النيتروجين.. من نعمة إلى نقمة
أستاذ اقتصاديات التغيرات المناخية

التلوث بالنيتروجين...العنصر المنسي لتغير المناخ
النيتروجين في المقام الأول، غاز خامل عديم اللون والرائحة لا يدعم حياة الإنسان. يُوجد النيتروجين في التربة، وفي الطعام الذي نتناوله، وفي حمضنا النووي، وهو اللبنة الأساسية للحياة، وبدون النيتروجين لن تكون هناك حياة على الأرض. يساعد النيتروجين على جعل الأراضي الزراعية خصبة، وهو مكون رئيسي للبروتين الذي تحتاجه جميع الكائنات الحية للنمو.
النيتروجين (N2) هو العنصر الأكثر وفرة في الغلاف الجوي. يجب أن يكون النيتروجين النقي مرتبطاً كيميائياً بعناصر أخرى سواء بشكلٍ طبيعي أو صناعي حتى يكون صالحاً للاستخدام بالنسبة لمعظم الكائنات الحية. ويُمكن جعل النيتروجين الجوي صالحاً للاستخدام أو "مُتفاعلاً"، من خلال العمليات الطبيعية كتثبيت النيتروجين بواسطة البقوليات، مثل فول الصويا وغيره، أو من خلال العمليات الصناعية.
ومما لا شك فيه أن الاكتشاف "العظيم" لكل من: فرانز هابر وكارل بوش (عملية هابر- بوش) قبل أكثر من قرن، الذي حول النيتروجين الموجود في الهواء إلى الأمونيا، جعل تصنيع الأسمدة النيتروجينية ممكناً على نطاق صناعي وتجاري، وأعقب ذلك زيادة مذهلة في إنتاج الغذاء العالمي، وقضى على كثيرٍ من المجاعات التي كانت تتكرر كل فترة زمنية.
يُعد التلوث النيتروجيني اليوم أحد أكثر قضايا التلوث التي تُواجه البشرية، فهو يُهدد بيئتنا وصحتنا ومناخنا وأنظمتنا البيئية. يتم فقدان الكثير من هذا النيتروجين التفاعلي في البيئة، إذ يتسرب إلى التربة والأنهار والبحيرات وينبعث في الهواء، وتساهم بعض المركبات النيتروجينية في نضوب طبقة الأوزون وتغير المناخ.
الأشكال المختلفة من النيتروجين التفاعلي في البيئة
1- أكسيد النيترو :(N20) أحد غازات الاحتباس الحراري، ويُنتج في المقام الأول من قطاع الزراعة (التسميد)، واحتراق الوقود الأحفوري، وبعض العمليات الصناعية الأخرى.
وعلى الرغم من وجود أكسيد النيتروز في الغلاف الجوي بتركيزات أقل من ثاني أكسيد الكربون، إلا أن أثره في الاحترار العالمي أعظم بكثير من غاز ثاني أكسيد الكربون. على سبيل المثال، نجد أن طاقة التسخين لغاز أكسيد النيتروز أعلى 300 مرة من غاز ثاني أكسيد الكربون.
2- نترات (NO3): تعتبر مياه الصرف الصحي والزراعة وأكسدة أكاسيد النيتروجين، مصدر النترات. وتستخدم في صناعة الأسمدة والمتفجرات.
3- الأمونيا (NH3): المصادر الأساسية للأمونيا، تأتي من السماد العضوي والأسمدة الكيميائية وحرق المخلفات الحيوية.
4- أكسيد النيتريك (NO) وثاني أكسيد النيتروجين :(NO2)تنشأ عن الاحتراق الناتج عن قطاع النقل والصناعة والطاقة، يُعرف NO وNO2 مُجتمعة باسم أكسيد النيتروجين NOx.
لكن السؤال الأبرز: ما هي أكبر الأسباب لتلوث النيتروجين اليوم؟
تشير تقارير المنظمات الدولية المهتمة بالبيئة، إلى أن أهم الأسباب الرئيسية لتلوث النيتروجين، تتمثل بارتفاع استهلاك الأسمدة النيتروجينية، والذي تضاعف بين عامي 1978 و2014 على مستوى العالم. كما تُشير إحصائيات منصة Climate watch أن البرازيل -بمزارعها الشاسعة المُخصصة للإنتاج الحيواني ومحاصيلها المُمتدة- هي الدولة الصناعية الأكثر إنتاجاً لأكسيد النيتروز بنسبة 16.8% في عام 2016، وتأتي الأرجنتين ثانية بـ 12.3%، في قائمة دول مجموعة العشرين وسويسرا.
التأثيرات السلبية للتلوث بالنيتروجين
ساهمت الأنشطة الصناعية والزراعية في مضاعفة كمية النيتروجين التفاعلي في البيئة، الأمر الذي أثر سلباً على المسطحات المائية والتنوع البيولوجي والبشر في كل مكان.
تغير المناخ وطبقة الأوزون
عندما يتعلق الأمر بمعالجة تغير المناخ، فإن أغلب اهتمام العالم ينصب على الحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، رغم أن طاقة تسخين أكسيد النيتروز أعلى بنحو 300 مرة. وفي العقود الأربعة الماضية، ارتفعت انبعاثات أكسيد النيتروز بنسبة 30%. ومع عمر يصل إلى 200 عام في الغلاف الجوي، يُشكل أكسيد النيتروز تهديداً طويل المدى أكثر بكثير من الأشكال الأخرى من الملوثات.
تلوث الهواء
أكاسيد النيتروجين، هي مجموعة من المركبات الكيميائية الملوثة للهواء بما في ذلك ثاني أكسيد النيتروجين وأكسيد النيتريك. وتنبعث هذه المُركبات من محطات توليد الطاقة بالفحم وانبعاثات المصانع وعوادم المركبات. ويمكن أن تؤدي التركيزات العالية إلى الضباب الدخاني (Smog)، والأوزون على مستوى الأرض. ويمكن أن تمتزج هذه الانبعاثات التفاعلية مع المطر لتكوين الأمطار الحمضية، التي تُلحق الضرر بالمباني والمحاصيل الزراعية، وتَتَسرب إلى التربة، ما يضر بالنباتات والكائنات الحية الأخرى.
تلوث الأرض والتربة
يُؤدي ترسب النيتروجين في النظم الإيكولوجية الأرضية، إلى حدوث سلسلة من التأثيرات السلبية، التي تُؤدي في كثير من الأحيان إلى انخفاض التنوع البيولوجي.
تلوث الماء
لا تستطيع النباتات امتصاص النيتروجين الزائد في التربة، ويؤدي تسربه إلى المياه الجوفية إلى تلويثها. كما يسبب تلويث الترع والمصارف والقنوات المائية، إذ ينتج عن ذلك النمو السريع للطحالب التى تحجب ضوء الشمس عن النباتات المائية، ما يُؤدي إلى موتها. في عملية التحلل تستنزف النباتات الأكسجين من الماء وتُصبح البحيرة أو النهر أو المجرى بلا حياة، كما يؤثر التلوث بالنيتروجين بشكل خاص على البيئات البحرية والساحلية. وفي نهاية المطاف يؤدي هذا التخثث (Eutrophication) إلى تحولات واسعة النطاق في الأنواع وفقدان التنوع البيولوجي.
الصحة البشرية
تُؤدي انبعاثات الأمونيا الزراعية مع التلوث الناتج عن عوادم السيارات، إلى خلق جسيمات خطيرة للغاية في الهواء، ما قد يؤدي إلى تفاقم أمراض الجهاز التنفسي. وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة إلى أن ما يقدر بنحو 77% من الناس يتنفسون متوسط تركيزات سنوية من ثاني أكسيد النيتروجين تتجاوز المستويات الآمنة. على صعيد آخر، هناك أدلة متزايدة على وجود صلة بين النيتروجين التفاعلي في الهواء وأنواع عديدة من السرطان. كما يمكن للنترات الناتجة عن مياه الصرف الصحي والمصادر الزراعية تهديد جودة مياه الشرب.
إنتاج الغذاء
يَلعب النيتروجين دوراً هاماً في الأمن الغذائي العالمي، إذ يُعد النيتروجين عامل نمو رئيسي في إنتاج الغذاء. يؤدي الاستخدام طويل الأمد للأسمدة التي تحتوي على الأمونيوم، إلى جعل التربة حمضية، ما يؤثر سلباً على إنتاج المحاصيل.
ما هي الإجراءات التي يُمكن اتخاذها؟
هناك حاجة إلى الإدارة المستدامة للنيتروجين للعيش في وئام مع الطبيعة على كوكب خالٍ من التلوث ومُستقر مناخياً، وهو ضروري لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وتأمين بيئة أنظف وأكثر صحة للأجيال القادمة.
على الحكومات تسريع الإجراءات لدعم الهدف السابع للإطار العالمي للتنوع البيولوجي عن طريق تقليل المغذيات الزائدة المفقودة في البيئة بمقدار النصف على الأقل، من خلال إعادة تدوير المغذيات واستخدامها بشكلٍ أكثر كفاءة، والاهتمام بالبنية التحتية الخضراء، كتنفيذ بعض المشروعات في المناطق الحضرية لإدارة جريان مياه الأمطار وحصادها والاستفادة منها بشكل فعال. وعلى الحكومات تحسين قدراتها في إعداد التقارير وجمع البيانات لتحديد التلوث بالنيتروجين ومعالجة مصادره.
ويستطيع المزارعون أيضاً تقديم يد العون عن طريق تبني تقنيات الزراعة المُستدامة التي تحاكي الطبيعة للحفاظ على خصوبة التربة، وتعزيز الإستخدام الفعال للأسمدة، وإدارة النفايات الحيوانية بشكل أفضل، ومنع التلوث وحماية التنوع البيولوجي.
وتستطيع المؤسسات التمويلية المساهمة في الحد من التلوث عن طريق الاستثمار في النظم الزراعية البيئية والحلول القائمة على الطبيعة، ووضع أولوية إستراتيجية للإستدامة كشرط للتمويل.
ختاماً، يستطيع الإعلام لعب دور محوري في هذه القضية، عن طريق التوعية العامة، وتثقيف الجمهور حول تأثير أنشطتهم على تلوث المغذيات.
المراجع:
UNEP (2019). Frontiers 2018/19 Emerging Issues of Environmental Concern. United Nations Environment Programme, Nairobi.
UNEP. What is nitrogen pollution? https://www.unep.org/interactives/beat-nitrogen-pollution/