التحديات والفرص التي تواجه الأنظمة الغذائية الزراعية الخاصة بالشعوب الأصلية... وادي فوكين نموذجا
شهد النظام الغذائي الزراعي التقليدي نقلة نوعية في العقود القليلة الماضية، تأثراً بالعولمة، الحداثة والتصنيع. هناك عامل إضافي كان له تأثيرا كبيرا على العديد من المجتمعات الأصلية وهو الاستعمار، بحيث أن عمليات المصادرة والاستيلاء على الأراضي من قبل المستعمرين ساعد في التأثير على نُظم الغذاء الزراعية لهذه الشعوب. نظام الغذاء الزراعي الأصلي في فلسطين المحتلة تعرّض أيضاً لهذه المؤثرات. من خلال دراسة بحثية خاصة برسالة الماجستير والتي أجرتها كاتبة هذا المقال، تم تحديد خصائص النظام الغذائي الزراعي في قرية وادي فوكين وتم توثيق بعض الممارسات الزراعية القديمة التي كان السكان الأصليون يتبعونها قبل وقوعهم تحت الاستعمار. سعى البحث إلى استكشاف إمكانية الاستفادة من معرفة الشعوب الأصلية كمصدر تنموي مستقبلي للمزارعين الفلسطينيين.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
|
البرك الزراعية في وادي فوكين |
هناك الكثير من المعرفة القيّمة التي تحملها أنظمة الغذاء الزراعية الخاصة بالشعوب الأصلية والتي تتمثل بالممارسات التي كانت تلك الشعوب تتبعها لإدارة مصادرهم البيئية. لكن النظام الغذائي الزراعي التقليدي شهد نقلة نوعية في العقود القليلة الماضية، تأثراً بالعولمة الحداثة والتصنيع. هناك عامل إضافي كان له تأثيرا كبيرا على العديد من المجتمعات الأصلية وهو الاستعمار، بحيث أن عمليات المصادرة والاستيلاء على الأراضي من قبل المستعمرين ساعد في التأثير على نُظم الغذاء الزراعية لهذه الشعوب. نظام الغذاء الزراعي الأصلي في فلسطين المحتلة تعرّض أيضاً لهذه المؤثرات، وهذا ساعد في خلق صعوبات عديدة للمزارعين الأًصليين. من خلال دراسة بحثية خاصة برسالة الماجستير والتي أجريتها مؤخرا، تم تحديد خصائص النظام الغذائي الزراعي في قرية وادي فوكين وتم توثيق بعض الممارسات الزراعية القديمة التي كان السكان الأصليون يتبعونها قبل وقوعهم تحت الاستعمار. بالإضافة إلى ذلك فقد سعى البحث إلى استكشاف كيفية تأثر هذا النظام في فلسطين تحديداً بالعوامل التي ذكرت سابقاً، والتحديات الناتجة عن هذا التأثر، وأخيراً إمكانية الاستفادة من معرفة الشعوب الأصلية كمصدر تنموي مستقبلي للمزارعين الفلسطينيين، وفي هذه المقالة سيتم عرض بعض من نتائج هذه الدراسة باختصار.
الزراعة الحديثة في الدفيئات ببلدة وادي فوكين
وادي فوكين
تقع قرية وادي فوكين جنوبي غرب مدينة بيت لحم بحيث تعتبر جزء من محافظة بيت لحم، وتشتهر بإرثها الزراعي. قطاع الزراعة في وادي فوكين هو القطاع المسيطر كنشاط اقتصادي أساسي في القرية بحيث أن ٦٠٪ من القوى العاملة في القرية تعمل بالزراعة. بعد حرب عام ١٩٦٧ والاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، تم بناء مستوطنات اسرائيلية وقواعد عسكرية على مساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينية. كنتيجة لذلك، أصبح يحدُّ وادي فوكين مستوطنة بيتار عليت من الشرق ومستوطنة هدار بيتار من الشمال. اتفاقية أوسلو قسمت الضفة الغربية إلى مناطق أ، ب، ج. المناطق أ وب هي المناطق العمرانية الخاصة بالسكان الفلسطينيين وتحت سيطرة السلطة الفلسطينية . أما مناطق ج فهي كتلة الأراضي المحيطة بمناطق أ وب وهي تحت سيطرة اسرائيلية كاملة. بالنسبة لوادي فوكين، تم تقسيمها إلى مناطق ب و ج، بحيث أن منطقة ج تشكل ٩٢.٧٪ من المساحة الكلية (تقريباً ٣٨١٧ دونم).
تعرض سكان قرية وادي فوكين لمحاولات تهجير عديدة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وأجبروا على ترك قريتهم عام ١٩٥٤ واللجوء إلى مخيمات قريبة. بالرغم من ذلك ولمدة ٢٠ عاماً تقريباً، لم يترك أهل القرية أراضيهم أبداً، وكانوا يعودون إلى القرية كل صباح ليفلحوا أراضيهم ومن ثم يعودون بالليل إلى المخيمات واستمروا على هذه الحال حتى سمح لهم بالعودة إلى قريتهم عام ١٩٧٢ بعد مفاوضات عديدة مع الحاكم العسكري في ذلك الوقت. وهذا يؤكد على علاقتهم القوية مع الأرض التي اعتمدوا عليها من أجل معيشتهم.
الزراعة تتداخل بين منازل وأحياء وادي فوكين
خصائص النظام الزراعي في وادي فوكين
نظام الغذاء التقليدي في قرية وادي فوكين له العديد من الخصائص، أهمها أنه نظام إنتاجي صغير نسبياً وموجه لسد احتياجات العائلة، بحيث يتم استخدام الفائض في المقايضة أو التجارة. هذا النظام مكّن المزارعين لفترة زمنية طويلة من أن يكون لديهم مستويات اكتفاء ذاتي كبيرة بالاعتماد على القوى البشرية والثروة الحيوانية، من دون الحاجة إلى تقنيات عالية المستوى ومدخلات خارجية إلا نادراً.
ما يميز قرية وادي فوكين عن غيرها، أنها كانت تعتبر سلة غذائية والمصدر الأساسي للغذاء لمحافظات الخليل، بيت لحم والقدس. ومن المحاصيل التي تشتهر بها القرية الخيار الأبيض، الباذنجان، القرع، الفاصوليا، الكوسا، البندورة، الجرجير، السبانخ، البنجر والكرنب. أما بالنسبة للأشجار المثمرة فتتضمن الخوخ، التفاح، الرمان، الإجاص، التين، العنب، بالإضافة إلى أشجار الزيتون واللوز.
في النظام التقليدي، هناك نوعان من الزراعة التي كانت شائعة في القرية، الزراعة البعلية التي كانت جبلية بالأغلب والزراعة المروية. أخيراً وليس آخراً، وجود ١١ نبع ماء في القرية نتج عنه أراضي خصبة كانت تجذب مربي الماشية من قرى قريبة، بحيث كانوا يأتون إليها ليرعوا مواشيهم، وهذا بالمقابل نتج عنه كميات كبيرة من السماد الطبيعي الذي كان يستخدم لتخصيب الأرض.
برك زراعية في وادي فوكين
بعض الممارسات التقليدية في النظام الزراعي الغذائي بقرية وادي فوكين
من خلال مقابلات مع بعض من المزارعين الأصليين في القرية، تم توثيق بعض الممارسات التقليدية الخاصة بنظام الغذاء الزراعي التي كانت متبعة من قبل المزارعين، وسيتم عرض بعضٍ منها بإيجاز في هذه المقالة. ناقش المزارعون تقنيات تقليدية لحفظ الغذاء كجزء مهم من إرثهم التقليدي، بحيث أنهم كانوا يحفظون العديد من أنواع الغذاء لاستعماله في وقت لاحق، وهذا يتضمن أنواعاً عديدة من الفواكه والخضراوات والحبوب، كالبندورة، الكوسا، التين، العنب، القمح، العدس والشعير. الحليب واللحوم أيضاً كان يتم حفظها بوقتٍ كانت فيه الثلاجات نادرة. على سبيل المثال، فإن عملية حفظ اللحوم كانت تتم من خلال غلي اللحمة بماء فقط من دون أي إضافات أخرى، ومن ثم تخزينها في جرة فخار مع ترك مساحة فارغة تقدر ب ١٠-١٥ سم، ومن ثم تتم تصفية وتذويب الدهن من اللحم وملء المساحة الفارغة من الجرة به من أجل إغلاق مسامات اللحم.
تحدث المزارعون أيضاً عن آليات حراثة الأرض التقليدية والتي تتضمن خطوات عديدة تهدف لتحضير الأرض للزراعة. هذه العملية تعتمد كلياً على الحيوانات مثل البقر، البغال، الحمير، بحيث كان يتم توظيفهم لسحب أداة الحراثة في الحقل، مع استخدام سكك حديدية مصنوعة خصيصاً لهذا الهدف. أما بالنسبة لنظام الري، فكان يطلق عليه نظام المشاكب، ويعني تقسيم الأرض إلى أحواض للزراعة، وريها من خلال قنوات ترابية تجري فيها مياه الينابيع القوية. في هذا النظام، يتم توجيه المياه من خلال فتح قنوات أو مسارات في الأرض وإغلاق أخرى بطريقة تمكن المياه من الوصول إلى جميع الأحواض. لاحقاً، أصبحت القرية تعتمد على البرك الزراعية ونظام ساعات يضمن لكل مزارع فترة زمنية محددة يستطيع من خلالها الاستفادة من المياه القادمة من النبع.
كما ذكر سابقاً، كان هناك نوعان شائعان من الزراعة في منطقة وادي فوكين، الزراعة البعلية والزراعة المروية. الزراعة البعلية كانت بالغالب تمارس على الجبال، وتتضمن محاصيل مثل البندورة، الكوسا، والخيار الأرميني. يعتبر المزارعون التقليديون أن المحاصيل التي تزرع بالطريقة البعلية هي ألذ بالمقارنة مع المحاصيل التي تزرع في بيوت بلاستيكية في أيامنا هذه، بسبب تعرضها لأشعة الشمس. بالإضافة إلى ذلك يعتبرون أن المحاصيل البعلية أقوى وأصلب ولها مناعة أفضل في مواجهة الأمراض الفطرية وأمراض التربة. من الطرق التقليدية الأخرى التي تم ذكرها، الإدارة المتكاملة للآفات والتي يتم من خلالها توظيف استراتيجيات مكافحة طبيعية تطبق لمحاربة الآفات الضارة، مثل استخدام حشرات مفيدة تتغذى على الحشرات الضارة لمحصول معين.
بعض المزارعين في وادي فوكين يستخدم الجرارات الزراعية
التحول في النظام الزراعي الغذائي بوادي فوكين
شهد نظام الغذاء الزراعي في فلسطين تحول من نظام تقليدي إلى نظام صناعي حديث. هذا النظام الجديد أصبح معتمداً على ماكنات زراعية وتقنيات حديثة، بالإضافة إلى مواد كيميائية زراعية، ومبيدات حشرية ومبيدات أعشاب. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت هناك حاجة متزايدة لمصادر دخل خارجية وإضافية إلى جانب الزراعة من أجل القدرة على تحمل مصاريف المعيشة المرتفعة. الزراعة البعلية في وادي فوكين اختفت تقريباً واستبدلت بالزراعة في بيوت بلاستيكية، بالإضافة إلى الزراعة المروية. العادات الاستهلاكية تغيرت أيضاً بناء على تغير توجهات الجيل الحالي الذي يفضل استهلاك المواد الغذائية المصنعة المتواجدة في السوبرماركت، بدلاً من الأغذية الطازجة القادمة من الأرض مباشرة. الجيل الحالي ابتعد عن الزراعة أيضاً وأصبح يفضل العمل في مهن أخرى، حكومية، خاصة، أو حتى في المستوطنات الإسرائيلية من أجل رواتب أعلى. وأخيراً، فإن دور القرية المهم كسلة غذائية ومصدر أساسي للغذاء لمحافظات بيت لحم والخليل والقدس تراجع، وتم تهميش دور مزارعي قرية وادي فوكين، بحيث أصبحت المنافسة المحلية والخارجية قوية وكبيرة.
بلدة فوكين المحاصرة بالمستعمرات الإسرائيلية من جميع جهاتها
التحديات التي يواجهها النظام الغذائي الزراعي التقليدي في وادي فوكين
التحول الذي شهده هذا النظام خلقَ العديد من التحديات للمزارعين التقليديين وأساليبهم التقليدية، ويمكن ربط هذه التحديات بعوامل مثل العولمة، الحداثة، التصنيع والاستعمار. تشمل هذه التحديات منافسة محلية متزايدة، تغيير في الأنماط الاستهلاكية، استبدال القوى العاملة والحيوانات بماكنات وآليات تقنية حديثة، انتشار أمراض التربة والذي رافقه استعمال متزايد للمواد الكيميائية الزراعية، تناقص إنتاجية الأرض ونوعية الطعام مقارنة بالماضي، أوضاع اقتصادية صعبة بحيث أن مصاريف الإنتاج أصبحت غير قادرة على تغطية مصاريف المعيشة المرتفعة، وارتفاع تكاليف الضرائب على البضائع الغذائية، بالإضافة إلى مشاكل نقص المياه بسبب الانخفاض الكبير في مستوى هطول الأمطار.
قنوات الري في وادي فوكين
بالإضافة إلى هذه التحديات، فإن الاحتلال الإسرائيلي خلق تحديات أخرى للمزارعين الفلسطينيين. أولاً، المنافسة الإسرائيلية تمثل تحدٍ كبير، بحيث أن الأسواق الفلسطينية أصبحت مليئة بالبضائع الإسرائيلية. ثانياً، المشاركة العامة بالقرارات الحكومية ضعيفة، بالأخص بما يتعلق بإتفاقية باريس الإقتصادية مع اسرائيل والتي كان وما زال لها تبعات كبيرة على المزارعين الفلسطينيين. ثالثاً، إسرائيل فرضت على الفلسطينيين العديد من القيود الخاصة بكيفية استخدام الأراضي، وبسبب هذه القيود وعمليات مصادرة الأراضي، فإن المساحة التي كان الرعاة يستغلونها للرعي تقلصت وأصبحت محصورة وضيقة وهذا كان له تأثير على الماشية وعلى قدرة المزارعين على اقتناء وتربية الحيوانات. رابعاً، أصبح استخدام بعض أنواع الأسمدة الطبيعية مقيداً، وبالتحديد الأسمدة التي تحتوي على مادة الكبريت والتي تعتبر مادة متحللة وطبيعية، وهذا بسبب إمكانية استخدامها كمادة متفجرة. خامساً، فإن الجيل الحالي يفضل العمل في المستوطنات والمصانع الإسرائيلية بسبب الأجور العالية نسبياً. أخيراً وليس آخراً، هناك نوع من عدم اليقين اتجاه تطورات الأحداث على المستوى السياسي، والتأثيرات الإضافية التي ستنتج عن المستوطنات المحيطة بالقرية وخاصة على السكان الفلسطينيين في وادي فوكين.
نظام المشاكب للري في وادي فوكين حيث تقسم الأرض إلى أحواض للزراعة وريها من خلال قنوات ترابية تجري فيها مياه الينابيع
المعرفة الأصلية كمصدر تنموي مستقبلي
بالنهاية، معرفة الأجداد الخاصة بالنظام الغذائي الزراعي تعتبر مناسبة إلى حد ما لأن تكون مصدراً تنموياً مستقبلياً للمزارعين الأصليين في فلسطين، لأنها تمكنهم من أخذ موقف فلسطيني سياسي ضد سياسات مصادرة الأراضي، بالإضافة إلى تمكينهم من بناء اقتصاد فلسطيني منتج وناجح. لكن طرح هذا الافتراض يتطلب أخذ العديد من النواحي والظروف بالإعتبار، وبالتأكيد يحتاج الأمر إلى بحث إضافي. على الرغم من ذلك، هناك خطوات فعلية يمكن المبادرة بها، مثل مقاطعة البضائع الإسرائيلية من أجل تسهيل عملية كسر التبعية الإقتصادية الفلسطينية لإسرائيل. إضافةً إلى ذلك، فإن استصلاح وزراعة الأراضي يعتبر أمراً مهماً لإثبات أحقية ووجود المزارعين الفلسطينيين في أراضيهم. والأهم من ذلك، نقل معرفة الأجداد الأصلية للأجيال الحالية والقادمة هو أمر يجب الحثُّ عليه، وللمؤسسات التعليمية والنظام المجتمعي دور مهم في ذلك.
وادي فوكين