خاص بآفاق البيئة والتنمية
المؤرخ مخلص محجوب
غيّب الموت، في الـ 11 من شباط الفائت المؤرخ مخلص محجوب الحاج حسن، المؤرخ العاشق لجنين، والناقد لتدمير مرجها العامر، والمتتبع لمطرها وأحوالها وتحولاتها.
مما رواه الحاج حسن لك، قبل أشهر من رحيله، قصة جنين التي أسسها الكنعانيون كقرية باسم "عين جانيم"، في موقع المدينة الحالي. وترك هذا المكان بصمات واضحة على مدار التاريخ، إذ كان عرضه للقوات الغازية المتجهة جنوبًا أو شمالًا وكثيراً ما يطاله التدمير والخراب أثناء الغزو. وعُرفت في الحقبة الرومانية باسم "جينا"، ولما ورث البيزنطيون حكم البلاد أقاموا فيها كنيسة حملت الاسم نفسه. وقد عثر المنقبون الأثريون على بقاياها بالقرب من المسجد الكبير، ويعود تاريخ تأسيسها إلى القرن السادس الميلادي.
وسرد المؤرخ الراحل: جنين مدينة قديمة ورد أسمها بالمخطوطات البابلية والآشورية والمصرية القديمة، وفي التوراة والإنجيل. وورد ذكرها بأسماء مختلفة منها " جانيم وعين جانيم وجيرين وجنين " وعرفت جنين عبر تاريخها بكثرة الجنائن والبساتين. وهي واحدة من المدن العتيقة، ولا يضاهيها بالقدم إلا أريحا ونابلس والقدس ودمشق وصيدا في لبنان. وتأسست عام 4250 قبل الميلاد وبها عدد من المكتشفات الأثرية، وتعرضت المدينة لسلسلة من الغزوات التي دمرتها.
ودوّن الحاج حسن، الذي أّلف كتاب " جنين: ماض وحاضر"، ونشر الكثير عن حكايتها: استردت المدينة حريتها، في العهدين الأيوبي والمملوكي وانتعشت اقتصاديًا وعمرانيًا وتأسست فيها محطة للحمام الزاجل لتربط مصر بالشام، وكانت تابعة لنيابة صفد. وصارت ممراً لمحطات القوافل والبريد من مصر إلى الناقورة وصولاً إلى دمشق. وشهدت جنين تطورا ملحوظا في عهد المنصور قلاوون الهكاري 1281. وشيّد طاجار الداوادار الخان التجاري المشهور الذي وصفه المقريزي في كتبه. وأصابها العام 1347 زلزالاً كبيراً دمّر جنين عن بكرة أبيها.
وزاد: احتل الإنجليز جنين في عهد السلطان العثماني محمد وحيد الدين السادس في 20 أيلول 1918، وعيّن الميجر ماك كرين حاكمًا عسكريًا للمدينة، واختيرت جنين مقرًا لمحطة الشرق الأدنى التي أنشأها الإنجليز عام 1941. وخلال الحرب العالمية الأولى اتخذها الألمان مقرا لسلاحهم الجوي حيث أقاموا فيها مطاراً عسكرياً ضخمًا، لا زال السكان يطلقون عليه إلى اليوم الإسم نفسه، في أراضي مرج ابن عامر.
وبحسب المؤرخ الذي أحب مدينته وسهولها، فقد بدأ الزحف على سهل مرج ابن عامر في سبعينيات القرن الماضي، وانتعش تدميره في الثمانينيات، وتفاقم منذ التسعينيات حتى اليوم. يسرد:" ما زاد الحالة ترديًا، الزحف الفاضح، الذي تخلى عن إعمار الجبال، غازيًا السهل الزراعي الأخضر، بشكل مريب، فكاد يبتلعه مع الأسف الشديد، فأضحى المرج مسرحًا للعمارات لا البيارات، وصار حي البساتين من أكبر الأحياء السكنية في القطاع الشمالي، وصارت البركة مطبًا للنفايات، ومكرهة صحية لأكثر من عقدين."
وقال: شهدت جنين الكثير من الأحداث كالثلجة الكبرى في السادس من شباط 1950، ووقتها شلت مرافق الحياة، ووصل الزائر الأبيض لنصف متر. كما فقدت طواحينها المائية الأربع: أم القناطر (آثارها باقية قرب دوار يحيى عياش)، والبلد ( كانت خلف المسجد الصغير)، والصباحية ( قرب وزارة الحكم المحلي اليوم)، و(المجيدية). كما فقدت الحمام التركي الذي دمره الزلزال، ( بجوار المسجد الصغير) ونهر البلد، والتل الذي كان مقرًا للبريد الطائر (الحمام الزاجل)، وسوقًا للدواب، ومقبرة، ومكانًا لإقامة البرامكة والنّوَر، والذي تحول إلى موقف للمركبات عام 1965.
مما أورده الراوي، أن مدينته خسرت الكثير من آثارها كبركة البساتين، التي أسسها محمود بيك عبد الهادي، وتتسع لأكثر من 1100 متر مكعب من الماء المخزن في بركة مربعة طول ضلعها 15 مترا وعمقها نحو 5 أمتار، ومدرجة إلى أربع مستويات، وتروي نحو 1200 دونم مزروعة بالرمان والتين والتوت والليمون الحلو والنخيل والقرايصة والسفرجل والخضروات، معتمدة جميعها على مياه عين نيني.
ومما تقرأه في كتابه، بعد أيام من غيابه: "كانت بركة البساتين محاطة بأشجار العوسج والعليق، وفي شرقها مساكر (مداخل) تحويل القنوات، وخضعت لنظام تفتيش ورقابة مشددة من قبل مفتشي الصحة والبلدية، وعُيّن في بلدية جنين طبيبٌ متفرغٌ، منذ تأسيس البلدية في العهد العثماني عام 1883، ويشمل التفتيش سلامة القنوات وصلاحية العبَارات والجسور والعيون وتعقيمها. ووجد الشبان في البركة لنحو 130 عامًا ضالتهم للسباحة، فمدينتهم دون بحر ولا نهر دائم ( المقطع كان موسمي الجريان)، وقد أعادت أمطار عام 1992 (1037 مليمترًا) إحياء نبع (عين نيني)."
مقياس المطر
شتاء
تتابع خريف وشتاء هذا العام، فقد حصدت بلدتك، برقين، غرب جنين، خلال تشرين الأول على (23) مليمترًا من معدل تساقط الأمطار، ونالت في تشرين الثاني (68) مليمترًا، وشهد كانون الأول تساقط (303 مليمترات)، أما كانون الثاني فقد غذى البلدة بـ (158 مليمترًا) إضافية، وجاد شباط- حتى كتابة هذه السطور في نهاره الواحد والعشرين- بـ (92 مليمترًا). ووصل الحصاد بحمد الله: (652 مليمترًا). أما الأيام الماطرة، فوصلت حتى هذه السطور، إلى 46 يومًا. أبرزها السادس من كانون الأول بـ(102 مليمترًا)، وهو يوم قياسي.
بهذا تكون مجموع هطولات الخريف (320 مليمترًا)، أما المعدل السنوي المعتاد فيبلغ (492 مليمترًا). وكانت السنة الذهبية 1992 (1037 مليمترًا)، أما عام الرمادة (المحل) فكان 1947 بهطول لم يتعد (253 مليمترًا).
غير أن توزيع الأمطار التاريخي وفق الأشهر، وفي الأحوال الطبيعية، تكون أكبر كمية منه في كانون الثاني، يليه شباط، ثم كانون الأول، بعده آذار، فتشرين الثاني، ثم نيسان، وصولاً إلى تشرين الأول، فأيار الأقل مطراً.
وبتتبعٍ لمواسم المطر في جنين على مدار ثمانية عقود، نجد التذبذب الواضح في الهطول من سنة لأخرى، وبشكل واضح ولافت. فمثلاً، كان الشتاء عام 1927 بالملميترات 598، وبعد عام واحد تراجع إلى 429، وفي سنة 1929 بلغت الكمية 788، ولكن في عام 1932 تراوح المعدل 329 مليمترًا. أما عام 1945 فكان 717 مليمتراَ، وعام 1947 انخفض إلى 253 ميليمترا فقط. بينما ارتفع عام 1950 إلى 722 ليتراجع بعد عام واحد إلى 215 مليمتراً، وفي عام 1960 كان الشتاء 261 مليمتراً، ليزيد عام 1961 بنحو 425 مليمتراً. فيما كانت الهطولات عام 1979 بمعدل 289 مليمتراً زادت عام 1980 إلى 700 مليمتراً، وعام 1991 هطلت الأمطار بنحو 400 مليمتراً، لترتفع برقم قياسي عام 1992 إلى 1037 مليمتراً، أما عام 1998 فكان المجموع التراكمي للأمطار 535 مليمتراً، وبعد عام واحد قلت النسبة إلى 256 مليمتًرا.
فوضى الأسواق التجارية الفلسطينية
تنظيم
تتابع حملات متلاحقة وموسمية لمؤسسات جنين وأجهزتها ذات الاختصاص، لتنظيم الأسواق التجارية. وهو عمل يجري ضبطه في سياق زمني ما، ثم سرعان ما تعود الأمور إلى ما كانت عليه، بعدها تنفذ حملة أخرى، وهكذا دواليك.
لا أحد يمكن أن يقف ضد تنظيم المدينة ومتاجرها، أو مع استمرار الاعتداءات، أو عدم تطبيق القانون، لكن هذا يحتاج لشمولية، بحيث نلاحق كل الاعتداءات والتجاوزات، ولا نميز بين من يلتقط أرزاقه من "بسطة"، أو من "يلتهم" الأرصفة، ويقيم عليها جزءًا من متجره، أو يحوّل قسمًا من الشارع إلى مقهى، أو يزحف نحو الوديان وقنوات المياه، أو يقيم منزلا أو متجرًا في أرض زراعية خصبة، أو ينفذ ذبحًا عشوائيًا للأغنام والأبقار في الشوارع، أو يراكم النفايات ويحرقها، أو يستخدم مبيدات ممنوعة ومحظورة، أو يعمل في كسارات تلوث الجو، وتدمر الجبال، وغيرها من اعتداءات تُرى بالعين المجردة. وهذا كله لا يغني عن إعادة تأهيل البنية التحتية، وإصلاح شبكات الطرق، وتدشين شبكات الصرف الصحي، وحل الأزمات المرورية الخانقة والمستدامة، وإيجاد حل جذري لأزمات العطش والكهرباء.
فراولة كيميائية تنتشر في السوق الفلسطينيي
حوار
تحاور تاجر فراولة حول جودة هذه الثمرة وخلوها من الكيماويات والمضافات الخطرة. فيقول:" كلها سموم، وهرمونات، وأنا لا آكلها إلا في شهر نيسان، ولا أدخلها لبيتي. وأتحدى أن تتناولها إمرأه في بداية أشهر حملها، إلا وستسقط جنينها". ويؤكد: لا طعم لها، رائحتها وشكلها جميل، لكنها تتعفن بعد وقت قصير.
تسأله عن سبب متاجرته بما يضر، فيرد: المتسوق عاقل، عليه أن يعرف ما يضر وما يفيد، ولو يزرع بيده أفضل. نحن لا ننتج هذا بل نسوقه، وهو عمل مسموح. على الجهات المختصة أن تراقب المزارعين، وتفحص الثمار قبل أن تصل إلى التجار والمستهلكين.
سمسم فلسطيني
استهلاك
تستثمر تدريبًا إعلاميًا لـ 45 خريجًا أو على وشك التخرج. يدفعك المكان في قلب مرج ابن عامر، وليس ببعيد من دواري " "البطيخة" و"سنابل القمح"، وهما ما كانت جنين تتباهى بإنتاجه وتصدره لأسواق مجاورة، لكن ذلك تحوّل إلى معدن وإسمنت وتذكار؟
تعرض للمتدربين نبتة السمسم، وتطلب منهم تعليقًا على الصورة. لسوء الطالع، فإن السواد الأعظم، أكد أنها المرة الأولى، التي يشاهد فيها هذه النبتة، وبعضهم لم يصدق أن جنين كانت تزرعها وتنتجها وتصدرها إلى أسواق عربية.
تُدلل الصورة، والنقاش مع الطلبة، وإجاباتهم، واندهاشهم، حالة التراجع التي نشهدها في كل المحافل، فلم نعد نملك سيادة على ما نأكله. وبالتالي أصبحت قراراتنا غير مستقلة. وقررنا تغيير "جلودنا"، والتحول لنمط الاستهلاك والاستيراد لكل شيء. ودمرنا بأيدينا الاقتصاد المنزلي، الذي كان الملاذ وخط الدفاع عنا أوقات الأزمات. ولم تعد بيوتنا تعرف صناعة الخبز، أو تخزين القمح والدقيق. وتخلينا عن معظم أطباقنا التراثية، وبتنا نُفضل كل ما هو سريع، ودخيل، حتى أشجار طرقاتنا قررنا استيرادها، وتناسينا إرثنا الطويل من أشجارنا الأصيلة.
aabdkh@yahoo.com