خاص بآفاق البيئة والتنمية
ما حصل في جنين، إثر الاجتياح العسكري البري الإسرائيلي (أواخر آب وأوائل أيلول الماضيين) والتدمير الواسع للبنية التحتية والشوارع والمنازل والمنشآت والمركبات، يعد جانبا مشرقا له علاقة بالنخوة والشهامة وإغاثة الملهوف، إذ تقاطر الناس للمساعدة من كل حدب وصوب نحو المدينة ومخيمها. هذا السلوك شهدناه وعشناه في الانتفاضتين الأولى والثانية، وهو ليس غريبا بحكم قوة الروابط الاجتماعية بين الأفراد في جنين والبعد الثقافي والقيمي والحضاري والإنساني والتضامن العضوي والرغبة في مساعدة الآخرين دون مقابل. ذات المشهد التضامني، تكرر في مخيم نور شمس، حيث تجلت الفزعة بأجمل صورها بوقوف شباب المخيم مع بعضهم، من خلال حملات تنظيف الشوارع والأحياء من بقايا الركام، في محاولة لتغيير المشهد المؤلم الذي خلفته الجرافات الإسرائيلية، فما حصل للمخيم أظهر تكاتفاً غير مسبوق، وأبرز صمود الفلسطيني في الدفاع عن أرضه وفي المساندة والدعم لإزالة آثار العدوان.
|
 |
آليات بلدية جنين خلال عملها لإزالة العوائق في محيط دوار الحصان بمخيم جنين |
في الساعات الأولى من يوم 28 آب/أغسطس 2024، شنّ الاحتلال الإسرائيلي عملية عسكرية واسعة سُمّيت "مخيمات صيفية"، استهدفت مدن جنين وطولكرم وطوباس ومخيماتها. هذه العملية، التي تُعد الأضخم منذ اجتياحات 2002، جاءت بمشاركة واسعة من جميع الوحدات العسكرية وبدعم جوي، ما أدى إلى تدمير البنية التحتية ومحاصرة المستشفيات وعرقلة العمل الإنساني.
مع تزايد حجم الدمار والقيود على الحركة، برزت ردود فعل شعبية تجسدت في "الفزعة"، وهي تقليد مجتمعي فلسطيني قديم يتمثل في التكافل الاجتماعي والتضامن أثناء الأزمات. هذا السلوك ليس غريباً على المجتمع الفلسطيني، بل هو جزء من تراثه الإنساني العريق.
 |
 |
أثار الدخان المتصاعد جراء القصف الإسرائيلي على أحياء مدينة ومخيم جنين |
إصلاح خطوط المياه باشراف اللجنه الشعبية لخدمات مخيم جنين وبالشراكه مع مصلحة مياه محافظة القدس وبلدية عصيره الشماليه وقسم المياه |
الفزعة في السياق الفلسطيني
الفزعة، كما يوضحها "معجم لسان العرب"، هي تعبير عن الاستغاثة والنجدة في أوقات الشدة. تاريخياً، كانت الفزعة حاضرة في جميع المجتمعات، إلا أنها في السياق الفلسطيني أخذت شكلاً فريداً يعكس الروابط العائلية والاجتماعية القوية.
بشكل عام، تلعب الفزعة دوراً هاما في إحداث استجابة سريعة وتوجيه الاهتمام نحو المشكلة أو الحاجة الماسة، ما يؤدي إلى تحفيز العمل والتضامن المجتمعي ورد فعل تعاوني لتوفير المساعدة والنجدة في مواجهة المشكلات والمواقف الطارئة.
وبرزت الفزعة كظاهرة مجتمعية ملحوظة في معظم الانتفاضات الشعبية والاجتياحات العسكرية للمدن والمخيمات الفلسطينية، ولعل أكثر أشكال الفزعة في مجتمعنا الفلسطيني بوصفها دعماً واسناداً ونجدة وإغاثة ونداء للعمل الجماعي، هي في الساعات التي تنشب فيها الحرائق سواء للبيوت أو الأشجار، خصوصا أشجار الزيتون الهدف الرئيسي دوما لاعتداءات المستوطنين، حيث يهب الجميع في فزعة لإطفاء الحريق، في مظهر اجتماعي تعاوني مميز، كما تبرز الفزعة التعاونية أو ما تعرف بـ "العونة" في مساعدة إحدى الأسر في قطف ثمار الزيتون، أو في بناء بيت أو ترميمه أو حتى في حالة سقف البيت (العقدة)، أو في الحصاد والأعمال الزراعية الأخرى، وهناك فزعة التعاون في الأعراس والافراح والأتراح، حيث يشارك الجميع في هذه المناسبات ويساهمون كل حسب إمكانياته وظروفه.
 |
 |
آليات الإحتلال العسكرية خلال اقتحامها حي الزهراء في مدينة جنين |
إصلاح خطوط المياه باشراف اللجنة الشعبية لخدمات مخيم جنين بالشراكه مع بلدية عرابة وكادر قسم المياه في مخيم جنين |
"المعونة بالحصيدة والمجاملة بالزيتون"
بهذا المثل الشعبي الفلسطيني بدأ حديث مدير مركز إعلام حقوق الإنسان والديمقراطية "شمس"، عمر رحال، لـ "آفاق"، قائلاً: "هذه العونة التي كانت سائدة في الزمن القديم ولاحقاً عرفت بمصطلح العمل التطوعي، كانت تبرز في الأوقات العصيبة في النكبات والمصائب وبلغة السياسة في وقت الأزمات، حيث كانت تتجلى العونة والتضامن والتكافل الاجتماعي والعمل التطوعي والفزعة بأبهى صورها كجزء من الثقافة الوطنية الفلسطينية الأصيلة المتجذرة في الوجدان الشعبي".
ويضيف رحال "الذي حصل في جنين جانب مشرق له علاقة بالنخوة والشهامة وإغاثة الملهوف، حيث كان المشهد مؤثراً جدا، حيث تقاطر الناس للمساعدة من كل حدب وصوب نحو المدينة ومخيمها، وعبروا من خلال هذه الأعمال التطوعية والإغاثية عن انتمائهم وتضامنهم، وهذا السلوك شهدناه وعشناه في الانتفاضتين الأولى والثانية، وهو ليس غريباً بحكم قوة الرابطة الاجتماعية بين الأفراد في جنين والبعد الثقافي والقيمي والحضاري والإنساني والتضامن العضوي والرغبة في مساعدة الآخرين دون مقابل".
 |
 |
فزعة الشبان المتطوعين وتوزيعهم المياه عبر سيارات الإسعاف للأهالي اثناء الاجتياح العسكري لمدينة ومخيم جنين |
أزالة مخلفات عدوان الإحتلال بالتعاون مع اليات القطاع الخاص والهيئات المحلية في مخيم جنين |
حصار جنين ومخيماتها
جنّدت قوات الاحتلال فرقاً عسكرية بأعداد كبيرة وأقامت سواتر ترابية حول المستشفيات، ما جعل إيصال المصابين والمساعدات شبه مستحيل. يروي سليم السعدي، عضو لجنة الطوارئ في جنين، تفاصيل هذه المأساة قائلاً: "لقد رأينا دماراً هائلاً في الأحياء، وشهدنا كيف دمرت الجرافات الإسرائيلية البيوت والمنشآت والمرافق الحيوية. مع كل هذا الدمار، لم تقف الفَزْعَة مكتوفة الأيدي؛ بل جاء المتطوعون من كل مكان لإغاثة الناس، رغم المخاطر الأمنية."
ومن أبرز الأمثلة على شجاعة المتطوعين ما حدث عندما قام عبّود حوشية وابن عمّه محمد بتوصيل الخبز والأدوية إلى العائلات المحاصرة على متن دراجة نارية. يقول السعدي عن هذه الحادثة: "استُشهد الشابان برصاص الاحتلال أثناء أداء مهمتهما الإنسانية. كانت تلك لحظة مأساوية، ولكنها عكست معنى الفزعة بأسمى صورها، حيث قدّم الناس حياتهم من أجل مساعدة الآخرين."
 |
 |
صيانة مناهل الصرف الصحي من قبل اللجنة الشعبيه لخدمات مخيم جنين والتي دمرها الاحتلال اثناء اقتحام مخيم جنين |
آليات شركة الزايد للمقاولات والتي عملت على إزالة الدمار في شارع واد عزالدين في مدينة جنين |
نور شمس: نموذج للفزعة المجتمعية
منذ عام ونصف، تعرض مخيم نور شمس شرق طولكرم، لأكثر من أربعين اجتياحاً، دمر خلالها الاحتلال البنية التحتية من مياه وصرف صحي وشبكات كهرباء ومياه واتصالات. في هذا المخيم كانت الفزعة حاضرة كذلك. يروي تميم خريس، أحد سكان المخيم: "عندما اجتاح الاحتلال المخيم ودمّر المنازل، لم يكن أمامنا خيار سوى التضامن. الناس اقتسموا منازلهم مع من فقدوا بيوتهم، وبدأ الشباب بتنظيف الشوارع وإزالة الركام لإعادة الحياة إلى المخيم". هذه المبادرات، التي قد تبدو بسيطة، كانت تعكس صموداً جماعياً وإرادة حقيقية لإعادة بناء ما دمره الاحتلال.
 |
 |
طواقم الإتصالات خلال اليوم الثامن للعدوان عملت على إصلاح الخطوط التي دمرها جيش الاحتلال خلال عدوانه على الحي الشرقي بمدينة جنين |
جرافة عسكرية اسرائيلية التي تزن اطنان خلال تدميرها شارع كنيسة دير اللاتين في مدينة جنين |
من الشمال إلى الجنوب في مواجهة الأزمة
لم تقتصر الفَزْعَة على سكان المدن المتضررة فحسب، بل امتدت إلى جميع المحافظات الفلسطينية. قام الأهالي في رام الله ونابلس والخليل بجمع التبرعات المادية والمواد الغذائية والمياه وإرسالها إلى جنين وطولكرم. كما قامت بعض الهيئات المحلية بإرسال فرق وآليات لإصلاح الطرق المدمرة.
يقول عمر رحال، مدير مركز إعلام حقوق الإنسان والديمقراطية "شمس": "لقد شهدنا خلال الاجتياحات العسكرية في شمال الضفة حالة فريدة من التضامن. الناس لم ينتظروا المؤسسات الرسمية، بل أخذوا على عاتقهم مساعدة المتضررين. هذا السلوك الجماعي يعكس روح الفَزْعَة التي تجذرت في الثقافة الفلسطينية."
أدوار رسمية ومجتمعية متكاملة إلى جانب الجهود الفردية والمجتمعية، كان هناك دور بارز للمؤسسات الرسمية. فقد عملت اللجنة الشعبية في مخيم جنين على تنسيق الجهود الإغاثية مع البلديات والمجالس المحلية. أرسلت بلدية طولكرم فرقاً لإصلاح البنية التحتية المتضررة في نور شمس، فيما تعاونت وزارة الأشغال مع هيئات محلية لإعادة بناء الطرق. يقول السعدي: "ما حدث في جنين لم يكن مجرد فزعة أفراد، بل كان تنسيقاً واسعاً بين الجميع، من المتطوعين إلى المؤسسات، ما أدى إلى تحقيق نتائج ملموسة."
 |
 |
انقطاع المياه عن كامل مخيم جنين و80% من مدينة جنين جراء عمليات التدمير الممنهجة |
دمار شامل أحدثته جرافات جيش الاحتلال العسكرية بالبنية التحتية ومحال المواطنين التجارية في شارع جنين - برقين |
الفزعة النفسية
لم تقتصر الفَزْعَة على الدعم المادي فقط، بل امتدت لتشمل الدعم النفسي والاجتماعي. يوضح ناصر مطر، خبير الدعم النفسي ومدير مؤسسة "نفس"، قائلاً: "خلال الأزمات، تلعب الفزعة دوراً مهماً في تخفيف الضغوط النفسية على المتضررين. استضافة العائلات النازحة في بيوت آمنة ساهمت في تقوية الروابط الاجتماعية وتخفيف الشعور بالعزلة". كما يضيف: "العمل التطوعي في مثل هذه الظروف يعزز من صلابة المجتمع ويزيد من وعيه بقضايا حقوق الإنسان والتضامن المجتمعي."
في المحصلة، أظهرت الفزعة الفلسطينية روح التعاون والتحدي وقدرة استثنائية على توحيد المجتمع في مواجهة الأزمات. من جنين إلى نور شمس، ومن طوباس إلى طولكرم، تجلت هذه الروح في العمل الجماعي والدعم المتبادل. الفزعة لم تكن فقط وسيلة لإغاثة النازحين وإعادة بناء ما دمره الاحتلال، بل كانت رمزاً للصمود والإرادة القوية التي تميز الشعب الفلسطيني، لتستمر هذه الثقافة في الحفاظ على الهوية الوطنية وتعزيز الصلابة النفسية والتماسك الاجتماعي.

فزعة آليات المجالس القروية والبلدية المتجهة نحو مدينة ومخيم جنين