التي وضعها في مدرسته مثل: "يجب على المدرسة أن تعزز من علاقة التلاميذ بالطبيعة. ولذلك لا بد من ممارسة "السياحة" الداخلية بغرض التعرف على البلاد، وكذلك لا بد من الخروج إلى الطبيعة: زيارة الحقول، وتسلق الجبال لما في ذلك من فوائد تتصل باكتساب الصحة والنشاط و"إحياء عاطفة السرور" لدى التلاميذ على حد تعبير السكاكيني.
هذه الأفكار، لم تبقَ حبيسة المدرسة الدستورية التي أسسها السكاكيني عام 1909م، بل نجد أن د.منير فاشة الذي درس في مدرسة "الكلية الوطنية" والمعروفة بمدرسة أبو ريا (1947م) كانت من أفضل المدارس "المُغذيّة" له، فيقول: "إذا فكرت في الأماكن التي درَست أو درَّست فيها؛ أجد أن الأماكن التي كانت مغذية لي لم تكن حدود أقفاصها واضحة ولم تكن أقفاصها مبهرة، بل كانت روحها هي رصيدها ومصدر قوتها".
منير فاشة
ثم يوضح "فاشة" كيف أن روح مدرسة "أبو ريا" كانت مبنية على فلسفة السكاكيني بالتعرف على فلسطين مشيا على الأقدام، فمدير المدرسة "خليل ابو ريّا" كان قد درس على يد "خليل السكاكيني" وتأثر به وبأفكاره التي انتقلت إلى د.منير فاشة الذي يُعتبر من أبرز التربويين الفلسطينيين اليوم وكثيرًا ما يُشير إلى اعجابه بالسكاكيني وأبو ريا فيقول في مقالته (أهمية الرؤيا في العمل التربوي): "كان أبو ريا يُغلق المدرسة أيام السبت الساعة التاسعة صباحا ويأخذ جميع الطلبة والمعلمين والموظفين رحلة على الأقدام في الجبال والوديان حول رام الله، لا نتعرف خلالها على الطبيعة ونستمتع بها فحسب بل أيضا على بعضنا البعض، صغارا وكبارا. تلك المشاوير جزء من الروح وليس القفص. كان عمري 9 سنوات عندها".
الارتباط بالطبيعة.. وفنون التدريس
في يافا، لم تكن هناك رحلة كل اسبوع.. إلا أنه كانت هناك أيام للنزهات أو (شطحات) كما يسميها د.يوسف هيكل في مذكراته (أيام الصبا) حيث يقول: "كانت أيام الشطحات من أجمل الأيام عندي" فكانت شطحات طلاب يافا إلى مستعمرة سارونا الألمانية (في وسط تل ابيب اليوم) أو إلى نهر العوجاء في منطقة تُعرف تسمى "جريشة" وهي طاحونة لطحن الحبوب وتدار بقوة المياه المتدفقة من النهر (لا تزال بعض آثارها حتى اليوم) وكان تستغرق الطريق ساعة سيرًا على الأقدام.
قرية جريشة على نهر العوجا
وعن ذكرياته في مدرسة المعارف ودار العلوم، يخصص د.يوسف هيكل (آخر رئيس بلدية لمدينة يافا قبل النكبة) فصلًا كاملًا من سيرته ويحدثنا فيه عن أستاذ مميز هو الأستاذ عيسى السفري وهو كذلك من أعلام فلسطين، فيقول "هيكل" عنه بأنه: "كان في تعليمه لا يستعمل كتابًا لا في الحساب ولا في العلوم الطبيعيّة والكتاب عنده هو ذهن التلميذ".
ففي أحد دروس العلوم حول الحيوانات القاضمة والقاطعة وبعد أن قام الأستاذ "السفري" بتعليمهم المبادئ الأساسية لفهم هذه المادة، خرج من الصف وعاد وهو يحمل لهم حملًا وأخذ الطلاب يضحكون ويضحك معهم، ثم راحوا يتأملون هذا المخلوق وما به من خصائص مميزة ثم لم يكتف بذلك بل طلب منهم لمس أسنانه، وكل ذلك في أجواء من المتعة والشغف يفصلها "هيكل" بأسلوب سلس وجميل في كتابه. والأجمل أن الاستاذ لم يكتف بذلك بل كان يخرج من الصف ويعود للطلاب بكلب كأحد الحيوانات القاطعة، ولكن هذه المرّة لم يطلب منهم مس أسنان الكلب.. حتى لا يقع حرج بين الطلبة المسلمين ممن يرون في لعاب الكلب نجاسة - كما يوّضح "هيكل" في ختام هذه الحكاية.
صحيفة فلسطين 11 سبتمبر 1934
الحدائق المدرسيّة .. وتعاون القرية والمدرسة
هذه الأجواء التعليمية من رحلات المشي على الأقدام والدروس المميزة التي تربط التلاميذ بالطبيعة من حولهم، لم تكن لتخلو من تطبيقات عمليّة تتجلى في حياة التلاميذ اليومية، وهو ما نجده في الكثير من المدارس التي كان تخصص أراضي واسعة كي يستفيد منها الطلاب في تطبيق دروس الزراعة.
فقد جاء في مجلة "هنا القدس" 1942 أن قرية الطيرة قضاء اللد تخصص السفح الجنوبي من الجبل شمالي القرية للتعليم الزراعي وتبلغ مساحته 160 دونمًا، كما نجد خبرًا في الصفحة الرئيسية من صحيفة فلسطين الصادرة في 11 سبتمبر 1934 أنه تم تأسيس 20 حديقة مدرسية في مدارس قرى الجنوب. هذا غير المقالات التي كان ينشرها موظفون في وزارة المعارف يعملون في وظيفة "مراقب حدائق المدارس" أو "مفتش الحدائق" في مجال التثقيف الزراعي.
أما قياس مدى استيعاب الطُلاب والهيئة التدريسية لهذه العلوم والمعارف في مجال الزراعة فقد كانت تُقاس في مسابقات الحدائق المدرسية التي كانت تُعقد على مستوى فلسطين، فنجد خبرًا عن حفلة باهرة بعد فوز مدرسة شويكة (طولكرم) بالكأس عام 1941، أو خبرًا مفاده أن مدرسة قرية عبلين (حيفا) قد فازت بالكأس عام 1942 بعد أن تفوقت على 66 مدرسة اشتركت في المسابقة.
صحيفة الدفاع - الثلاثاء, حزيران 10, 1941
ختامًا، فإن مدرسة مميزة، من مدارس القرى الفلسطينية قضاء يافا، هي مدرسة الشيخ مونس التي أقيمت فوق أراضيها جامعة تل أبيب، وقد بلغت مساحة المدرسة 36 دونمًا، وفيها مكتبة ضمت 478 كتاباً. تميَّزت المدرسة بوجود غرف يتمرن فيها الطلاب على التجارة والأعمال اليدوية كما كانت أكثر أراضي المدرسة مُخصصة للتطبيق الزراعي في مجال تربية الدواجن، وزراعة الأشجار المثمرة والحمضيات والموز، وزراعة الخضار والمشاتل. وكل هذا كان في سبيل تنمية القرى، فقد كتب مدير المدرسة - الأستاذ راشد الزعبي - مقالة في صحيفة المنتدى (1944) بعنوان: "التعاون بين المدرسة والقرية" خلاصتها، أن الفلاح لا بُد له من النهوض لتحسين أحواله.. وأن هذا كُله بحاجة إلى تعاون مع رجال المدرسة.. بالأخص إذا "كانوا عاملين مخلصين مجدين، لا يرون واجبهم محصورًا في اعطاء الدروس لصغار الطلاب وكفى".
مقالة الأستاذ راشد الزعبي – صحيفة المنتدى 1944