خاص بآفاق البيئة والتنمية
يقترح هذا المقال عدداَ من الأفكار التي يمكن من خلالها تحويل رمضان المبارك إلى شهر بيئي مثالي، من خلال التركيز على محاولة تغيير عادات الطعام والشراب والعمل والتوجهات وغيرها.
|
 |
فانوس رمضاني |
تستند فلسفة الصوم إلى الإحساس بالمعوزين والشعور بجوعهم وحرمانهم، والتقرب إلى الله بالعبادات، في شهر يعد مناسبة مثالية لتنظيم الوقت وإدارته بفعالية، وتوقيت رائع للوحدة بممارسات عملية في الشعائر والعبادات ومواعيد وجبتي السحور والفطور وغيرها.
لكن واقع الحال لا يحقق المرجو من الفريضة، فمقاصد الصوم الحقيقية تضيع في ظل أنماط استهلاكية مُبالغ فيها، تصل حد الإسراف وهدر كميات كبيرة من الطعام. كما أن ربط الشهر الكريم بمضاعفة الإنفاق وتحميل النفس فوق استطاعتها، وحصره في استهلاك أنواع عديدة من الطعام والشراب والحلوى وأدوات الزينة والإضاءات وغيرها يقتل روحانيته ويحوله إلى شهر مادي.
نقترح في هذا المقال عدداَ من الأفكار، التي يمكن من خلالها تحويل رمضان المبارك إلى شهر بيئي مثالي، من خلال التركيز على محاولة تغيير عادات الطعام والشراب والعمل والتوجهات وغيرها.

خبيزة مطبوخة
سلوك ولوائح
علينا أن نبدأ بوضع برنامج رمضاني مثالي لتخفيف النفقات، ومنع هدر الطعام، وتفادي الوقوع في التخمة، وزيادة فكر الاعتماد على الذات، ومضاعفة الإحساس بالمحرومين، خاصة في غزة.
بداية، يجب علينا ألا ننجر خلف حملات الترويج والتخفيضات والعروض، التي تعلن عنها المتاجر الكبرى، وأن ننطلق من شعار: نشتري فقط ما يلزمنا، حتى لو كان بأرخص الأثمان.
يكفي أن نُعد لائحة من الطعام والشراب الضروري فقط، وأن نتجنب الكماليات. ولتحقيق هذا الهدف، يكفي أن نضاعف شعورنا بأهلنا في قطاع غزة، الذين يصومون عمليًا منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ولا يجدون ما يسد جوعهم الإجباري، ومعظمهم يتناول ربع وجبة كل 48 ساعة وفق بعض التقديرات لمنظمات الإغاثة، واضطر جزء منهم لإعداد خبزه من أعلاف الحيوانات وتناول أوراق الشجر!
ينبغي أن نعود قبل الشهر الفضيل إلى معطيات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO)، التي تتحدث عن أرقام مؤسفة فلسطينياً وعالمياً حول الطعام الذي ينتهي به المطاف في مكبات النفايات.

مائدة رمضانية
فرصة ذهبية
من الضروري في رمضان وغيره أن نعود أنفسنا على تقليد إنتاج جزء من غذائنا بأنفسنا، من خلال الاستفادة القصوى من الحدائق المنزلية، والزراعات المائية، واستثمار شرفات المنازل وكل حيز ممكن زراعته أو تسخيره في الإنتاج النباتي والحيواني.
علينا مع كل سحور وفطور أن نتذكر أرقامًا لعام 2021، قالت إن حوالي 193 مليون شخص يعانون مستويات مرتفعة من انعدام الأمن الغذائي الحاد ويحتاجون إلى المساعدة الإنسانية للبقاء على قيد الحياة، فيما واجه أكثر من نصف مليون شخص ظروف المجاعة والموت. بينما يعجز أكثر من 3 مليارات نسمة (أي قرابة 40% من سكان المعمورة) عن تحمّل كلفة نمط غذائي صحي.
من الضروري أن نتمعن في أرقام الأمم المتحدة، التي أكدت أن 20% من المواد الغذائية (ما يقرب من مليار طن) التي كانت متاحة للمستهلكين في أنحاء العالم في 2019، أهدرت من جانب الأسر وتجار التجزئة والمؤسسات وقطاع الضيافة.

موائد رمضانية
دروس الهدر
من المفيد التوقف عند تشبيه لمنظمات دولية، قال إنه لو تمت تعبئة جميع المواد الغذائية المهدرة في شاحنات سعتها 40 طناً اصطفت خلف بعضها، لدارت حول الأرض 7 مرات. فيما يعاني قرابة 700 مليون إنسان الجوع كل يوم.
من المناسب أن نُعلّم أطفالنا أن هدر الغذاء العالمي مشكلة تزن مليار طن، وفقاً لمؤشر نفايات الطعام لعام 2021 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة.
ونتذكر أننا نعيش في عالم ينتج 931 مليون طن من نفايات الطعام كل عام، يأتي 569 مليون طن منها من المنازل. ويعزى الباقي إلى خدمات الطعام (244 مليون طن) وقطاعات التجزئة (118 مليون طن). وأن متوسط نصيب الفرد عالمياً من بقايا الطعام يصل إلى 74 كغم سنوياً.
يجب علينا عدم القفز في موسم الصوم عن حقيقة هدر العالم العربي لأكثر من 40 مليون طن من الغذاء انتهت في مكبّات النفايات، في الوقت الذي تعتبر فيه بلدان المنطقة من الأكثر استيراداً للغذاء الذي ما فتئت ترتفع أسعار مدخلاته في العالم في الفترة الأخيرة. وبحسب تقرير برنامج الأمم للمتحدة للبيئة، عام 2021، فإن الأغذية التي أهدرت في المنطقة العربية، والتي تتعدى 40.1 مليون طن، تمثل حوالي مليون شاحنة تتسع كل واحدة منها 40 طناً.
من المهم تأمل بيانات برنامج الأمم المتحدة، التي أكدت أن مصر تأتي في مقدمة البلدان المهدرة للأغذية في المنطقة العربية، بـ 9 ملايين طن، ويصل حجم مساهمة كل فرد في ذلك بحوالي 91 كغم في العام. يليها السودان بـ 4.16 ملايين طن، والجزائر بـ 3.91 ملايين طن، والمغرب بـ 3.31 ملايين طن، وتونس 1.06 ملايين طن، وليبيا بأكثر من 513 ألف طن، وموريتانيا 450 ألف طن. وجاءت العراق بـ 4.73 ملايين طن، متبوعة بالسعودية بـ 3.59 ملايين طن، واليمن بـ 3.02 ملايين طن، وسورية بـ 1.77 مليون طن، والأردن بـ 939 ألف طن، والإمارات العربية بـ 923 ألف طن، ولبنان بـ 717 ألف طن، وفلسطين بـ 501 ألف طن، وعمان بـ 470 ألف طن، الكويت بـ 397 ألف طن، وقطر بـ 267 ألف طن، والبحرين بـ 216 ألف طن.
ومن المفيد التوقف عند تقرير للبنك الدولي، أكد أنه ما بين 14 و19% من إنتاج الحبوب في المنطقة العربية يتم هدره، في الوقت نفسه تعرف المنطقة هدر 16% من الخضراوات، و45% من الفواكه، و13% من اللحوم، و28% من الأسماك، و18% من الحليب.

من حدبقة منزلية
الربيع: ميزة وخيارات
علينا أن نغير من عادات الإفراط في اللحوم والشحوم اليومية، خاصة في ظل الجوع والضنك في غزة، وأن نخطط لأطعمة تراثية أكثر، وأن نعود أطفالنا على ذلك، ولو بالتدريج.
من المهم أن نستثمر قدوم الشهر الفضيل قبيل الربيع، للاستفادة من خيارات الورقيات التي تجود بها الطبيعة بسخاء لغداء صحي ومتوازن، يعتمد على طيف كبير من النباتات كالبصل الأخضر، والزعتر، والسلك، والعلك (الهندباء)، والحميض، والحويرنة، واللوف، والفول، والبازيلاء، والحمص المبكر، والزعمطوط، وورق اللسان (اللسينية)، وغيرها.
علينا أن نقدر الطعام الذي نحتاجه يومياً، وأن يكون تقديرنا للكميات في المساء، وبعد تناول طعام الإفطار؛ لأن الجائع يفرط في التقدير خلال النهار.
من الجيد تأخير التسوق لما بعد الفطور، لأن الجائع يبالغ في شراء ما لا يلزم، وأن يكون تسوقنا من المتاجر الصغيرة، التي لا تغالي في عرض أصنافها، وتجبرك من حيث لا تعلم على شراء ما لا يلزمك بطريقة العرض والترويج، لأنها تخاطب معدتك لا عقلك.
من المفيد رد الاعتبار للاكتفاء الذاتي في رمضان وغيره، والرجوع إلى الطعام والشراب التراثي، فكل تراثي غالباً طبيعي، ولا يحتوي على كميات كبيرة من الأصباغ والألوان والمواد الحافظة والمثبتة.
سكر أقل
علينا أن نُقلل من استهلاك السكر الأبيض الصناعي، وألا ندمن على الحلويات التي تهدد صحتنا بسكرها، تماماً مثلما يهدد الملح.
من الضروري ألا نبالغ في السهر ليلاً والنوم النهاري، وألا نعد قائمة طويلة بأعمال تلفزيونية رمضانية، وأن نقنن من متابعة برامج الطبخ التي تتكاثر في شهر يفترض أن يكون موسماً للتقشف والزهد.
وحبذا لو خصصنا وقتاً يومياً للمشي، خاصة قبيل الإفطار أو بعده، وتوقفنا عن استخدام المركبات الخاصة في الوجهات القريبة، لنوفر حرق المزيد من الوقود، وحرق أعصابنا جراء الزحمة الخانقة التي نصنعها.
من المهم أن نفكر في عدد الساعات الطويلة التي نقضيها في تحضير الأطباق الرئيسية والفرعية والمقبلات والشوربات والحلويات والمسليات والمشروبات، إضافة إلى تنظيفها وترتيبها.
من الواجب أن نعيد النظر في ولائم رمضان الجماعية، وأن نخرج في إجازة من نشر أطباقنا عبر مواقع التواصل، فأحزاننا لا تسمح بهذه الاعتيادية والابتهاج.
ومن المحبذ تقنين طباعة "الإمساكيات" الورقية، والتحول نحو مواقيت رقمية لعدم هدر المزيد من الورق.
وأمر لطيف أن نصنع زينة رمضان، في الأوضاع الاعتيادية وليس هذا العام العصيب، بأيدينا، وألا نبالغ في شراء زينة مصنوعة في الصين، سرعان ما يصيبها التلف.
ممارسات مفيدة
من الجيد أن نبدأ في شهر الصوم بممارسة مفيدة للبيئة، مثل صناعة الأسمدة العضوية من بقايا قشور الخضراوات والفواكه وأية مواد عضوية ننتجها في البيت، وأن يكون ذلك ممارسة دائمة.
وبالإمكان أن نمضي جزءاً من أوقاتنا الرمضانية لتنفيذ مبادرات تطوعية إيجابية لعون الآخرين، وتجميل الاحياء، وتنظيف الطرقات، وتلمس حاجة الذين فقدوا أعمالهم منذ العدوان الأخير.
من الضروري ألا نقفل بسياراتنا الطرقات المؤدية للمساجد لأداء الصلاة، وأن نتذكر أن عبادتنا يجب ألا تكون سبباً في التضييق على غيرنا، كإقفال الطريق مثلاً في وجه مريض يحتاج سيارة إسعاف للوصول إليه ويعيقها زحام مفتعل لمصلين أو متسوقين.
من غير الجيد أن نربط رمضان بتقليص ساعات العمل، وبالتظاهر بالتعب والتكاسل، خاصة أن شهر الصوم في هذا العام يأتي في جزء من خمسينية الشتاء ومستهل الربيع، فلا حرارة مرتفعة، ولا عطش، ولا ساعات صيام طويلة.
علينا أخيراً أن نراجع أنفسنا، ونستذكر الطعام الذي هدرناه في مواسم الصوم السابقة، وألا نبالغ في تحويل نقودنا إلى غذاء وسلع ومسليات، فهذه خطوة مهمة نحو تبني الإنتاج والاستهلاك المستدامين.
كل رمضان والجميع بخير، وقلوبنا مع أهلنا في غزة الذين سيعيشون أقسى شهر صوم في حياتهم.