المياه متوافرة... المشكلة في سوء إدارتها

حبيب معلوف
فرضت مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان، في تموز الماضي، زيادة مقطوعة بقيمة 45 ألف ليرة على المشتركين سنوياً بحجة دعم استكمال "منظومة المياه" التي تتضمن إنشاء سدود ومحطات تكرير لجر المياه إلى بيروت. في غياب إستراتيجية مائية، تلجأ المؤسسة والقيمون على السياسة المائية إلى سياسة إنشاء السدود حصراً، فيما تؤكد الدراسات العلمية أن تطوير مصادر المياه الموجودة حالياً كفيل بتحقيق "الاكتفاء المائي"، وبكلفة تقلّ كثيراً عن مئات ملايين الدولارات التي تُصرف على السدود.
هذه الزيادة على اشتراكات المياه من أجل دعم استكمال "منظومة المياه" بحلول سنة 2022. تتضمن تأهيل شبكات المياه غير الصالحة وتجديدها، استحداث آبار ومحطات تكرير، المساهمة في مشروع جر مياه الأولي إلى بيروت، إنشاء محطة تكرير للآبار المالحة التي تغذي بيروت الكبرى، استلام ثلاث محطات تكرير للصرف الصحي، استكمال مشروع سد جنة ونقل المياه منه إلى ضبيه. علماً أن رسم الاشتراك زاد عام 2014 من 236 ألف ليرة إلى 296 ألفا.
مشكلة مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان شبيهة بمشاكل مؤسسات الدولة التي لا تعمل ضمن إستراتيجية شاملة. فلو كانت لهذه المؤسسة (كما لوزارة الطاقة والمياه وللحكومات المتعاقبة)، إستراتيجية فعلية لإدارة المياه غير تلك التي اقرها مجلس الوزراء عام 2012 من دون نقاش حقيقي، لكانت انطلقت - قبل أي قرار بفرض رسوم جديدة من درس المعطى الطبيعي- من مياه سطحية وينابيع متفجرة أولاً، فاعتبرت حماية المصادر من التلوث والاعتداء والسرقة أولوية قصوى، وضبط الهدر في الشبكات وتطوير المصادر والتفكير بالبدائل أولى من إنشاء السدود وأقل كلفة!
تطوير المصادر
ليست عبارة تطوير المصادر كبديل عن السدود نظرية تُطلق في الهواء. فالمصدر الأساس للقسم الأكبر من مياه بيروت وساحل المتن يمكن تأمينه من نبع جعيتا إذا ما تم تطويره. وهذا ما أكده تقرير البعثة الألمانية التي عملت بين عامي 2006 و2014 لحماية مغارة جعيتا من التلوث، ودراسة مصادر المياه المتدفقة داخلها. إذ قدّر حجم المياه المتدفقة من المغارة بـ 1690 ليتراً في الثانية، أي ما يقارب 146 ألف متر مكعب في اليوم. وهذا يعني تدفق أكثر من ضعف التقديرات الرسمية (70 ألف متر مكعب يومياً) في شهر الشحائح (ايلول)!
وأكد التقرير أن الكمية المتفجرة شتاء من المغارة تتجاوز مليون متر مكعب يومياً، وأن المياه المتدفقة من النبع غير محصورة جيدا، بمعنى أنه يمكن الاستفادة من كميات أكبر من المياه وجرها إلى بيروت. ولفت إلى أن النفق الذي ينقل المياه إلى محطة ضبية لا يستوعب كمية المياه كلها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى محطة ضبيه التي لا تستطيع أن تعالج إلا كمية محدودة من المياه. وأشار التقرير إلى أن ما لا يقل عن 30% من المياه المتدفقة تتسرب قبل أن تصل إلى محطة ضبية، فيما يُهدر 40% بسبب اهتراء الشبكات. ولفت إلى إمكانية إنشاء سد في منطقة داريا، فوق نبع جعيتا، إذا تطلّب الأمر بكلفة لا تتجاوز خمسين مليون دولار. فلماذا لم تأخذ وزارة الطاقة والمياه ومؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان بهذه التوصيات التي تساهم بزيادة المياه المتوفرة من جعيتا وحدها إلى الضعف؟ ولماذا لا يزال بند "معالجة الهدر في الشبكات" على برنامجها، بعد كل هذه المدة؟ وألم يكن أولى من إنشاء السدود غير الضرورية، تطوير المصادر ووقف هدر الشبكات والسرقات؟
أثبت تقرير البعثة الألمانية عدم دقة الأرقام الرسمية، وأن المشكلة الحقيقية تكمن في "إدارة" الثروة المائية لا في قلة المصادر. كما اثبتت صحة المراهنة على التخزين الجوفي للمياه لا على التخزين السطحي، وعلى ضرورة حماية المصادر الجوفية المتفجرة وحسن توزيعها بدل البحث عن سد مجارٍ ملوثة وحصرها وتعريضها للمزيد من التلوث والتبخر… ثم إنشاء محطات لمعالجتها وإعادة ضخها بأكلاف مضاعفة وبنوعية متدنية.
إلى ذلك، اكتشفت البعثة مجارٍ أخرى تتدفق من مغارة جعيتا (أحدها بقوة 20 ألف متر مكعب يومياً) يمكن أن تغنينا عن حفر الآبار الارتوازية المكلفة وإنشاء السدود. استخدام مثل هذه المجاري يمكن أن يغذي الشبكة الحالية التي تصل مياه جعيتا بمحطة ضبية بكميات إضافية ضخمة من المياه، على أن تستخدم الأموال الطائلة التي تنفق لحفر آبار ارتوازية (كلفة حفر 3 آبار بالقرب من مغارة جعيتا بلغت ثلاثة ملايين دولار لسحب 9 آلاف متر مكعب يوميا وضخها إلى منطقة كسروان)، في تطوير الشبكة وتوسيعها وضبط الهدر بكلفة لا تقارن بكلفة حفر الآبار الارتوازية وتجهيزها وتشغيلها، ولا تقارن بالكلفة المقدرة لسد جنة (نحو مليار دولار) وسد شبروح (أكثر من 60 مليون دولار لتخزين 7 ملايين متر مكعب من المياه غير الصالحة للشرب ! (البعثة أشارت أيضاً إلى إمكانيات كبيرة جدا لاكتشاف مجار أخرى في المنطقة الممتدة فوق جعيتا وصولاً إلى منطقة افقا الجردية، وهي منطقة وصفتها بـ"مستودع للثلوج" التي تغذي الخزانات الجوفية، ويمكن استثمار معظمها بقوة الجاذبية من دون حاجة إلى مضخات ومحطات معالجة… بما يؤمن فائضا كبيرا لحاجاتنا المائية، ويغنينا عن الحاجة إلى مشاريع السدود، خصوصاً إذا ما ترافق ذلك مع سياسة توزيع وترشيد حكيمة.
أي ميزان مائي لبيروت؟
أمام هذه المعطيات، المفترض قبل أي أمر آخر حصول مراجعة عميقة للميزان المائي لبيروت الكبرى على الأقل، ولإستراتيجية إدارة المياه في لبنان.
فإذا كانت المصادر المتوفرة حاليا لبيروت الكبرى وقسم من جبل لبنان (ساحل المتن على الأقل) من نبعي جعيتا والقشقوش تقدّر بنحو 200 ألف متر مكعب يومياً في فصل الشحائح، يضاف إليها فوار انطلياس (أكثر من 50 ألف متر مكعب)، والى الآبار على مجرى نهر الكلب (نحو 150 متر مكعب)، ونبعي عين الدلبة والديشونية (بين 30 و40 مترا مكعبا ) وآبار بعبدا والدامور التي ضربها التلوث والتملح، ناهيك عن مصادر أخرى... سنكون أمام كميات لا بأس بها من المياه في فصل الشحائح، قياسا إلى عدد المشتركين في بيروت وجبل لبنان (نحو 392 ألف مشترك). فيما تؤكد دراسات هيدروجيولوجية إمكانية حفر آبار في مرج بسري، بدل إنشاء سد سطحي، كاحتياط استراتيجي في حال تراجع المتساقطات، بما ينسف كل الادعاءات بوجود نقص في الميزان المائي لبيروت وبالحاجة إلى السدود!
مؤسسة بيروت وجبل لبنان أشارت في بيانها الأخير إلى أن إجراءاتها ساهمت في "وقف عمل 30% من صهاريج المياه في مناطق بيروت وجبل لبنان". وهنا، يفترض تذكيرها بأن من ينقلون المياه في الصهاريج لا يأتون بها من الخارج، مما يؤكد أن المياه متوفرة في لبنان من دون حاجة إلى السدود المكلفة، وأن المشكلة هي في سوء الإدارة والهدر والفساد.