شذرات بيئية وتنموية.. جنين ونكبة وفوضى أرصاد وشتاء غريب
خاص بآفق البيئة والتنمية
 |
تجريفات إسرائيلية واسعة في جنين |
وفق هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، دمر جيش الاحتلال حتى 25 شباط الفائت أكثر من 470 منشأة ومنزلًا كلياً أو جزئيًا، في مخيم جنين، إضافة إلى تعطيل الخدمات الأساسية، خاصة المرافق الصحية منها والتعليمية، تزامنًا مع انقطاع كامل للمياه والكهرباء ونقص حاد في المواد التموينية في المدينة ومحيطها.
وفي 14 آذار الماضي، دخل العدوان على جنين ومخيمها اليوم (52)، مع عدم وجود مؤشرات على الانسحاب، بينما واصلت جرافات الاحتلال عمليات الهدم في عدة أحياء في المخيم، ما أجبر نحو 20 ألف مواطن على مغادرة المخيم جنين، فأصبح مهجورًا تقريبًا.
لا يتوفر إحصاء دقيق ورسمي حتى الآن عن عدد البيوت المدمرة كليًا أو جزئيًا في مخيم جنين، بينما حذرت "الأونروا" في تقرير لها من أن المخيمات الفلسطينية في شمال الضفة الغربية تقترب من أن تكون "شبه غير صالحة للسكن" بعد أسابيع من الدمار المستمر، الذي أجبر عشرات الآلاف من سكانها على النزوح منها.

تفجيرات إسرائيلية في مخيم جنين
ولم يقتصر التدمير على المخيم، بل طال كثيرًا من أحياء المدينة، وخاصة الحارة الشرقية، وأجزاء متفاوتة من البنية التحتية في بلدات قباطية، واليامون، وسيلة الحارثية، وبرقين.
في حديث مع أحمد زكارنة رئيس بلدية قباطية لــ"آفاق البيئة والتنمية"، أكد أن الاحتلال دمرَّ شوارع البلدة أربع مرات في وقت قياسي، غير أن الأغرب من ذلك تخريب جرافات جيش الاحتلال لمناطق جديدة في كل مرة، وتجنبه تدمير الشوارع التي أصلحتها البلدية جزئيًا.
ما يحدث في جنين، وطولكرم، وما حصل في مخيم الفارعة وبلدة طمون يفوق التصور، ولا نهاية قريبة له، كما يصرّح قادة الاحتلال، ويبدو أن كرة النار تتدحرج لتطال المزيد.

تدمير إسرائيلي شامل لمخيم جنين
دروس
أمضيت عام 2011 بِطوله في بحث علمي حول "العلاقات الفلسطينية -اليهودية" قبل النكبة، جامعًا أكثر من 150 شهادة شفوية من رجال ونساء تجرعوا مرارة الابتلاع.
لم أغفل عن توثيق حال القرى المدمرة، ووصف أراضيها وحقولها، وحتى ألعابها الشعبية، ومدارسها، ومواسمها، وأفراحها، وأحزانها، وكل تفاصيلها الصغيرة.
على سبيل المثال، في وصف قرية الكفرين الواقعة قضاء حيفا، وصفَ أهلها عيون الماء، التي كانت تروي عطشهم وحقولهم كعين البلد، والحنانة، وبيت راس.
بينما كانت أرضها ذات تربة حمراء وبيضاء، ومحاطة بجبال، وفيها مساحات سهلية، فيما كان الأطفال يتجهون لتعلم أصول الزراعة ومساعدة أهلهم في أعمال الفلاحة، والذهاب للتنزه إلى حيفها، كرملها وبحرها، في أوقات الفراغ.

قرية الكفرين-قضاء حيفا- قبل نكية عام 1948
وحرصَ فتية الكفرين على لعب "الزرينة" (كومة تراب يدافع فريق عنها وآخر يحاول هدمها) و"الدقة" و"الحاح"، و"الطميمة" (البحث عن الفريق المختفي)، وصنعوا "الفطبول" (الكرة) من "الشرايط" (بقايا القماش).
أما في موسم العيد فكان الآباء يربطون الحبال بالأشجار العالية، ويصنعون المراجيح، وكانت الصغيرات يغبنّ فترة طويلة عن بيوتهن في اللعب، وفي أيام الحر في العيد يذهبن للسباحة في عين الحنانة، أما حلوى العيد فكانت القطّين (التين المجفف) وراحة الحلقوم.
كانت الإفادات، التي جمعتها من عشرات القرى، وثيقة مهمة ودليلًا على هشاشتنا، وغياب أي توجيه وإرشاد.
وما أجمع عليه هؤلاء أنه لم تكن لديهم قيادة توجههم وترشدهم إلى ما يمكنهم فعله، وتنظم صفوفهم قبل أن تفرط المسبحة، وتقع الفأس بالرأس.
قالت لي سيدة من قرية السنديانة، قضاء حيفا، أسعفها الحظ وإيمان والدها بالتعليم لتذهب إلى الكُتّاب: "كنا قبل النكبة بأيام مثل قطيع الأغنام في ليلة مظلمة، غاب عنا الراعي والكلب وأحاطتنا الذئاب."

محمد البطاينة الراصد الجوي في التلفزيون الأردني في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي
فوضى
كنا ننتظر بشوق التلفزيون الأردني لنشاهد التوقعات الجوية مع محمد البطاينة، نهاية نشرة المساء. كانت الخرائط بسيطة، وبخط اليد، والتقنيات متواضعة، بخلاف تقنيات اليوم.
ولم نكن نلاحق كل غيمة عبر الرادار، أو نسرف في توقعات 14 يومًا قادمة كما هو الحال الآن. حاليًا أتابع نحو 30 نشرة جوية، وأشاهد تحديثات متكررة حول كل منخفض، وأواكب جدلاً وتضاربًا وتهويلًا وعدم دقة وشائعات، وأخرج نهاية الأمر صفر اليدين.
في منخفض الثلث الأخير من شباط، غيّرت دوائر الرصد الجوي والهواة النشرات عدة مرات، وبالغوا في توقعاتهم على "الحامية والباردة"، كان بوسعهم الاكتفاء بنشرة متواضعة ولـ 48 ساعة على أبعد تقدير، لكن مع احترامنا وفهمنا لعلوم الطقس والرصد الجوي، وأن ثابتها الوحيد التغير، فقد بالغ معظم هؤلاء في توقعاتهم، و"قبل الهنا بسنة"، فلم نر الزائر الأبيض ولا المطر، وأصابنا البرد، وكله بيد الله وعلمه.
أعيدوا لنا زمن محمد البطاينة، وكفوا عن الإسراف في "مضاربات" النشرات الجوية والإثارة والتشويق حولها، وتواضعوا في توقعاتكم بيومين لا أكثر، وأعطوا الخبز لخبازه.

موجة صقيع حادة في شمال الضفة الغربية- أواخر شباط الماضي
انجماد
عصفت بالكثير من المزارعين في 25 و26 شباط موجة صقيع حادة، ألحقت خسائر باهظة بالزراعات المكشوفة والمحمية على حد سواء، وضربت حتى بعض أصناف الأشجار.
يتطلب الصقيع وغيره من تقلبات جوية كالفيضانات، والرياح العاتية، والسيول، وتطرف درجات الحرارة؛ من "حرّاس الأرض" تنظيم صفوفهم سريعًا، والتخطيط المختلف والتفكير في طبيعة الأصناف، وتجنب زراعتها في غير مواعيدها، وتفادي الأصناف الحساسة من الأشجار، والانحياز للأشجار الأصيلة، والعمل والشراء والبيع الجماعي.
من الضروري للفلاحين تقوية وإصلاح اتحاداتهم وجمعياتهم الزراعية وتفعيلها، وتطوير التكافل بينهم، وتنظيم اليد العاملة، والبعد عن العشوائية في الاستعداد أو التعامل مع الكوارث الطبيعية.
نعرف أن الحِمل ثقيل جدًا، لكن لا بد من بداية عاجلة وبخطوات صغيرة، بالرغم من كل الصعاب، ولو كانت في لقاءات تشاورية تجمع حرّاس الأرض، وتضع الإصبع على الجرح العميق، وتخرج بمبادئ عمل جماعي.

منخفض شباط 2025- شمال الضفة الغربية
انقلاب
كان سلوك الموسم المطري الحالي غريبًا وشحيحًا، فهطلت في برقين غرب جنين حتى منتصف آذار 297 ملم، بنحو نصف المعدل التراكمي.
وكان عدد أيام الهطول هذا الموسم 33، لكن أغلبها كان ببضعة مليمترات، ولو أن الأيام التي شهدت فيها تساقطات مطرية بكميات أعلى، لكان التوزيع ممتازًا.
عشنا نقلة حادة من الشتاء إلى الصيف، ففي غضون بضعة أيام ارتفعت الحرارة بأكثر من 10-12 درجة عن معدلها، عندما ضربتنا موجة دافئة في الثلث الأول من آذار، بعد موجة صقيع في أواخر شباط، لتسجل درجة الحرارة في جنين 30 مئوية!
نعود إلى السجل المطري لجنين، ونرصد السنوات التي قلَّ غيثها عن 300 ملم، فنجدها: 1947 (253 ملم)، و1951 (215 ملم)، و1979 (215 ملم)، و1999 (256) ملم، و2001 (270 ملم).
المرجو من المزارعين التداعي لتخطيط جماعي لما يمكن زراعته من محاصيل، وتقليص المساحات الحالية لأكثر من النصف، مع شحّ الأمطار، كما علينا أن نساعد أنفسنا أمام "عام صعب" على عبور صيف ساخن متوقع بأقل الأضرار.