خاص بآفاق البيئة والتنمية
تكتفي معظم التقارير والدراسات الخاصة بالضفة الغربية وقطاع غزة بالعرض المسحي والوصفي للواقع الاقتصادي-الإجتماعي البائس وبالتركيز على إبراز الأرقام في جداول وإحصائيات ورسوم بيانية وتقزيم "التنمية" المزعومة تحت حراب الاحتلال الاستيطاني العسكري الاقتلاعي، إلى مجرد "النمو" الاقتصادي، كإرتفاع أو انخفاض إجمالي الناتج المحلي الفلسطيني مثلا، باعتبار أن "النمو" هو الحل لجميع مشاكلنا الاقتصادية، علما أن أنصار "النمو" المظهري في مجتمعنا يغضون النظر عن حجم الشرائح الاجتماعية المستفيدة حقا من هذا "النمو" ومدى التأثير الذي يتركه على استنزاف مواردنا الشحيحة والبيئة والأرض الزراعية وغيرها. ناهيك أن الوقائع على الأرض تشير إلى أن فوائد "النمو" الشكلي والاستهلاكي في المباني والسيارات والمرافق السياحية والمؤسسات وغيرها تقتصر أساسا على صفوة المتمولين والأثرياء أو على فئات اجتماعية محدودة جدا، بينما تزداد اتساعا، وبشكل صارخ، الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتتواصل نسبة البطالة الكبيرة ويرتفع أعداد "المتورطين" في الديون.
وفي مثل هكذا واقع تصبح نخبة من المجتمع هي المستفيدة أساسا من نتاج "التنمية" الإستعراضية، بينما تغيب الغالبية الساحقة من الناس الذين يفترض أن يشكلوا لب العملية التنموية ومحورها الأساسي. إذ أن حضور الإنسان الفلسطيني في العمل "التنموي" المزعوم يقتصر غالبا على المسوح والإحصاء أو على تنظيم برامج تدريب مهنية وفنية، علما بأن هذه البرامج لا تؤثر – بالمعنى التغييري الهيكلي – على البنية الاقتصادية-الاجتماعية وبنية القيم والمفاهيم وأنماط السلوك المشوهة السائدة حاليا في مجتمعنا. ومن هنا فإن العديد من استنتاجات وتوصيات الدراسات التنموية المتعلقة بالمجتمع الفلسطيني تأتي مسطحة وتنحصر بمجرد الإستثمار في البنية التحتية والخدمات وتفريخ المزيد من "المؤسسات" وبالتالي يتم حصر معيقات "التنمية" في نقص الأموال والموارد والتدريب.
وفي هذا السياق من المفيد التذكير بما قاله التنموي المصري د. محمد عاطف كشك: "هناك ما يشبه الإتفاق الضمني على أن محاربة الفقر يجب أن تستمر في نطاق الكلام المتضمن في أحاديث منمقة وتقارير هامة واتفاقيات دولية ومؤتمرات كبرى…وربما كان المقصود بكثرة الكلام التغطية علـى الأفعـال التـي تصنع وتكرس الفقر…والمثير للدهشة أن الفئة المسيطرة والمهيمنة تطالب الفقراء البائسين اليائسين بضرورة تحمل أعباء المحافظة على الموارد للأجيال القادمة، فيما تدعو إليه من تنمية مستدامة".
والأسئلة المطروحة هي: لماذا يعمل البعض على تحويل "التنمية" إلى عملية تزيين مظهرية لواقعنا الفقير والمتخلف؟ ولماذا تسطيح مفهوم التنمية وإفراغه من مضامينه القيمية والتغييرية والبنائية الجذرية لا المظهرية؟ ومنذ متى أصبحت الزيادة في التمويل الأجنبي وفي عدد البنايات والأبراج والمطاعم والفنادق والسيارات مقياسا للتقدم المجتمعي والتنمية؟ بغض النظر عن الشريحة الاجتماعية المستفيدة من هكذا "نهضة تنموية". إن مثل هذه الزيادة العددية قد تشكل مقياسا لدرجات النمو، وفي حالتنا العينية النمو الشكلي والاستهلاكي، إلا أن هذا النمو الاستهلاكي الكمالي والمظهري غير قادر على إحداث التغييرات الاجتماعية اللازمة لإنجاز التنمية الحقيقية الشاملة، وبخاصة في ظل احتلال استيطاني اقتلاعي "مستدام". وخطورة التركيز على المؤشرات الرقمية الشكلية تكمن في تضليل الذات بأن "تقدما" تنمويا واجتماعيا قيد الحدوث على الأرض. وهذا "التقدم" الشكلي الهش الحاصل على أي حال، هو نتيجة توفر التمويل الأجنبي، والأموال لدى بعض الأفراد والجهات الموسرة التي بإمكانها شراء أو استيراد "التنمية" الخادعة. وبالتالي فإن ارتفاع الأرقام في بعض المجالات "التنموية" الاستهلاكية والمظهرية هو نتيجة للإنفاق الاستهلاكي الهائل، بغياب الإستثمار وبالتالي التطور النوعي في المجالات الإنتاجية.
وبالرغم من بعض النجاحات الكمية التي تحققت في بعض المجالات التي ارتفعت فيها الأرقام والمعدلات نتيجة ما استهلك من إنفاقات ضخمة، إلا أن ارتفاع الأرقام لم يرافقه تطور في النوعية والإنتاجية. فعلى صعيد التعليم، مثلا، ليست المسألة الأساسية زيادة عدد طلاب الجامعات وإنما نوعية ما يتلقونه من تعليم وتأهيل، بما يلبي الحاجات الأساسية لمجتمعنا. وليس من الأهمية في شيء زيادة عدد المؤسسات والوزارات والوزراء والوكلاء والمدراء وإنما أن يكون ذلك كله في خدمة حاجات فعلية تستجيب لها هذه المؤسسات والوزارات، وضمان سير عملها بنجاعة ومهنية وإنتاجية عالية. فالمهم في نهاية المطاف ليس زيادة عدد الفنادق والمقاهي والمطاعم والأبراج والسيارات وأجهزة الكمبيوتر وشركات الإستيراد والشركات الوسيطة والوكلاء، وإنما مدى استفادة الشرائح الاجتماعية المعوزة التي تشكل غالبية السكان من هذه الفنادق والأبراج والسيارات والشركات ومدى الحاجة الفعلية لها، وبالمحصلة مدى مساهمتها في تحرير جيش العاطلين عن العمل من البطالة والفقر واندماج هذا الجيش بنجاعة في العمل الإنتاجي الزراعي أو الصناعي.
إن التمسك بالشكل والقشرة بدلا من المحتوى والجوهر يجعلنا غير قادرين على فهم الواقع الاجتماعي-الاقتصادي –السياسي الكولونيالي كما هو، بكل تعقيداته، وبالتالي العجز عن العمل والتغيير. وبالنتيجة التشبث بـِ"التنمية" الأحادية السطحية المبتورة، غير المرتكزة على التكامل الشمولي والترابط بين مختلف قطاعات المجتمع والاقتصاد، وغير المستندة إلى منهج جدلي تحليلي ونقدي.
وما دام الإنسان هو جوهر التنمية، كما يقال، وليس مجرد المستفيد من إنجازاتها، فالأجدر إذن أن ينصب جزء هام من العملية التنموية على التنمية الفكرية والقيمية والخلقية وتنمية قيم الإنتاج والابتكار والجهد والنفس الطويل والثقة بالنفس. لأن المجتمع الذي تتآكل وتتفتت قيمه الأصلية، من خلال الذوبان في نظام قيم الفئات الأجنبية المتسلطة اقتصاديا وسياسيا، فإنه سرعان ما سيتحول إلى كيان مزيف وفاقد لهويته وأصالته.
وما لم يكن الفعل التنموي ذاتي المنشأ ووطني يلبي الاحتياجات الحقيقية للشرائح الشعبية، ولا يشكل نماذج غريبة مستجلبة لخدمة فئة قليلة وهامشية من الناس، وما لم يخط الفعل التنموي خطوات واضحة باتجاه التحرر من الإستغلال والتبعية للاحتلال الصهيوني والخارج، وما لم يسير باتجاه ضمان سيادة الناس على غذائها ولقمة عيشها وتوفير فرص عمل محلية دائمة، فإن احتمال نجاحه سيبقى ضئيلا جدا ومشكوكا به إلى حد كبير.
منازل وشقق فاخرة قيد الإنشاء في رام الله
تجاوز الأزمة البنيوية في أنماط الانتاج
إزاء الواقع الجيوسياسي والديمغرافي الكولونيالي الذي يهدد، بشكل خاص، مجرد وجود واستمرارية من تبقى من فلاحينا ومزارعينا على أراضيهم، فإن الطريق الوحيد الذي أمامنا، هو العمل باتجاه الاعتماد على الذات والتحرر من ذهنية ونفسية التبعية لجهات ومؤسسات خارجية، وانتزاع الحقوق عبر ممارسة كافة أشكال النضال المشروعة، بالتوازي مع العمل على محاولة تجاوز الأزمة البنيوية في أنماط الانتاج الفلسطينية السائدة، وذلك من خلال ما يلي:
أولا: أن لا يكون أساس "النمو" الاقتصادي مجرد توسيع الأسواق الخارجية (زيادة الطلب الخارجي) لصالح زيادة أرباح حفنة من "رجال الأعمال"، بل إعادة توجيه الاستثمارات الفلسطينية والعربية إلى القطاعات المنتجة وعلى رأسها الأرض والزراعة اللتين ليس من مصلحة "المانحين" الاستثمار بهما، لأن اسرائيل تمنعهم من ذلك، وذلك بهدف التركيز على إنتاج الاحتياجات الأساسية للناس في إطار اقتصاد المقاومة الذي يركز على كثافة العمل بدلا من كثافة الرأسمال التي لا تضمن سوى تشغيل جزء هزيل من قوة العمل العاطلة.
ثانيا: زيادة الانتاجية من خلال زيادة الاستثمار في تنمية الموارد البشرية، عبر التثقيف والتدريب المستمرين في هذا الاتجاه.
ثالثا: إنشاء وتطوير البنية التحتية التي تخدم الصناعة المعتمدة على الموارد المحلية (خاصة الزراعية)، بالتوازي مع زيادة القدرات الانتاجية في هذا المجال.
رابعا: قياس نجاح أو فشل أي نشاط تنموي بمدى قدرة هذا النشاط على تلبية الاحتياجات الأساسية للشرائح الشعبية، وفي الوقت نفسه تسخير مؤشرات النمو الاقتصادي والتضخم والقدرة التنافسية لخدمة القياس السابق وليس لخدمة الأرباح الخاصة.
خامسا: تقوية وتعزيز ودمقرطة البنى المؤسساتية الجماهيرية (المنتخبة انتخابات نزيهة حرة) كالنقابات واتحادات الفلاحين والأطر والمنظمات الشعبية المختلفة، بحيث تساهم هذه البنى في اتخاذ القرارات الاقتصادية-التنموية والسياسية الفعالة على مستوى التخطيط والتنفيذ.
وفي سياق اقتصاد المقاومة، أو الفعل التنموي المقاوم (ولا نقول "تنمية" في ظل الاحتلال)، لا بد من التخلي عن الالتصاق بالمؤشرات الاقتصادية التقليدية التي فشلت في إعطائنا توصيفا صادقا لجودة حياة الشرائح الشعبية (غالبية السكان) ورفاهيتها ومدى تلبية احتياجاتها.