القاتلة الصامتة

حبيب معلوف
تاريخياً وصف مرض ارتفاع ضغط الدم بـ"القاتل الصامت" لأنه يقتل من دون ضجيج. أما ترسبات المبيدات الكيميائية في النظام الغذائي وفي التربة والمياه الجوفية والطبيعة، فكانت أول من فضحت قتلها الصامت على نطاق واسع في العالم راشيل كارسن في كتابها "الربيع الصامت" الصادر عام 1962. تم محاربة آراء كارسن من كبريات شركات المبيدات الحشرية في الولايات المتحدة الأميركية آنذاك كشركة "مونسنتو"، التي لا تزال تحارب حتى اليوم كل القرارات التي تحدّ أو تضبط منتجاتها العالمية القاتلة، مثل ما حصل مع مبيد الأعشاب الضارة مؤخراً ("غليفوسات")، مستعينة بمراكز أبحاث وهيئات علمية وإدارات رسمية معنية ...الخ.
قيل في محاربتها إن كارسن التي حاربت مبيد الـ "دي تي تي"، الأشهر عالمياً آنذاك، اختصاصها (الماجستير في علوم الحياة) لا يخولها الحكم على تقنيات معقدة، إلا أن الزمن فيما بعد أنصفها وقد تم منع هذا المبيد على المستوى العالمي.
إلا أن شركات الأدوية لم تستسلم، وقد أنتجت مبيدات بديلة أكثر سمّية كالدايالدرين والباراثون والمالاثيون وتم قتل الكثير من الكائنات الحية في الطبيعة... ولا تزال هذه الحرب دائرة حتى الآن. وكلما أثبتت الأيام والتجارب والوقائع، أن المبيدات قاتلة لكل شيء وأن الحشرات والآفات، المقصودة بـ"الإبادة"، هي وحدها التي تقاوم وتتأقلم، وان الناس والكثير من الكائنات الحية يموتون، تحاول هذه الشركات أن تخترع البدائل الاكثر خطورة حتى دخلنا الآن في مشاريع تعديل جينات النباتات التي يمكن أن تسرع في انقراض الأنواع!
اخطر ما في هذه المعركة العالمية وفي الاسلحة التي تستخدمها الشركات العملاقة لإنتاج المبيدات الكيميائية والبذور المعدلة جينياً مؤخراً، أن هذه الشركات العملاقة المشكو من منتجاتها الخطرة، هي نفسها تمول مراكز ابحاث وجامعات وخبراء وباحثين ودور نشر علمية وإعلاميين ووسائل إعلام وسلطات مرجعية متخصصة كبرى مهمتها حماية المجتمعات والبيئة عبر تقييم هذه المبيدات والحكم على صلاحية استخدامها أم لا! ما يفتح علامات استفهام كبيرة حول أكثر من مئة الف مادة كيميائية باتت تعيش بيننا وتحيط بكل ما نفعل وتهددنا، من دون أن يكون هناك مرجعيات محايدة تبتّ بسلامتها ومعاييرها وتحمينا.
تتعدد السلطات التي تقيّم المبيدات حول العالم وأهمها الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية (كذلك الخبراء وسلطات تقييم المخاطر في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي) ووكالة حماية البيئة في الولايات المتحدة الأميركية والوكالة الكندية لمكافحة الآفات والهيئة الأسترالية لمبيدات الآفات والأدوية البيطرية واللجنة اليابانية لسلامة الأغذية ووكالة حماية البيئة في نيوزيلندا ومنظمتي الأغذية والزراعة والصحة العالمية … والتي تعنى جميعها بشأن مخلفات مبيدات الآفات. إلا أننا في لبنان، نعتمد بشكل كبير وشبه حصري، كمرجعية في المواصفات والمقاييس والمعايير، على وكالات الاتحاد الأوروبي، بعد أن بينت التجارب أن وكالة حماية البيئة في الولايات المتحدة الاميركية تخضع بشكل غير مباشر للهيمنة العلمية لكبريات الشركات الأميركية (كمونسنتو) التي تمول الكثير من مراكز الابحاث العلمية ودوريات النشر والجامعات، كما أسلفنا. أبصرت "الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية" النور في عام 2002 عقب أزمة جنون البقر في أوروبا وتلوث الدجاج بالديوكسين في بلجيكا. وجاءت كنتيجة لزعزعة ثقة المستهلكين بلجان الأغذية الوطنية، عندها قرر الاتحاد الاوروبي تعزيز مؤسساته بالمشورة العلمية التي لا يرقى الشك إلى مصداقيتها، مع محاولة الفصل بين تقييم الأخطار بصورة تقنية وما بين القرارات السياسية.
تعددت اختصاصات هذه الهيئة ما بين الأمراض الحيوانية والإضافات الغذائية وتقييم الأخطار البيولوجية الناجمة عن مبيدات الحشرات وصولاً الى الأغذية المعدلة جينياً... إلا أنه سرعان ما تم التشكيك بمصداقية هذه الهيئة أيضاً بعد أن تبين أن معظم أركانها على ارتباط بشركات كبرى تستثمر في الكثير من مفاصل الحياة!
فإذا كانت هذه مشكلة اعلى هيئة اوروبية تعنى بشؤون سلامة الغذاء، فكيف ستكون الحال مع هيئات وطنية في البلدان النامية مثل لبنان يتداخل فيها التجاري مع السياسي والعلمي والتقني... والذي في حال الشك يفترض ان يطبق مبدأ الاحتياط ومنع دخول المواد التي تصنف في خانة المحتمل أن تكون مسرطنة؟ وكيف يمكن أن نعتبر معايير هذه الهيئات مرجعية في نظامنا ومواصفاتنا وتشريعاتنا، بعد تشكيك 11 وزير بيئة أوروبياً بها في أكثر من محطة تابعناها منذ أكثر من عشر سنوات؟!
ثم كيف نوكل مراقبة المبيدات التي تدخل الى لبنان بشكل شرعي (من دون أن نفتح ملف التهريب) إلى لجنة المبيدات الزراعية المؤلفة من 6 تجار والتي يفترض بأن تكون تقنية ولا يتمثل فيها إلا ممثل واحد عن التجار؟! وماذا نقول عن المواد المعدلة جينياً التي تدخل الى لبنان من دون أي رقابة؟ وأين القضاء من تلك الجرائم البيئية التي يرتكبها قتلة صامتون؟