خاص بآفاق البيئة والتنمية
بركة تاريخية لجمع مياه الأمطار في قرية عبوين شمال رام الله
لماذا أتردد في الكتابة؟ وربما ليس لدي رغبة في ذلك، رغم أنني أعتبر ما أكتبه صار تخليداً للحظات تاريخية لن تتكرر. الأحداث في قطاع غزة الصامد والتي تُحرق فيها أعصابنا، وتستحوذ ربما على كل تفكيرنا وتجعلنا نغفو على الموت ونصحو عليه. ولا شك أن حرق الخيام في رفح بساكنيها النازحين من أطفال ونساء وشيوخ والتي أودت بحياة العشرات، ليست جريمة غير عادية أو مجرد حدث عابر، إنها استكمال لحرب إبادة وقودها الأبرياء، حتى أن العمى أصاب حكومات العالم وعلى رأسها دولة الإرهاب والقتل في أميركا، التي كشفت نفاق هذه الأنظمة وازدواجية معاييرها، بعد أن ظهر وجهها الحقيقي في دعم دولة الاحتلال إلى أبعد الحدود، بعكس شعوبها التي وقفت إلى جانب الحق الفلسطيني وفي وجه حكوماتها للمطالبة بوقف المجازر البشرية والمطالبة بحرية فلسطين. أصبحت القضية الفلسطينية في صدارة القضايا، ودفعت بعض الدول الأوروبية للاعتراف بدولة فلسطين تباعاً، بل طردت السفير الإسرائيلي، أو علقت علاقاتها الدبلوماسية مع دولة الاحتلال.
القتل الجماعي والدمار لا ينتهيان، وهما سياسة ممنهجة اتجاه الكل الفلسطيني، ونرى أن هناك اجتياحاً وراء اجتياح لجنين وطولكرم ونابلس، وهجوماً تلو الآخر من قبل المستوطنين، الذين يحرقون منازل واشجار وممتلكات أهلنا في بلدة المغير، بذريعة مقتل مستوطن واتضح فيما بعد أنه قتل بلدغة أفعى فلسطين.
وها نحن منذ نهاية فصل الربيع، ورغم الأحداث، بدأنا بمسار بيئي من بلدة جلجليا (شمال رام الله)، والتي وصلناها بعد حوالي 45 دقيقة منذ مغادرتنا رام الله في الحافلة. الطقس كان لطيفاً، وعدد المشاركين حوالي الستين، معظمهم من المشاركين القدامى، وبعضهم يشاركنا لأول مرة. جلست بجانب الصديق جميل عواد "أبو الياس"، وهو من بلدة عين عريك القريبة من رام الله، ويعمل في ديكورات الجبصين الداخلية، وهو شخص مبتسم دائماً ويجود علينا بالقهوة التي أعدها في المنزل.
|
|
داخل قصر سحويل في عبوين |
عراقة التراث المعماري في قرية عبوين |
الوصول إلى جلجليا
وصلنا جلجليا من خلال بلدة سنجل، هذه القرية الفلسطينية المشهورة بفللها ومبانيها الجميلة والتي بناها سكانها المغتربون في بلاد المهجر، وتمتاز بنظافة شوارعها وحاراتها. وعندما توقفت الحافلة توجهنا نزولاً في الجبل نحو الوادي، النزول كان يحتاج الحذر الشديد، إلا أن احدى المشتركات "شادية" زلت قدمها فجأة وأصيبت ببعض الرضوض، ولم تستطع المتابعة، فقام ماهر وهناء بمرافقتها إلى الشارع العام حيث استقلت سيارة عائدة إلى رام الله، وهذا طبعاً يؤسفنا، خاصة أن إدارة المسار تعمم دائماً بضرورة الحذر والأخذ بالأسباب وعدم الاستهانة بالتعليمات، والحمد لله أن "شادية" بخير، بعد أن طمئننا صديقنا ريمون عواد "أبو كرم" عليها، والذي غاب عنا اليوم بسبب انشغاله.
ننزل في الوادي ونأخذ استراحة قرب شجرة جوز عظيمة، ونتابع السير ونمر بعين مياه صغيرة أو "نزازة" يطلق عليها "عين البستان"، وتخرج من باطن الصخر ويستخدم الرعيان مياهها لسقاية مواشيهم. نتابع السير صعوداً فوق سلاسل خربة "السَلعَة" حتى نصل الشارع المعبد، ومنه إلى نبع مياه يطلق عليه "عين السَلعَة "وبقربها أرض زراعية تم تسييجها لحمايتها، إذ أن مالكها يزرعها بأنواع مختلفة من الخضار. تسحرنا المشاهد الخلابة التي نراها أمامنا، ونمر بمحاذاة مغارة، ومن ثم نصعد الجبل ونمشي وسط موارس الزيتون، ونأخذ استراحة أخرى، قبل أن نتابع سيرنا باتجاه بلدة عبوين.
|
|
عراقة التاريخ في قرية عبوين |
قرية عبوين- فتحات في الصخر يبدو كانت مقابر رومانية |
رائحة الزعتر البري والفارسي والميرمية المنتشرة في المكان تنعش أنوفنا وتجعلنا نستنشق منها لنملئ رئتينا، وقام بعضنا بقطفها. هذه المرة لم نصل أسفل الواد ومن ثم نصعد إلى بلدة عبوين، بل كنا نطل عليها من علو وكانت مقالع الحجر التي شوهت المشهد العام في الجبل على يميننا، وأصبحت تلوح أمامنا بيوت بلدة عبوين ومسجدها الجديد.
نصل عين ماء يطلق عليها "عين القصير"، ويتم تجميع مياهها في بئر ومحاطة بجدران من السلاسل الحجرية. وعلى ما يبدو أنه سيتم استغلالها لراحة واستجمام أهل البلد، خصوصاً أنها تتمتع بإطلالة رائعة. وعلى يسار العين توجد فتحات في الصخر، وعلى ما يبدو أنها كانت مقابر رومانية. قرر دليلنا عبد الفتاح أن نأخذ استراحة الفطور في المكان قبل التوجه للبلدة القديمة في عبوين.
يوجد في المكان أيضاً كهف ضخم بعدة أبواب دخلتها مع أبي حسن وتناولنا فيها الفطور. ولاحظت أن المشهد البانورامي لفوهة الكهف محفور على شكل خارطة تركيا، ربما تكون صدفة. وأمام المغارة شجرة زيتون رومية صامدة صمود جبال وسهول فلسطين.
نغادر المكان بعد الفطور، وكنا نمشي في سفح الجبل وأسفلنا الطريق الترابية، ومن ثم نزلنا إليها متابعين السير باتجاه المسجد، ونرى من هناك واجهة قصر أو قلعة سحويل المهدمة، والتي نراها لأول مرة من هذا الاتجاه. ونتوجه للقلعة أو القصر الذي زرناه أكثر من مرة، لكننا في كل مرة نلاحظ أن تدميراً وتخريباً يطرأ عليه رغم ترميمه في عام 2006 من قبل مركز رواق. وهنا تم تصوير حلقات مسلسل "أم الياسمين" من إخراج بشار النجار، وقد عرضه تلفزيون فلسطين قبل عامين، ويبدو أنه قد تم الإبقاء على الديكورات لعمل جزء آخر.
|
|
قصر سحويل في عبوين |
مبنى تراثي عريق في قرية عبوين |
البلدة القديمة لعبوين
تقع بلدة عبوين القديمة على تلة منعزلة محاطة بكروم الزيتون واللوزيات وعيون المياه، ويسكن البلدة القديمة 65 عائلة.
تتمتع البلدة القديمة المؤلفة من 230 مبنى تاريخياً، بالعديد من المواقع البارزة من النواحي الأثرية والمعمارية. أحد هذه المواقع هو قلعة سحويل. هذه القلعة الحضرية من ناحية الحجم والشكل، هي قلعة نموذجية لقلاع "قرى الكراسي" بمخططها مربع الشكل تقريباً، وبطابقيها والقناطر المحيطة بالساحة السماوية الرئيسية التي تتوسطها.
مدخل القلعة عبارة عن مظلة بارتفاع طابقين، وسقفها مقوس ويتوسط واجهتها قوس قوطي، أو ما يطلق عليه "خمس" شبيه بأقواس المسجد الأقصى، وهو ما ميز العمارة زمن الأمويين. وعلى الواجهة لوحة تاريخية تفيد أن مركز رواق رمم القلعة عام 2006 بدعم من ممثلية جمهورية ألمانيا الاتحادية. أما مدخل القلعة فهو باب خشبي مرتفع تتوسطه بوابة صغيرة أو "الخوخة"، الباب الكبير يتم فتحه لدخول الخيول، فيما الفتحة الصغرى لدخول الإنسان. على يسار المدخل باب آخر بنفس الشكل يؤدي للفناء الداخلي (الساحة) وعلى يمينه درج حجري يؤدي لسطح المبنى.
|
|
مشاهد معمارية تراثية عريقة في عبوين |
ملامح إهمال التراث المعماري العريق في قرية عبوين |
على يمين الساحة رواق مغطى بواجهة قوسية. سطحه جسر يؤدي لغرفة الإعدام التي كان يتم فيها عقاب المتخلفين عن دفع الضرائب، والتي كان سقفها عبارة عن قبة مزخرفة يتوسطه حبل يتدلى من مركز القبة. في أسفل الرواق نجد آبار زيت ضخمة كان يجمع فيها الزيت من السكان، والتي كانوا يدفعونها كضريبة للشيخ سحويل.
يقول أهل القرية: "يقال إن هذا البناء بُني بخلط الشيد بزيت الزيتون نظراً لوفرته ونتيجة لانحباس المطر في ذلك الوقت، أو دليل على البذخ وحياة الترف التي كان يعيشها الشيخ سحويل."
أما الغرف فتقع في الجزئين المقابلين ويتم الوصول لها بأدراج حجرية خارجية، ولها إطلالة رائعة على الوادي والجبال المحيطة.
رغم ان المكان قد تم ترميمه عام 2006، إلا أن مشروع الترميم لم يكتمل، بل يتعرض للتخريب والدمار مرة أخرى. تمتعنا في ظل مدخل القلعة أو القصر، ثم غادرنا المكان.
غادرنا عبوين بعد أن قطعنا ثمانية كيلومترات، عائدين إلى رام الله، تماماً مثلما وصلناها صباحاً، وكانت الرحلة ميسرة بدون دوريات عسكرية أو هجمات المستوطنين.
من قرية عبوين
وهنا لا بد من التوجه للمجلس القروي في عبوين وأهل عبوين بضرورة نشر الوعي لدى سكان البلدة بأهمية الحفاظ على هذه الأماكن. وباعتقادي أن المشكلة تكمن في "روح الانتماء"، فعندما يشعر الإنسان بالانتماء لمكان ما، فإنه يهتم ب ويحافظ عليه. يفترض بالمجلس القروي الاهتمام بهذه المباني وتحويلها لمراكز ثقافية، وعمل المهرجانات الثقافية والتطوعية لإحياء البلدة والحفاظ عليها، فعبوين تختزن تراثاً عريقاً مهدداً بالضياع، فلنحافظ عليه ونبث الحياة فيه بأجمل صورة.
الإهمال يطغى على التحف المعمارية التراثية في قرية عبوين