شذرات بيئية وتنموية: جنين المستباحة وإعلان سطحي وطبيبان وداخل محاصر وجنون ربيعي وجفاف
خاص بآفاق البيئة والتنمية

ترميم ما بعد التدمير الإسرائيلي لطريق في جنين
تدمير
تضع دولة نووية عقلها بعقل طرقات جنين ومخيمها وبنيتها التحتية، وتصر على إفساد نهارها وليلها. خلال 8 أشهر، تعرض قلب المدينة وصغيرها القادم من حواف الكرمل وسهل الروحة ورمال حيفا وجنبات ابن عامر إلى 74 عدواناً، بمعدل مرة كل ثلاثة أيام تقريباً.
في كل غارة يبكي الجنينيون أحبتهم بسخاء، وتنفطر أفئدتهم، وصارت أكتافهم مخصصة لرفع نعوش فرسانهم، وتحولت حياتهم إلى أخبار متلاحقة. يصنعون الخبر، ومرشحون لأن يصير دمهم هو النبأ القادم بحد ذاته.
لا تستطيع في جنين التخطيط لساعة واحدة قادمة، ولا انتظار أهلة الأعياد، وتضع يدك على قلبك إن ضحكت بعفوية، وعليك أن تحمل روحك على راحتك إن كنت بجوار نافذتك، أو في متجرك ومزرعتك أو عيادتك، فقد تكون أنت الخبر غير السار القادم.
حين تنهش الجرافات الثقيلة شوارع المدينة ومخيمها، فإنها لا تسمم حياة الناس، أو تدمر طبقة الإسفلت فقط، بل تأتي على ذكريات العابرين من دروب فيها من التاريخ والذكريات ما يفوق التراب والحصى.

دجاج!
مؤسف ومخجل الترويج لمنتج وطني بهذا الشكل. للعَلَم هيبته ورمزيته، ولا يمكن اختزاله بدجاجة ترفع راية الوطن.
 |
 |
الطبيب اسيد كمال عبد الفتاح ارتقى شهيدا داخل مشفى جنين في أيار الماضي |
المرحوم د. كمال عبد الفتاح شيخ الجغرافيين الفلسطينيين |
طبيبان جراحان
يشعر كل من تتلمذ على يد القامة د. كمال عبد الفتاح في جامعة بيرزيت، بفداحة الخسارة على ارتقاء نجله الطبيب الجراح د. أسيد، في 21 أيار الماضي، داخل مشفى جنين.
فقد غاب الأب المهجر من أم الفحم في نهاية كانون الثاني/يناير 2023، لكن ذكرى هذا الرجل ظلت حاضرة لخير معلم وملهم وناقد ومحب لوطنه.
رفض الوالد، الذي استضافته (آفاق) قبل رحيله، حقيبة التربية والتعليم ووزارتها، وعلم أولاده وتلاميذه على طريقته الخاصة، وساعد الكثير من طلبته في إكمال تعليمهم العالي، وحافظ على تواضع وهدوء ورصانة، وحلم بالعودة إلى أم الفحم، وطاف بطلبته في رحلات لشطرنا المسلوب.
كان الأب يُشرّح الجغرافيا السياسية للوطن العربي المفكك، ويهتم بنباتات الوطن وجباله وهضابه وسهوله، بينما لازم الابن غرف العمليات، ليُشرّح علل مرضاه، ويمنحهم ترياقاً.
يلتحق الابن بوالده، ليجدد وجع جنين وخسارتها الفادحة لجغرافي أحب وطنه حتى النخاع، وأنجب طبيبها البارع، الذي ارتقى وهو يضمد جراحها.

عكا
شطر الروح
عاد بعد غياب 8 أشهر شريان الحياة ليربط من جديد بين شطري الفؤاد: الداخل المحتل وجنين. في الأدب كنا نستعير البرتقال والبحر للدلالة على خسارتنا الفادحة. أما في طفولتنا فكنا نسمع مصطلحات غير لطيفة تصف أهلنا، والتصقت بألسن بعضنا. فلا "عرب لإسرائيـل"، بل إن الموسومين بذلك يتفوقون علينا بصمودهم وما لحق بهم من ويلات. لم تفرق لوحات التسجيل الصفراء والهوية الزرقاء بين الأصل والفرع أو بين الجسد والروح. إنهم أصحاب البيت ونحن الضيوف.
كانت جنين تجمع الناصرة وقراها وحيفا والجولان، وارتبطت أم الفحم وصَنْدَلة والمْقِيبلة والمَزار ونُورِس وزَرْعِين بقلب جنين قبل النكبة، واليوم تنافس أم الفحم والدتها جنين.
كنا نرى القادمين من الجولان السوري بلهجاتهم الجميلة، ولباسهم التقليدي، وشواربهم المميزة، وصرنا نميز بين لهجات الشمال عن المثلث وحيفا. حين نراهم نسترد برتقال يافا، وأسوار عكا وجزارها وسمكها، ونعود إلى بشارة الناصرة، ونعتلي إسكندر أم الفحم، ونؤسر بسهول زرعين، ونشمخ بكرمل حيفا، ونعيش كبرياء الجليل، ونلمس رمال النقب البعيد.
"خيتا" و"خيّا"، وتشديد القاف، ومد الكلمات، وقلب الهاء إلى ألف، وتحويل الضمير هم إلى هن، والإطاحة بالميم لصالح النون، وغيرها مزيج جميل من لهجات تشكل لوحة لعُشاق فلـسطين.
سيعود الأهل عبر حاجز الجلمة لا معبرها، وسنستقبلهم بالترحاب، فهم ليسوا قوة شرائية، بل امتدادات الروح التي تبعث الحياة في الجسد المكلوم الواحد.

أجواء حارة
ربيع حار
شهد النصف الأول من حزيران/يونيو موجات حارة، تخطت 44 مئوية في الأغوار، وفاقت 40 درجة في جنين.
في الأوضاع الطبيعية، يمثل الشهر السادس من العام اختتام فصل الربيع، الذي ينقضي في 21 حزيران/يونيو، وهو شهر حاد المزاج، وسيء الوقع على الفلسطينيين الذين فقدوا فيه بقية وطنهم.
في الحر تتعطل غالبية الطاقات، ويزيد سحب المياه لري عطش المزروعات، وتنحصر مهمة الناس بادراه شؤون جلودهم، ونتذكر مواردنا التي تسطو عليها دولة المحتل، ونشعر بفداحة نهب شريطنا الساحلي الطويل، وحرماننا من ثرواتنا التي تسير تحت أقدامنا، دون أن نتنعم بأكثر من 85% منها.
كما تزداد سرعة إيقاع صهاريج نقل الماء، ويسرف الناس في انتظار جداول توزيع المياه على أحيائهم، ويشعرون بقسوة جحيم ربيعهم في آخر أيامه.
وفي كل صيف مجنون، نسترد ما علمنا إياه المحاضر د. هشام عورتاني، خلال محاضرات اقتصاديات فلسطين، والذي كان يفند زعم كتب الجغرافيا بأن صيفنا معتدل وأن بلادنا جنة في مناخها!

جفاف المحاصيل خلال الموجات الحرارية غير المسبوقة في حزيران الماضي
تصحّر
أصدر مركز التعليم البيئي/ الكنيسة الإنجيلية اللوثرية في الأردن والأراضي المقدسة نشرة تعريفية لليوم العالمي لمكافحة الجفاف والتصحر، التي توافق سنوياً في 17 حزيران/يونيو، وترفع هذا العام شعار "متحدون من أجل الأرض: إرثنا ومستقبلنا" لتعبئة شرائح المجتمع لدعم الإدارة المستدامة للأراضي.
وأوردت النشرة معطيات دولية حول ظاهرة تعد الأخطر على الحياة والتنوع الحيوي، وتهدد بمستقبل قاتم لكوكبنا، وبخاصة في ظل اتساع فجوة التصحر، وزيادة الممارسات البشرية التي تساهم في تسريع وتيرة التغير المناخي، ولا تحرص على استهلاك وإنتاج مستدامين.
وأكد المركز أن تعرض غزة لعدوان واسع النطاق منذ مطلع تشرين الأول/أكتوبر 2023 تسبب في كارثة كبيرة، ووصل حد الإبادة البيئية، وفق توصيف القاعدة 45 من القانون الدولي الإنساني العرفي، وعملت على تدمير كل مظاهر الحياة.
وأوردت النشرة تقديرات لوزارة الزراعة، بينت أن حجم الاعتداءات على الأراضي عالية القيمة يبلغ مئات الدونمات سنوياً، إذ إن الحيز المتبقي من الأراضي عالية القيمة، وخارج المخطط المكاني يبلغ 9% فقط من مساحة أراضي الضفة الغربية البالغة نحو 550 ألف دونم، وكان حجمها في المخطط المكاني 10% عام 2014، فيما تشهد جنين ونابلس وأريحا والأغوار أكبر اعتداءات على الأراضي.
وأوضحت أنه، وفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فقد بلغ عدد المواقع الاستعمارية والقواعد العسكرية الإسرائيلية في نهاية عام 2022 في الضفة الغربية 483 موقعاً، تتوزع بواقع 151 مستعمرة و25 بؤرة مأهولة تم اعتبارها كأحياء تابعة لمستعمرات قائمة، و163 بؤرة استعمارية، و144 موقعاً مصنفاً، وتشمل مناطق صناعية وسياحية وخدماتية ومعسكرات لجيش الاحتلال. فيما بلغ عدد المستعمرين 745,467 مستعمراً أي حوالي 23 مستعمراً مقابل كل 100 فلسطيني، في حين بلغت أعلاها في محافظة القدس حوالي 69 مستعمراً مقابل كل 100 فلسطيني. وشهد العام 2023 زيادة كبيرة في وتيرة بناء وتوسيع المستعمرات الإسرائيلية، إذ صادق الاحتلال على العديد من المخططات الهيكلية الاستعمارية لبناء أكثر من 18 ألف وحدة استعمارية، ما يعني نهب المزيد من الأراضي، واقتلاع مساحات جديدة من الأشجار، وشق طرق استعمارية، والاعتداء على المحميات الطبيعية.
ونقلت النشرة معطيات دولية أكدت أنه في كل ثانية، يتدهور ما يعادل أربعة ملاعب كرة قدم من الأراضي السليمة، أي ما يصل إلى 100 مليون هكتار (مليار دونم) كل عام، بينما تعد 40% من أراضي العالم متدهورة بالفعل، ما يؤثر على أكثر من نصف البشرية.
واستناداً إلى بيانات أممية، يعيش حالياً حوالي ملياري شخص في الأراضي الجافة المعرضة للتصحر، ما قد يؤدي إلى نزوح نحو 50 مليون شخص بحلول عام 2030. وإذا لم يتمكن الناس من زراعة الغذاء، فسوف يحتاجون إلى الانتقال إلى منطقة حيث يمكنهم ذلك، ما يزيد من خطر التصحر، ويكون له آثار سلبية على الحياة البرية وصحة الإنسان.
ودعت النشرة إلى حظر إقامة أي منشآت زراعية في الأراضي عالية القيمة، واتخاذ إجراءات وتدابير تحول دون تدمير الأراضي الخصبة من خلال فرض قيود مشددة.
وحثت مجلس الوزراء، على تطبيق قراره في 12 تشرين الأول/أكتوبر 2020 لوقف التعديات على الأراضي المُصنفة بذات القيمة العالية، ووضع "آليات عمل عاجلة لحماية تلك الأراضي من أخطار الزحف العمراني غير القانوني، وغيرها من التعديات."
وأهابت بالمخططين والمسؤولين بعدم التهاون في حماية الأرض الزراعية والمحميات الطبيعية، وتشجيع المواطنين والمهندسين على تبني نمط التوسع العمودي.
كما أطلقت نداء بضرورة العودة إلى الأرض، وتنبي أنماط الاستهلاك والإنتاج المستدامين، والتوقف عن الممارسات السلبية في الزراعة، التي تزيد من وتيرة الجفاف والتصحر، واتباع أساليب ري ذكية، والمضي في ممارسات تحافظ على الاستخدام الفعال للموارد الطبيعية، خاصة المياه.