خاص بآفاق البيئة والتنمية
العمليات المبرمجة التي تتحمل الإطالة قد أجُّلت جميعها لأن المستشفى اليوم أضحى مكاناً موبوءاً يُفضل تجنبه إلا عند الضرورة. ولكن الحالات المؤجلة إن شعر أصحابها بآلام غير محتملة؛ فعليهم التوجه للطوارئ مثل آلام الزائدة، آلام ظهر... الخ. خبراء علم النفس يؤكدون بأن الأساس في مواجهة الأزمات ومنها الجائحة هو وجود "حصانة نفسية" لتحدي ومقاومة الظروف المحيطة بالشخص، ولكن الكثير من الأشخاص يفتقرون للحصانة، فيستسلمون للقلق المرضي؛ ففي علم النفس، إن لم يهِبُّ الجسم للتحرك من أجل إيجاد حلٍّ للمرض وأعراضه، فإن العقل يبدأ بالتحرك، وتحركه يعني قلقه ودخوله بما يعرف بـ "الوسواس الفكري" أي التفكير في أمور داخل دائرة دون حل، وفي حال زاد التفكير عن حده فإنه يسبب الاكتئاب والأوجاع الجسدية تصبح غير محتملة.
|
 |
تعيش عبير على بخاخات الأكسجين، حيث تبيّن من خلال صورة أشعة أجريت قبيل فرض الحجر الصحي؛ وجود بقعة سوداء في إحدى رئتيها. تخفيف الأعراض من خلال "البخاخ" هو المتاح حالياً في ظل تحذير طبيبها الخاص من أن توجهها للمستشفى لإجراء أي فحوصات سيعرّض حياتها للخطر، حيث تُعدُّ المستشفيات أماكن موبوءة بفيروس كورونا "كوفيد 19".
تشعر الأربعينية عبير بالقلق حين يتبادر لذهنها سيناريوهات قاتمة حول إمكانية أن يكون ما تشكو منه مرضاً مزمناً، لكنها لا تغامر بذات الوقت لأخذ الخطوة التالية قلقاً على مصير بناتها الأربع في حال أصيبت بالوباء، في ظل ظروف صعبة أخرى تتمثل بخضوع زوجها للعلاج المستمر إثر مرض مناعي يدعى "الفقاع".
" انتظار انتهاء وباء كورونا هو ما أتمناه حالياً للانتقال للفحوصات المكثفة والتي لا تُجرى إلاّ بالمستشفى". تقول عبير التي تقيم في القدس المحتلة.
هول الجائحة وشلّها لمعظم مرافق الحياة -مع تصاعد الإصابات حول العالم إلى أكثر من ثلاثة ملايين، وتخطي الوفيات الـ 228 ألف حالة حتى أواخر إبريل- قد يجعل الكثيرين يغفلون أن هناك فئاتٍ تتألم بصمت، وتحيا على أمل انتهاء الوباء، فهي تعيش خوفين (الحاضر والمستقبل). الحديث هنا عن نوع من المرضى حالاتهم لا تصنف طبياً بـ "الطارئة" لكن التأجيل حتى إشعار آخر سواء لعمليات أو مراجعات طبية أو جلسات علاجية؛ قد يعرّض صحتهم الجسدية والنفسية للخطر.
أطباء فلسطينيون يعملون في مستشفيات فلسطينية وإسرائيلية أكدوا لـ" آفاق البيئة والتنمية"، أن عدد المراجعات الطبية لغير المصابين بفيروس كورونا أو الأمراض المزمنة ( سرطان، كلى، سكري) أو الحوادث، قد قلّ بشكل ملحوظ. وذلك يعود لرقابة ذاتية نتيجة الخوف من تعريض حياتهم لمزيد من الخطر كون المستشفيات بيئة خصبة للفيروسات عموماً، ونظراً لتأجيل العمليات المجدولة (غير طارئة) من قبل إدارات المستشفيات، حيث الأولوية حالياً للأمراض المزمنة ومصابي كورونا.

آلام الخوف من الحاضر والمستقبل
حالات تنتظر
ما قد يبدو (حالات باردة) وفق التعريف الطبي، قد يكون كابوساً للمريض الذي أضحى وأمسى يعيش في ألم لا ينتهي، هذا ما يؤكده والد المصاب الشاب محمد عجمية من بيت لحم، والذي أصيب ابنه بعيار ناري من قبل الاحتلال في ركبة ساقه اليسرى عام 2019، ما جعله يخضعُ لعمليات في الأوعية الدموية والأعصاب، وأخرى لزراعة مفصل.
زراعة المفصل البلاتيني، شابها خطأ طبي كشفت عنه جلسات العلاج الطبيعي لأكثر من عشرة شهور، ما حدا بمحمد إلى خضوعه لعملية أخرى لإزالة المفصل، لكن الطريق ما زالت طويلة أمام الشاب فساقه بحاجه إلى عمليات أخرى لتصحيح أداء المفصل.
"يعيش ابني على المسكنات، فآلام قدمه مزعجة، وهو يستصعب الحركة أو التنقل، ومع ذلك؛ تأجلت عمليته حتى إشعار آخر لأنها بنظر الطاقم الطبي غير طارئة". يقول الأب الذي يتمنى انتهاء كورونا ليتمكن ابنه من السير مجدداً على قدمه.
إخصاب واحتياج خاص
قلق آخر ينتاب المواطنة (ص، ر) من القدس والتي تفاجأت بتأجيل موعد زيارة عيادة الإخصاب إلى ما بعد كورونا، حيث اتصلت عليها السكرتيرة الطبية وحذرتها من المجيء كإجراء وقائي ونصحتها بأخذ موعد بعد انتهاء الأزمة. تقول: "أحيانا كثيرة أصاب بالإحباط، وأنا أرى الوقت يمر دون تمكني من إنجاب طفل آخر يكون شقيقاً أو شقيقة لابنتي".
عانت (ص، ر) في إنجاب ابنتها الأولى، حيث لجأت لعيادات الإخصاب، واستطاعت الحمل بعد سنوات من العلاج من خلال "تنشيط البويضة بإبر التفجير، الأمر الذي يتطلب فحوصات هرمونية وتصوير ألترا ساوند لا يمكن إجراءها خارج العيادة".
فيما تحدثت المواطنة (ميرا) من محافظة بيت لحم، عن معاناتها وهي ترى ابنها ذي العام والنصف غير قادر على الحركة أو حتى الحبو مقارنة بأقرانه، وذلك بسبب إلغاء جلسات العلاج الطبيعي لمدة 40 يوماً والتي كان يتلقاها في مستشفى كاريتاس.
تعرض ابن ميرا لنقص أكسجين عند الولادة ما سبب أذىً بمنطقة الحركة في الدماغ. تقول أمه: "أتألم حين أراه يبكي بسبب عدم قدرته على التحرك واللعب كأقرانه، حاولت أن أتذكر طرق علاجه وأطبقها عليه بالمنزل، لكن المراكز العلاجية المتخصصة تبقى أفضل.. أتمنى أن تنتهي جائحة كورونا، فليس سهلاً على الأم أن تقف عاجزة وهي ترى ابنها باحتياج خاص".

القلق والاكتئاب
الصحة: الحالات الطارئة أولاً
عن الحالات غير الطارئة، ومخاوف أصحابها يقول المتحدث الرسمي بإسم وزارة الصحة د. طريف عاشور بأن القلق عموماً من الفيروس طبيعي، فقد هاجم العالم بأسره وحتى اللحظة لا يُعرف امتداده، ما وضع وزارات الصحة في العالم في حالة طوارئ. والأمر ينطبق على وزارة الصحة الفلسطينية التي بدورها وضعت خطة قسمت إلى ثلاث مراحل: تدريب الكوادر الطبية وتوفير المستلزمات والتجهيزات المناسبة لاستقبال مصابي الفيروس، وقف العمل بالعيادات الخارجية إلا عند الضرورة لمرة في الأسبوع، وتأجيل العمليات غير الطارئة (cold cases)، فيما بقيت المستشفيات تستقبل الحالات الطارئة وأيضا الأمراض المزمنة كالسرطان وغسيل الكلى وأمراض القلب.
يؤكد د. عاشور أن العمليات المبرمجة التي تتحمل الإطالة قد أجُّلت جميعها لأن المستشفى اليوم أضحى مكاناً موبوءاً يُفضل تجنبه إلا عند الضرورة. ولكن الحالات المؤجلة إن شعر أصحابها بآلام غير محتملة؛ فعليهم التوجه للطوارئ مثل آلام الزائدة، آلام ظهر... الخ.
"المواطن هو نفسه أصبح يأبى الذهاب للمستشفى، ولكن نؤكد عند الضرورة فأقسام الطوارئ دائماً مفتوحة" ذكر د.عاشور

فحوصات فيروس الكورونا في الضفة الغربية
تزعزع دائرة الأمان
في علم النفس، لا يمكن فصل المرض العضوي عن الجانب النفسي، فكلاهما مرتبطان بعلاقة وثيقة، هذا ما يحاول توضيحه مختص النفس العيادي "أ.محمد الطويل" والذي يرى أن الأساس في مواجهة الأزمات ومنها الجائحة هو وجود "حصانة نفسية" لتحدي ومقاومة الظروف المحيطة بالشخص، ولكن الكثير من الأشخاص يفتقرون للحصانة، فيستسلمون للقلق المرضي، "في علم النفس، إن لم يهِبُّ الجسم للتحرك من أجل إيجاد حلٍّ للمرض وأعراضه، فإن العقل يبدأ بالتحرك، وتحركه يعني قلقه ودخوله بما يعرف بـ "الوسواس الفكري" أي التفكير في أمور داخل دائرة دون حل، وفي حال زاد التفكير عن حده فإنه يسبب الاكتئاب والأوجاع الجسدية تصبح غير محتملة". يقول الطويل.
يشير المعالج الطويل إلى أن عدة حالات وصلت عيادته كانت تفكر بالانتحار بسبب أزمة كورونا والحجر القسري، وهذا يعود إلى تعرض "دائرة الأمان" لدى تلك الحالات للزعزعة ما سبب خللاً في نظرتهم للأمور. ويشرح الطويل أكثر عن دائرة الأمان بأنها عبارة عن دائرة تعبيرية في علم النفس، تصف محاور عدة يستند عليها الإنسان في تحقيق التوازن المطلوب في حياته وهي (العلاقات الاجتماعية، العمل والتعلّم، الجوانب الروحية، الصحة، والمال). وعن الحالات المذكورة في التقرير؛ فإن اختلال دائرة الصحة يؤدي إلى خلل في الشعور بالأمان والتوازن العام، فيسبب حالة من الهلع والخوف من توقع الأسوأ، ما يزيد من الألم الجسدي والنفسي.
يشير الطويل إلى أن فترة الحجر هي سلاح ذو حدين، فإما تساهم في توفير الوقت لتعزيز وتمتين العلاقات الأسرية واكتشاف هوايات جديدة، وإما تسبب المشاكل والخلافات جراء الاحتكاك الزائد وعدم احتمال البقاء الطويل في البيت، ورغم أن دائرة الأمان قد تتزعزع لدى الكثيرين بسبب حالة الطوارئ التي يعيشها العالم حالياً، إلا أن لها نتائج ايجابية مستقبلاً وفق مقولة "لكل محنة منحة" فكل درس يتعلمه الإنسان؛ يزيده قوة وفق الطويل.
نصائح
خلال هذه الفترة التي من المرجح أن تطول، يقدم الطويل نصائحَ للناس القلقة والمتوترة:
- الابتعاد عن الأخبار، والإشاعات وضرورة السؤال عن مصدر أي خبر، وعدم تصديق كل ما يُنشر، لأن هدف كثير من الناس بث الإشاعة المرعبة تجسيداً لحصانتهم النفسية الضعيفة، فيحاولون التأثير على الآخرين ليكونوا مثلهم ليشعروا بدورهم بالاطمئنان.
- عدم الاستسلام للقلق الزائد، "الوباء موجود وقائم فما الذي يمكن أن يحصل أكثر مما حصل"، فكورونا نقلاً عن وزارة الصحة الإسرائيلية وصلت ذروتها، والدول تتجه نحو التكيف مع مراعاة التباعد الاجتماعي لتستمر الحياة وكأن كورونا فيروس عادي كالأنفلونزا.
- مشاركة أطفالنا وعائلاتنا بفعاليات وأنشطة، لأن الأطفال يضجرون بسرعة، ويجب تفريغ طاقاتهم بنشاطات مفيدة وترفيهية.
- إعادة ترتيب "مربع المهام" وهو الذي يقسم المهام إلى أربعة أقسام ( مهم ومستعجل، مهم وغير مستعجل، مستعجل وغير مهم، غير مهم وغير مستعجل) فكثيرٌ منا أجلّ الأمور المهمة لكونها غير مستعجلة وحان الوقت لإعطائها حقها.
- المحافظة على الروتين داخل البيت كما الظروف العادية ولكن مع مراعاة التباعد الاجتماعي، من أكل، علاقات اجتماعية، نوم، نظام، وذلك للحفاظ على دائرة الأمان.
"أتمنى انتهاء كورونا، لنعود لحياتنا السابقة". جملة قالها الكثيرون في ظل هيمنة هذا الوباء على كل مفاصل الحياة. ولكن من يشكو من آلام جسدية ونفسية يعنيها أكثر من غيره، لأنه يرى أن تحمّل ألمين (الحاضر والقادم) أمر يفوق الاحتمال.