خاص بآفاق البيئة والتنمية

الزحف العمراني المتواصل دون رحمة في أراضي مرج ابن عامر الخصبة
(1)
بدأت الاهتمام في سن مبكر بمتابعة الزحف العمراني على الأراضي الزراعية، وبحكم نشأتي في بيئة زراعية، ومرافقتي الدائمة لوالدي، رحمه الله، كنت أراقب التدمير الذي كان بطيئاً للأرض الزراعية الخصبة، ثم تسارعت وتيرته بطريقة مجنونة.
كمثال على التدمير، كنا نحتاج للوصول إلى أرضنا في مرج ابن عامر، نحو 25 دقيقة سيراً على الأقدام، للوصول إلى قلب المدينة، ولم نكن نشاهد سوى بناء يتيم، قرب محطة تنقية المياه العادمة، أما أعمدة الإنارة فكانت بعيدة عنا، لكن حال المدينة والأرض اليوم تبدل رأساً على عقب، فانتقلت جنين عملياً إلى أرضنا. ثم أصبحت كتل الإسمنت تحاصرنا من جهاتنا الأربع.

الزحف العمراني المتواصل منذ التسعينيات في مرج ابن عامر
(2)
ما زالت الثقافة العدمية ذاتها هي التي تسيطر على عقلية مخربي الأرض الزراعية والمدافعين عن هذا الاتجاه التدميري، فهم يدعون أن الضرورات تبيح لهم أفعالهم، وأن المنطق السائد هو لغة المال والأرباح، دونما أي تفكير أو رؤية لمستقبل سيادتنا على غذائنا، وقدرتنا على إنتاج طعامنا، وتوفير حيزنا الضئيل لأحفادنا.
(3)
قال لي مسؤول رفيع، قبل نحو 20 سنة: ليس مقبولاً أن نترك الأرض الزراعية لتتحكم بمستقبل تجارتنا. فالأرض يجب أن تدر الذهب والشهد، وليس القمح والبطيخ!

جنين قديما
(4)
الشاهدان المعماريان اللذان كانا يوجعان قلبي، مع كل مرور في أطراف المدينة: سنابل القمح الإسمنتية، والبطيخة المعدنية. فقد كان يجري التعامل معهما كرموز فنية جمالية في الظاهر، لكن في حقيقة الحال، كانت شواهد تذكرنا بخيبتنا، وسوء تخطيطنا، وعدم قدرتنا على المحافظة على إرثنا، وبإساءة الائتمان لأرض كانت تنتج كل شيء، وصارت كتلاً خرسانية صماء.
(5)
نقلت لمعظم وزراء الزراعة قلقي على الأرض الخصبة، وخوفي من سوء عاقبة ما نصنع. كانت الغالبية من الوزراء، تجهل حقيقة أن مبنى وزارة الزراعة الحالي في جنين، ومقر المحافظة مقامان فوق أرض زراعية عالية الخصوبة!
(6)
سررت بقرار رئيس بلدية جنين الأسبق، د. حاتم جرار، الذي وعد عقب فوزه بالانتخابات وضع خط أحمر لمنع الاعتداءات على الأراضي الزراعية، لكنه استقال بعد وقت قصير، ولم يتمكن من تنفيذ مخططه، وأزيل خطه الأحمر.

مرج ابن عامر عام 2004
(7)
أراقب منذ 10 سنوات بقعة زراعية خصبة في سهل عرابة، من الجهة الأقرب لبلدة برقين، ففي مربع صغير جرى بناء عشرات المخازن، والبيوت، وصالة أفراخ ضخمة، ومحطة تعبئة غاز، ومصنع إنتاج زراعي، ومحطة تعبئة للمواد الزراعية، ومشطب سيارات، ومتجر للمعدات الثقيلة، وورش صناعية، وشركات إسمنت وحديد وطوب. عدا عن مصانع ومزارع دواجن وبيوت في الأفق البعيد.
(8)
وضعت معادلة منطقية قاتمة قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى، تقول إن استمرار التخريب بالوتيرة نفسها للأرض الزراعية، يعني أننا نحتاج في المدى القصير 5 -10 سنوات، لتدمير المساحة المدمرة الآن نفسها، وقتل المزيد من الأرض عالية الخصوبة. وفي المدى المتوسط 15-25 سنة، لتدمير ثلاثة أضعاف الخراب الحالي. وفي المدى البعيد 25-30 سنة، لتدمير كل شيء والإبقاء على حيازات صغيرة جداً متباعدة، غير صالحة للزراعة بمفهومهما الحالي، ومخنوقة بالإسمنت من كل جهاتها.

مرج ابن عامر عام 2014
(9)
من باب مواساتي لنفسي، أومن بشعار أن الأرض قادرة على التعافي بنفسها من آثار الزحف والتخريب، فالسيول والفيضانات والزلازل، ستزيل بنفسها الاعتداءات الجاثمة على صدرها.
(10)
قال لي رئيس بلدية سابق لجنين، ضاق ذرعاً من تكرار أسئلتي حول مرج ابن عامر: الأرض الزراعية ملك لأصحابها، وهم أحرار بما يفعلون بأملاكهم، وأرجو أن تغير هذا الموضوع، وتهتم بشيء آخر!

مرج ابن عامر
(11)
سوء العاقبة في وأد الأراضي الخصبة سيطال في نتائجه الداعمين والرافضين للزحف العمراني، ولو بعد حين، ووقتها لن ينفعنا الندم، وسنتذكر أن صمتنا عن هذا التخريب أكثر من مُعيب.
 |
 |
مرج ابن عامر صيف عام 1990 |
مرج ابن عامر عام 2015 |
(12)
الصورة الأولى لي وأنا أقف خلف مرج ابن عامر صيف عام 1990، والثانية لابني أيهم بعد 25 عاماً، في المكان ذاته، حيث تظهر الفوارق.
التقطنا الصورة الجديدة قبل 9 سنوات، لكن مشهد الإسمنت والخراب اليوم أكثر قبحاً.