خاص بآفاق البيئة والتنمية
هل كان يدور في خلد أي فلسطيني أن يعيش مجاعة وفقدان "للأمن الغذائي" في وطنه؟ أم أن الفلسطيني تحت وطأة القصف الممنهج لكل مظاهر الحياة في قطاع غزة اكتشف للحظة أهمية سيادته على غذائه؟ فنتائج الحرب لا تكون في حساب الأرباح والخسائر العسكرية فقط، بل بالكلفة الاجتماعية والاقتصادية لهذه الحرب وانعكاس هذه الكلفة على حياة الجماهير الشعبية بشكل أساسي. هل كان من الممكن أن تفتقد الخبز ونحن نزرع الورد والتوت للتصدير، فيضحي جمع الدقيق المتناثر على الرمل فجيعة جديدة تعكس مأساة انسانية سببها الاستعمار والاحتلال، وسياسات الاخضاع المنهجية من خلال التجويع والحصار؟
|
 |
مأساة الجوع في قطاع غزة |
هل كان يدور في خلد أي فلسطيني أن يعيش مجاعة وفقدان "للأمن الغذائي" في وطنه؟ أم أن الفلسطيني تحت وطأة القصف الممنهج لكل مظاهر الحياة في قطاع غزة اكتشف للحظة أهمية سيادته على غذائه؟ فنتائج الحرب لا تكون في حساب الأرباح والخسائر العسكرية فقط، بل بالكلفة الاجتماعية والاقتصادية لهذه الحرب وانعكاس هذه الكلفة على حياة الجماهير الشعبية بشكل أساسي.
هل كان من الممكن أن تفتقد الخبز ونحن نزرع الورد والتوت للتصدير، فيضحي جمع الدقيق المتناثر على الرمل فجيعة جديدة تعكس مأساة انسانية سببها الاستعمار والاحتلال، وسياسات الاخضاع المنهجية من خلال التجويع والحصار؟
هنا غزة في ظل القصف والتدمير والتهجير وسياسة الأرض المحروقة، هنا غزة حيث الجريمة المشهودة بحق كل شيء حتى الهواء الذي تتنفسه، هنا شريط ضيق من أرض فلسطين وزع على العالم شظاياه واجتمعت فيه كل شظايا الموت من أربعة أرجاء الأرض، هنا الموت المحقق والصمود الأسطوري، وهنا الجوع الذي لا يكفر بحتمية الحرية، لكنه يكفر بموت الانسانية والمروءة والنخوة.
يعيش القطاع فقدان "الأمن الغذائي" الذي لا يشكل رفاهية بل يقيم أود الحياة الانسانية، لأن سياساتنا اعتمدت مفهوم "الأمن الغذائي" وليس السيادة على الغذاء والفرق كبير بين المفهومين، في الأول لا يهم مصدر الغذاء من أين أتى وفي الثاني يبرز الفعل الانساني الواعي والمعتمد على ذاته.
لقد فقد أكثر من مليوني فلسطيني أمنهم الغذائي المباشر وهم يتضورون جوعا، الآن في ظل حرب ضروس خلطت الدم بالاسمنت بالتراب وماء البحر المالح، وتقلصت بطون الناس حتى بانت اضلعهم تحت جلودهم، لأن مفتاح "الأمن الغذائي" لم يكن بيد الفلسطيني بل بيد المحتل وحلفائه الذين لم يجرؤا على فتح أي منفذ للقمة خبر تسد جوع طفل أو حليب لرضيع أو شربة ماء نقية، ولأن مفتاح "الأمن الغذائي" بيد محتل تواضعت أعتى الأنظمة الدموية في العصر الحديث أمام افعاله، فقد انضاف الجوع والموت جوعا الى الموت بالقذائف، وهرست جنازير الدبابات حقول غزة، وكل المعلقين والمحللين السياسيين، والعسكريين لا يعيرون اهتماما الى تلك المساحات القليلة المزروعة كيف تموت وتسيل عصارتها تحت جنازير الدبابابات. كل ما يهمهم ان هذه ارض وميدان مفتوح يختلف عن المدن التي لم تعد مدنا.
لقد هرسوا مزارع بيت لاهيا وخزاعة وبني سهيلا والشيخ عجلين، ذبحوا الشجر الواقف، بأنياب الجرافة اللئيمة في جباليا، وقصفوا نخل دير البلح، وفي انشغال الغزاوي بالحرب لم يكن لديه وقت ليزرع القمح، لا التوت والورد، ولذلك تعيش غزة الأن غائلة الجوع التي باتت سلاحا يضاف الى القذائف المميتة لكل شيء.
لا وقت لإحصاء الشجر والزرع الذي استشهد الى جانب النساء والشيوخ والاطفال، لا وقت لإحصاء المراكب الصيد الفقيرة التي حرقت على الشواطيء، وقد هرب السمك الى اعماق البحر خوفا من هدير الطائرات النفاثة، لكن نستطيع القول إن قطاع غزة قد فقد امكانية تحقيق "الأمن الغذائي" لأنه فقد السيادة على الغذاء، فلا أمن للغذاء دون أن يكون ذلك ناتجا عن سيادتنا على غذائنا.

الزراعات التقليدية في قرية بتير قضاء بيت لحم
ما هو الأمن الغذائي وما هي السيادة على الغذاء؟
يعني "الأمن الغذائي" توفر الامكانية لجميع الناس في جميع الأوقات من الوصول المادي والاقتصادي الى الغذاء الكافي والآمن لتلبية احتياجاتهم الغذائية وتفضيلاتها لأجل أسلوب حياة نشط وصحي، هكذا تعرف الأمم المتحدة "الأمن الغذائي"، وهو تعريف عام منقوص من عناصر مهمة مثل من أين يتم الوصول الى الغذاء، وكيف يتم ذلك ماديا واقتصاديا؟ هل من خلال الانتاج المحلي أم من من خلال الاستيراد وشروطه المجحفة سياسيا واقتصاديا؟
في المقابل قدمت حركة طريق الفلاحين مفهوما مواجها لمفهوم "الأمن الغذائي" المعوم، وهو مفهوم السيادة على الغذاء، هذا المفهوم يسعى الى تحرير الغذاء من شروط التجارة العالمية. وبينت حركة طريق الفلاحين ان السيادة على الغذاء هي حق جوهري للشعوب في غذاء ملائم يتم انتاجه من خلال طرق سليمة، بحيث يكون موائما للثقافة المحلية ومستداما من الناحية البيئية، بمعنى أنه حق اصيل للناس في تحديد نظمهم الزراعية وفق احتياجاتهم لا احتياجات السوق العالمية. إنه مفهوم يقاوم حرية السوق وتخريب القيم الزراعية ويكسر سلاسل القيم التي انشأتها منظمة التجارة العالمية في هذا المجال، لصالح سلاسل قيم محلية هدفها تلبية احتياجات المواطنين.

من خلال جدرانه العنصرية ومستوطناته وقواعده العسكرية يتحكم الاحتلال في عملية إطعام وتجويع الفلسطينيين
هل هناك سيادة على الغذاء في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967؟
في ضوء المفهومين السابقين، "الأمن الغذائي" في فلسطين مهدد قبل السيادة على الغذاء، حيث تم تدمير كل مقومات السيادة على الغذاء خلال سني الاحتلال الطويلة؛ كما وعلى المستوى الذاتي، لا توجد لدينا سياسات زراعية تحقق لو جزئيا مفهوم السيادة على الغذاء؛ فالسياسات النيوليبرالية في هذا المجال هي السائدة وأسواقنا الفلسطينية مفتوحة أمام شتى أصناف الغذاء المستورد، فيما يعاد تشكيل التركيب المحصولي في الأراضي الفلسطينية بما يخدم السوق الإسرائيلي وليس بما يخدم احتياجات الناس.
أما على مستوى السياسات الاحتلالية فقد قطعت شوطا طويلا في تخريب الزراعة الفلسطينية، واللعب في ما تبقى من تقاليد زراعية متوارثة كانت مستجيبىة لاحتياجات الناس، فالاحتلال يتحكم ويصادر الأرض والموارد المائية، ويخضع الانتاج الزراعي الفلسطيني لمتطلبات سوقه تحت سمع وبصر السلطة الفلسطينية التي لم تول الزراعة والأرض قيمة حقيقية تربط بين البعد الانتاجي لها وقيمتها التحررية الوطنية، وبالتالي فاننا نعيش اليوم تهديدا دائما لمصادر عيشنا، ليأتي العدوان الإجرامي على القطاع ويكشف هشاشة قدرتنا على توفير الغذاء الآمن من انتاجنا، أو توفير عادات غذائية تحقق الصمود لا أن يصبح التجويع سلاحا يضاف الى الطائرات والدبابات وكل ادوات القتل والتهجير وتخريب الارض.
كانت غزة وطوباس تنتج القمح وكانت تنتج الخضار والحمضيات، وكانت الخليل سلة العنب وطولكرم سلة متنوعة، عدا عن الزيتون الذي يتناقص الآن في البلاد، فتم وفق سياسات احتلالية ووفق عشوائية في التخطيط تبوير الأرض، ونزع فتيل من فتائل الصمود والتحرر من هيمنة الاحتكارات الإسرائيلية والعالمية. والآن لعب الاحتلال الإسرائيلي في تغيير ذائقتنا واختياراتنا الغذائية بما يتفق مع سياساته التحكمية في كل شيء في حياتنا، ولعبت السوق الحرة محليا دورا في تعزيز النهج الاحتلالي ولم تكن مقاومتنا له الا بالشعارات وغابت الاستراتيجية الوطنية في تحقيق السيادة على الغذاء، لتحل محلها ذهنية الاستيراد والاعتماد على الأسواق الخارجية، لنكون ازاء اقتصاد زراعي هش، رغم كل امكانات تطوره ليصبح أحد عناصر القوة التي تؤكد الصمود والاعتماد النسبي على الذات.

المجاعة تنهش أجساد أهالي غزة الذين يقتاتون أعلاف الحيوانات وورق الشجر والمخلفات الفاسدة
كي لا نؤكل يوم اكلت غزة
لنتعلم الدرس من غزة وما تعانيه، فما ينتظر الضفة الغربية ليس بأقل مما تعانيه غزة الآن، فاغلاق المعابر والحواجز ومنع الوصول الى الارض وزراعتها، هي مظاهر نعيشها الآن ويمكن ان تتطور لاحقا الى حصار مشدد، بحيث لن يكون هناك سوقا خارجية توفر احتياجاتنا وفق مفهوم "الأمن الغذائي"، وحتى السوق الداخلية سوف تكون صعبة وغير مترابطة نتيجة الحواجز، هذا عدا عن تخريب المستوطنين واعتداءاتهم. هنا لا بد من سياسة وطنية تعتمد السيادة على الغذاء منطلقا وأساسا لكل سياساتنا الزراعية القادمة، سواء كان الانتاج فيها صغيرا أو متوسطا أو كبيرا. ولا بد من التخلي عن ما تفرضه مؤسسات التمويل الدولية علينا من توجهات تديم اخضاعنا لأنظمة الغذاء النيوليبرالية، وهذا يتطلب، عدا الوعي، ممارسة حقيقية على الأرض، وخطط لا تخضع لشروط الاحتلال، بل تبني حالة تحدي لهذه الشروط، ففي هذا تعزيز للقيم التحررية وصقل للوعي الوطني من خلال شحذ التفكير بالبعد الاقتصادي الاجتماعي للتحرر الوطني.