خاص بآفاق البيئة والتنمية
في مشهد آسر، تدلّت ثمار الجوافة والأفوكادو والمانجا من أغصان الشجر كمصابيح مضيئة في موسم فرح هو موسم قطافها.
هذا ما شاهدناه بعد نهاية مسارنا من بلدة صيْر الى بلدة فلامية في محافظة قلقيلية، الذي قطعنا فيه ثماني كيلو مترات في آخر أيام فصل الصيف الماضي وفي أجواء حارة، ليكون وداعًا لائقاً للصيف.
عددنا كان نحو ستين مشاركًا، انطلقنا باكرين، كالعادة، وسط ظلمة الليل وقبل ساعة الشروق الذي أدركناه في طريقنا إلى شمال الضفة الغربية وتحديداً إلى محافظة قلقيلية، من أجل دعم المزارعين الذين يواجهون هجمات قطعان المستوطنين على أراضيهم بحراسة "الجيش الإسرائيلي".
الوصول كان سهلاً، رغم تفعيل البوابات على الشوارع الرئيسة للمدن والقرى منذ بداية الحرب المسعورة في السابع من أكتوبر عام 2023، وقُسّمت المدن والقرى الفلسطينية إلى "كانتونات" معزولة.
وصلنا خربة أو بلدة صٍيْر بعد ساعة ونصف من مغادرتنا رام الله مروراً بالشارع رقم (60) أو شارع نابلس رام الله، ومن ثم الانعطاف عند مفترق زعترة نحو اليسار باتجاه الشارع رقم (5) والمعروف حالياً بــ "شارع أريئيل"، بعد تغيير اليافطات وانتشار المستعمرات على ضفافه، أكبرها "مستعمرة أريئيل".
انعطفنا يميناً باتجاه بلدات قراوة بني حسان، وبيديا، وسنيريا، وكفر ثلث، وعزون، وانتهاءً ببلدة صِيْر التي تتبع محافظة قلقيلية، علماً أن هناك بلدة تحمل الاسم نفسه، وتقع في محافظة جنين، كما توجد أخرى في لبنان.
وصلنا إلى صِيْر حوالي الساعة السابعة والربع صباحاً، بينما كانت الشمس تنساب أشعتها الذهبية على وادي صير.
بدأنا النزول في طريق ترابية بصحبة دليلنا نعمان الأشقر من كفر ثلث، الذي رَافقنا في مسار وادي قانا قبل سنوات، إنه الوادي الذي استغل الاحتلال نشوب الحرب ليُحكم السيطرة عليه، ويمنع الفلسطينيين والمزارعين من الوصول إليه للاعتناء بأشجارهم من الحمضيات والزيتون وريّ محاصيلهم الزراعية.
سُررنا هذه المرة بعودة زميلنا المصور الفنان محمود معطان بعد انقطاع عن المسارات، وأسفنا لعدم حصوله على حصته من الجوافة لأن أحدهم اشتراها قبل حضوره، وقد تغيَّب بعض الأصدقاء عنا مثل "أبي كرم، وسمامرة" وغيرهما لأسباب عائلية، ولا عجب أننا في رحلات المشي نشعر أننا عائلة واحدة، ونفتقد أي واحد يغيب من الفريق.
يقول نعمان الأشقر: "سنبدأ مسارنا من بلدة صير أو خربة صِيْر، مروراً بوادي صِيْر وخربة صِيْر الواقعة في محافظة قلقيلية، علمًا أنها تقع على الحد الفاصل بين محافظة سلفيت ومحافظة قلقيلية ومحافظة طولكرم، وتحيط بها مجموعة من القرى الفلسطينية، منها جيوس، وعزون، والكفريات (كفر ثلث، كفر عبوش، كفر لاقف، كفر ذيبان) وحجة، وسنتوجه بعد ذلك لقرية فلامية."
خِرْبِة صِيْر
هي قرية فلسطينية تقع إلى الشرق من مدينة قلقيلية وتبعد عنها نحو ثماني كيلو مترات، وتُعد خربة صِبر جزءاً من محافظة قلقيلية، ويبلغ عدد سكانها ما يقارب 645 نسمة، وفق إحصاء عام 2017، حيث نزح نصف سكان القرية إلى خارج فلسطين بعد حرب 1967.
الزراعة هي القطاع الاقتصادي الرئيس في البلدة، حيث تنتج محاصيل الزيتون، والتين، واللوز، والعدس، والقمح وبعض الخضراوات، لكن التوسع العمراني للبلدة والتوسع في البنية التحتية وفتح الشوارع قلَّص المساحات المزروعة من الأراضي الزراعية، وكذلك قلَّص مساحة المراعي للثروة الحيوانية.
ووفق مؤسسة "مركز المعمار الشعبي – رواق" وبإجراء المسح الميداني للأبنية القديمة الذي نفذَه "رواق" في عام 2003، سُجّل 14 مبنى في القرية، معظم المباني تتكون من طابق واحد ( 13 مبنى)، ومبنى واحد فقط يتكون من طابقين، وتنقسم المباني القديمة بين مستخدم كليًا، ومهجور، حيث نجد سبعة مبانٍ لكل نوع.
تتنوع المباني القديمة بين المتصل ببعضه البعض، والمنفردة، حيث نجد خمسة مبانٍ متصلة ومثلها منفردة.
الحالة الإنشائية لعشرة مبانٍ جيدة، وسُجّل مبنيان بحالة سيئة، وآخران بحالة غير صالحة للاستخدام، وفيما يخص الحالة الفيزيائية، وُجدت أربعة مبانٍ بحالة جيدة، وستة بحالة متوسطة، وأربعة أخرى بحالة سيئة.
شكلُ أسقف المباني غلب عليها العقد المتقاطع، حيث نجد ثمانية أسقف بهذا الشكل، وسُجلّت سبعة أسقف مستوية، منها ثلاثة بالدوامر الحديدية، وواحد بالدعامات الخشبية، كما وُجد سقف واحد غير منتظم.
أما الأسطح الخارجية، فقد سُجلّت تسعة أسطح بقباب، وواحد مفلطح، وسبعة بشكل مستوٍ، أما الأرضيات، لم تُسجّل سوى 13 أرضية، وجميعها تتكون من "المَدّة".
سبب التسمية
كلمة (صِيْر) عربية الأصل تعني ناحية أو طرف، ولعل القرية دُعيت بهذا الاسم لأنها من أطراف الجبال التي تحيط بها وتُشرف عليها.
وكلمة صير بالآرامية تعني القمة، وبالفينيقية تعني التمثال أو الصنم، وباللغة الروسية تعني الجبن.
وبحسب المجلس القروي فإن أصل تسمية القرية بهذا الاسم يرجع للخربة القديمة الموجودة فيها، التي على الأرجح تُنسب إلى مملكة صير التاريخية (معهد الأبحاث التطبيقية - أريج).
كانت أشجار الزيتون تتدلّى أغصانها بفضل ثمر الزيتون الوفير، فقد اقترب موعد قطافها والذي يبدأ في منتصف شهر أكتوبر؛ وحان الوقت الآن لننعطف نحو اليمين متجهين شرقاً في وادي صير الذي يمتاز بوعورته وانتشار الصرار فيه، وعلى ضفافه ينمو "غار الوادي" أو "اللافندر" وبعض أشجار التين، بعدها وصلنا إلى بئر دائرية لا مياه فيها، ومن ثم وصلنا إلى بئر صير الارتوازي، الذي يوجد قرب قاطع صخري محاط بأشجار الزيتون الرومية، وحوله مجموعة من الصخور المحفورة (المخل) التي تُعبّأ بالمياه لسقاية المواشي.
أخذنا قسطًا من الراحة ثم عدنا أدراجنا لمتابعة السير شرقاً، وحينها بدأت تلوح على يسارنا فوق الجبل بيوت بلدة جيوس، التي صَمَمْت مدرسة فيها وأشرفت عليها بتمويل من مؤسسة التعاون الفرنسية .(AFD)
اجتزنا منطقة فيها دفيئات زراعية بلاستيكية وحولها مضارب للبدو ومزارع للدواجن، ثم انعطفنا يميناً.
استمررنا في المشي وصولاً إلى الشارع العام، وانتظرنا بقية الفريق تحت أشجار الزيتون ومن ثم قطعنا الشارع، وواصلنا المسير بين أشجار الحمضيات كالليمون والبوملي، وبعض أشجار النخيل المثمرة، التي تدلّى البلح منها كالثريا.
وفي الشارع المعبّد لبلدة فلامية، أخذنا نصعد الطريق، وكم استمتعنا بالمنظر الخلاب للأراضي الزراعية حيث تتوسطها الدفيئات البلاستيكية، ثم استرحنا تحت أشجار "الجاكاراندا" ذات الأزهار الحمراء.
لم يطل انتظارنا للحافلة، فأقلّتنا لعزبة زراعية تعود لــ "جميل عبد الغني ظاهر (أبو غسان)"- رحمه الله- الذي يلّقبه أهل البلدة بــ "حارس وحامي وسيد الأرض" لأنه كرَّس حياته لحماية الأرض من المستوطنين وخدمة المزارعين.
العزبة التي زرناها سابقاً تتوسطها شجرة عظيمة من الجاكاراندا ومظلة معدنية، وحولها مجموعة من المقاعد وعلى يسارها بئر ارتوازية قديمة ما زالت تضخ مياهها للأراضي الزراعية.
استقبلنا أصحاب العزبة بالترحاب والقهوة وبعض الفواكه والخضار، وتناولنا وجبة الفطور فيها قبل التوجه للبيارة، لشراء الجوافة التي كنا قد طلبنا تجهيزها مسبقاً، كسباً للوقت.
يخبرنا دليلنا نعمان الأشقر عن قرية فلامية قائلاً: "هي قرية زراعية تقع على مقربة من خط الهدنة أو الخط الأخضر الذي حُدّد عام 1949، وبناءً عليه قُسّمت فلسطين التاريخية إلى الضفة الغربية و"أراضي 48" وقطاع غزة".
ويضيف الأشقر: "تقع في الجهة الغربية مجموعة من القرى المهجرة وغير المهجرة مثل الطيبة، وقلنسوة، وكفر قاسم، ورأس العين، ومدينة قيسارية الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وقرية أم خالد الفلسطينية "مدينة نتانيا"، وهذه المنطقة تقع ضمن اتفاقية رودوس والموقعّة عام 1949، وتاريخياً تعود هذه المنطقة للزمن الروماني والبيزنطي والإسلامي".
جدير بالذكر أن قرية فلامية تقع إلى الشمال الشرقي من مدينة قلقيلية حوالي خمسة كيلو مترات، و1.5 كم شرق الخط الأخضر (خط الهدنة عام 1949).
ويحدّها من الشرق قرية كفر جمّال، ومن الجنوب قرية جيوس، ومن الشمال الشرقي قرية كفر صور، ومن الغرب مستعمرة سلعيت، بينما يحاذيها من الغرب الخط الأخضر وجدار الفصل العنصري.
ويبلغ عدد سكانها 1200 نسمة وغالبيتهم من الفلاحين والمزارعين. وحسب روايات كبار السن، أقيمت القرية عام 721م وتحوي قبورًا تعود لزمن القائد صلاح الدين الأيوبي.
وحول سبب التسمية، يُرجّح أن يكون اسمها مركباً من (الفلا والماء) لهذا سميت بهذا الاسم لوفرة المياه والفلا "ظلال الأشجار" فيها.
وفيها بعض الآثار القديمة مثل المسجد القديم، وخربة يوبك، وخربة نشا، والبد، وهناك سور قديم يحيطها، بناه قائد تركي ولكنه تهدّم، وحين أتى ملك الأردن الملك حسين، في زيارة للبلدة أمرَ بإعادة بنائه.
قرية فلامية وخطة العزل العنصرية
كانت لخطة العزل العنصرية الإسرائيلية والمتمثلة ببناء الجدار أثر مدمر على قرية فلامية، ووفق ما جاء بالتعديل الأخير للجدار تبيّن أن مقطعًا منه بطول 1.4 كيلو متر سوف يقوم على أراضي القرية ليعزلها ضمن منطقة العزل الغربية التي تسعى "إسرائيل" إلى ضمّها بواسطة بنائها للجدار.
وقد تبيّن أن الاحتلال الإسرائيلي أنجز بناء الجدار على أراضي القرية، الأمر الذي عمل على عزل ومصادرة 1482 دونماً أو ما نسبته 62.2% من المساحة الكلية للقرية، والتي غالبيتها أراضٍ زراعية ومناطق مفتوحة.
معظم الأراضي التي اقتطعها الجدار في قرية فلامية هي أراضٍ زراعية يعتمد عليها أهالي القرية لتامين قُوتهم ومصدر رزقهم، وهذا إضافة إلى عزل جزء من المناطق المفتوحة في القرية، التي يستخدمها الأهالي لرعي أغنامهم، وهي أيضًا المتنفس الوحيد لهم في المستقبل.
قضينا وقتاً ممتعاً في ظلال عزبة آل أبو غسان ظاهر، ثم غادرناها سيراً على الأقدام باتجاه المزرعة الخاصة بهم لشراء الجوافة المنتشرة في المنطقة وتشتهر بها محافظة قلقيلية؛ إذ تصدّر منتوجها للأردن والخليج وحتى لأراضي 48 نظرًا لجودتها ورائحتها الفواحة.
كانت صناديق الجوافة جاهزة وكُتب عليها "منتج فلسطيني"، وفقاً للكمية التي حُجزت مسبقاً، وتسنّى لنا التجول في المزرعة تحت ظلال أشجارها، وشاهدنا ثمار المانجا والأفوكادو وبعض أشجار الجوافة تتدلى ثمارها كمصابيح في ليلة فرح، وتفوح رائحتها لأمتار تنعش الفؤاد وتشعرك بالمتعة وبخيرات هذه الأرض الطيبة المباركة التي ليس لنا بديل عنها، رغم أنف المستعمرين وأطماعهم الذين لن ينالوا الا خيبة أعمالهم.
قفلنا عائدين إلى رام الله في الطريق ذاته براحة ويسر، دون أن نغفل شكر السائق عبد الفتاح حجي على جهده لما يبذله من طاقة وجهد لإمتاعنا وإيصالنا لبر الأمان، هو الذي يبث فينا الطاقة الإيجابية وسط مشاق العمل وأخبار المجازر المتواصلة التي لن تزيدنا إلا قوة وإيماناً بعدالة قضيتنا، وبانتصارها في نهاية المطاف على المحتل.