حبيب معلوف
عاجلاً أم آجلاً سيعود العالم إلى الديكتاتورية، ولكن هذه المرة لا بد من ديكتاتورية بيئية، لكي يستطيع العالم أن يحصل على الغذاء السليم أو على المياه العذبة، أو كي يتنفّس هواء نقياً، ما يعني أنه لا بد من إجراءات "تعسفية" للبقاء.
مظاهر تغيّر المناخ المتطرفة، لناحية الهطولات العشوائية أو الجفاف، ستكون لها انعكاسات خطيرة على السلامة العامة تفرض تغييراً ما في الأنظمة الاقتصادية والغذائية والأخلاقية أيضاً.
عالم "الوفرة" الذي عرفته بعض البشرية سيكون مختلفاً تماماً عن عالم الشحّ والتلوث والقلة والكوارث المناخية والاقتصادية، هذه الكوارث التي ستكون شاملة، لن تميّز بين بلدان غنية أو فقيرة، نامية أو متقدمة أو ناشئة.
كوارث مناخية ستقلب كل المعدلات في تطرفها، عواصف، فيضانات، ارتفاع درجات حرارة وجفاف في الوقت نفسه، وأينما كان.
لتجنّب شح المياه، لا بد من إجراءات توفيرية من جهة، وقمعية من جهة أخرى، لن يعود مقبولاً أن تأخذ القلة موارد الأكثريات وحقوق الأجيال القادمة.
إذا حصلت أزمة جفاف وشحّ مياه، تصبح الأولوية لتأمين مياه الشرب، وليس لغسيل السيارات ولا لتعبئة مسابح المياه الخاصة ولا لريّ نوادي الغولف، ولا حتى لري المزروعات بالطرق التقليدية.
وتصبح مسألة تأمين مياه الشرب أولى من أي استخدام آخر، كذلك الأمر فيما يتصل بفرض حماية مواقع طبيعية أو محميات أو أنواع في طور الانقراض.
لا بد من إجراءات استثنائية، كان بعضٌ يعتقد أنها غابرة مع الأنظمة التي كانت تُصنّف شمولية، إجراءات قاسية مثل إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة المالكة للموارد، والمؤتمنة على ديمومتها، وعلى حفظ حقوق الأجيال القادمة، ما يتطلب إعادة وضع يدها على الموارد الأساسية، وعلى الصناعات الاستخراجية وضبطها، وفرض القيود على النقل الخاص والضرائب على الأبنية الفارغة، وضبط الزيادات السكانية، وعشوائية التمدّد العمراني، ووقف صناعة الأسلحة وصناعة النزاعات والحروب والعسكرة.
لتحقيق كل ذلك، يجب أن تسبق هذه الإجراءات، وضع مبادئ وقواعد أخلاقية جديدة أو صناعة عقد اجتماعي جديد، لا بد من أيديولوجيات وسياسات وقوانين جديدة. ولا بد من ديكتاتورية ما، فكرية وغير عسكرية أو حربية.
عرف العالم أزمات اقتصادية متنوّعة ومتفاوتة، وطالما كان يحاول تجاوزها بالمزيد من الاستثمارات المجهدة، أو المدمرة للأنظمة الإيكولوجية، حتى وصل العالم الذي عرفناه بتنوّعه وغناه إلى النهاية.
لطالما جاءت حلول الأنظمة الاقتصادية والسياسية المتعثرة على حساب الطبيعة، والمزيد من الاستثمار لم يكن يعني في المحصلة سوى المزيد من الاستنزاف.
الآن الأزمة البيئية، والكوارث البيئية، تفرض تغييراً جذرياً في مقاربة كل شيء، لقد باتت المظاهر المناخية المتطرّفة تحتاج في مقاربتها إلى إجراءات بيئية وحياتية متطرفة أيضاً، بناءً على قاعدة طبيعية تقول: "لا يدرك الشبيه إلا الشبيه".
انتهى عالم الوفرة ودخلنا في عالم الشحّ والندرة والانقراض، انتهت فلسفة الرفاهية، وعلينا العودة إلى فلسفة الكفاية. انتهت النظريات الليبرالية إلى كوارث من أنواع متعددة، والأَولى بنا الآن العودة إلى مفهوم الحق الذي يفترض أن يسبق أو يقيّد مفهوم الحرية.
تقف الحرية عند حدود التعدّي على حقوق الآخرين في الوصول إلى مقوّمات الحياة وحفظ ديمومتها، الحق في الوصول إلى الموارد الضرورية للعيش هو الحدّ الفاصل بين رزمة الحريات الخاصة والعامة.
لكن من سيفرض هذه الديكتاتورية البيئية؟ بطبيعة الحال ليست تلك الأحزاب التقليدية ولا ما يُسمى الـNGOs المتنفّعة من المشاكل البيئية ومن برامج التمويل الدولية لكبار الملوّثين من دول وشركات وأفراد.
الأزمات الاقتصادية المحلية والعالمية يمكن أن تسهّل العودة إلى الاقتصاد الدائري الأقرب إلى الطبيعة، إلا أن طبيعة الإنسان الاستهلاكي التي صنعتها ما تسمى "الثورة الصناعية" منذ أكثر من قرنين ونصف القرن، تحتاج إلى وقت طويل كي تتغير.
إن تهديد الكثير من الأنواع، ومنها النوع الإنساني بالانقراض، لا ينتظر بلورة فلسفة إنسانية جديدة، وخلق إنسان جديد أقلّ شراهة وأكثر تواضعاً وأقرب إلى الطبيعة ودورة حياتها، فهل تبرّر هذه المعطيات نشوء حركات "متطرّفة" تريد أن تسرّع عملية الانتقال هذه؟
حسب التجارب التاريخية، فإن أنواعًا مثل هذه الديكتاتوريات تقودها أقليات ما، فما على الأخيرة، التي تحمل بصمة "الديكتاتورية البيئية"، أن تتميّز عن الديكتاتوريات السابقة بكونها فكرية (أكثر من كونها عسكرية أو يغلب عليها العنف)، وبكونها تتجاوز منطلقات الديكتاتوريات السابقة المنطلقة من الدفاع عن جماعات معينة، أو أجناس وأعراق وأقوام وطبقات ومذاهب وأديان وشِلل ومِلل وقبائل وعشائر وعائلات، وعن مكتسبات وموارد كان يُفترض أن تبقى مِلك الطبيعة، بكونها تدافع عن حياة النوع الإنساني وبقائه.
وهذا لا يتحقق إلا بالحفاظ على التنوّع الإنساني والطبيعي وإدارته بناءً على قواعد جديدة، يأتي في طليعتها احترام التنوّع البيولوجي والأنظمة الإيكولوجية على أنواعها.