فصول قاهرة توالت على سكان غزة منذ بدء الحرب ومن ثم مرورها بالتهدئة وما أعقبها من عودة دامية للحرب، وفي كل ذلك، استمرت بيسان عكاشة طالبة الهندسة المعمارية في زراعة الأشتال في غزة بما يتجاوز 700 شتلة حتى اللحظة، لتحيي بذور الأمل من أجل حصاد قريب يتصدى للجوع، علّها تساعد مع فريقها في تحقيق الاكتفاء الذاتي والكرامة الإنسانية التي ترى أن ما من سبيل لها سوى "الأمن الغذائي من قلب الأرض". ومن ناحيته يخرج محسن الدريملي تقريباً يوميًا لتنفيذ مبادرات سقيا الماء أو تكية طعام، ويرى مواقف تدمي القلب، حسب تعبيره، موضحاً: "عندما أرى سيدة كبيرة أو بنتاً صغيرة حافية القدمين تسابق الريح حتى تلحق بتعبئة جالون ماء، أو لتأكل صحن طعام، أو حتى تنال نصيباً من توزيع عبوات الحليب، فإننا لا نجد كلمة واحدة تعبّر عن المأساة". الاحتلال الإسرائيلي دمرَّ معظم آبار ومرافق المياه في غزة، والتي مرت أخيراً بفترة حرجة، جراء تضرر خط مياه "ميكوروت" شرق الشجاعية، نتيجة الأضرار التي لحقت بالخط، ما فاقم أزمة العطش التي يعاني منها السكان.
يزرعون الفاصوليا ضمن مبادرة بذور الصمود
تحارب بيسان عكاشة الجوع الذي ألمّ بقطاع غزة بسلاح اسمه "السحر الأخضر" متمثلًا في الشتلة، لضمان مصدر غذائي "موثوق به" من تراب الأرض، وفق الوصف المستخدم في التعريف عن مشروعها، وثمة سطر وردَ وكان موجعاً: "إن فقدان أرضٍ رُعيت وعُنيت بها على مر السنين، وتجذّرت جذورها، هو ألمٌ لا يُنسى".
لقد فقدت عائلة بيسان كل ما تملك، حيث كانت تقطن في مخيم جباليا، وبدلاً من أن تبتأس، اندفعت دون تردد مع والدها المهندس لإنشاء منظمة صغيرة أطلقت عليها seeds of resilience"" أو "بذور الصمود"، في شهر أغسطس/ آب الماضي، بعد مجاعة طويلة حدثت في شمال قطاع غزة، وأودت بحياة عدة أشخاص، عقب تزايد قيود الحصار على دخول الغذاء إلى شمال القطاع.
فصول قاهرة توالت على سكان غزة منذ بدء الحرب ومن ثم مرورها بالتهدئة وما أعقبها من عودة دامية للحرب، وفي كل ذلك، استمرت طالبة الهندسة المعمارية في زراعة الأشتال في غزة بما يتجاوز 700 شتلة حتى اللحظة، لتحيي بذور الأمل من أجل حصاد قريب يتصدى للجوع، علّها تساعد مع فريقها في تحقيق الاكتفاء الذاتي والكرامة الإنسانية التي ترى أن ما من سبيل لها سوى "الأمن الغذائي من قلب الأرض".
"تجريف الاحتلال للمساحات الخضراء الشاسعة" بلور لبيسان الهدف بوضوح: "توفير غذاء صحي ومستدام للمجتمع من مصادر محلية دون قيود، عبر زراعة الأشتال في الحدائق المنزلية".
طفل يزرع شتلة ضمن مبادرة بذور الصمود
مخيم صحبة الخير
في كل الأحوال تزرع
فقدت بيسان بيتها، وكان ذلك بمثابة الخسارة الأعظم في حياتها، حسب قولها، والسبب كما يرد على لسانها في حديثها مع "آفاق البيئة والتنمية": "كان بيتي مصدر إلهام لي في دراستي، هو في نظري تحفة معمارية حقاً، وقد سارعتُ مع أسرتي إلى إصلاحه قدر الإمكان بعد حرقه كاملاً في بداية الأمر، وهذا كان نقطة تحول لي على المستوى النفسي في مواجهة الحرب الضروس".
وتبيّن ذلك: "شعرت في تلك الفترة أن إيمانًا عميقاً يكبر في داخلي، أننا قادرين على استعادة ما سُلب منّا، ويتوجب علينا ألا نقف عاجزين أمام ما يحدث، ما دفعني لإطلاق مشروعي".
أيام معدودة مكثتها العائلة في البيت بعد إصلاحه، ثم اضطرت لإخلائه بعد إعلان الاحتلال عن عمليات عسكرية في المنطقة، وبعد أربعة شهور من النزوح علموا أن البيت، بل الحيّ بأسره تدمر تماماً.
تتالت صنوف الفقد، وأصبح فقدان البيت لا يساوي شيئاً لدى بيسان أمام خسارة الأرواح، "وما أكثرها الخسارات التي سيدفع الجميع ثمنها لسنوات عديدة"، حسب تعبيرها، وفي كل مرة تُجبر فيها على النزوح لبيت جديد تشتاق لدارها وللحي وتفاصيله أكثر وأكثر، تقولها بحزن.
تقيم بيسان مع أهلها حالياً في مكتب شركة والدها غرب غزة، وكم تحنّ إلى كل طوبة في ذلك البيت، وخاصة لحديقتها المنزلية التي بادرت لزراعتها وحققت اكتفاءً لأسرتها لفترة، تزيد بالقول: "تلك الحديقة كانت ما هي إلا جزءاً من مشروع كبير".
تصمت لحظة ثم تواصل: "ما يدعوني للفخر أني لا أتردد في زراعة أي مساحة منزلية أعيش فيها، وفي كل مرة ننتج الثمار، يُخيّل لنا أنها حديقتنا الأولى".
وقعت أحداث مفصلية، ومرت الحرب بمنعطفات، توقفت ثم ما لبثت أن عادت، إلا أن نهج الفتاة في كل الأحوال لا يتغير، هي لا تتوقف عن الزراعة قط، وتوضح رؤيتها: "فريقنا هدفه واضح، ونعلم أن تحقيقه ممكن، صحيح أن خسارة مساحتي المنزلية وبيتي جعل خطواتنا أثقل لكن ذلك لن يثنينا، أرى في "بذور الصمود" حلاً واقعيًا لمشكلة شح الغذاء التي عشناها ونخاف أن تتكرر مستقبلاً، لا توجد ضمانات في حياتنا، ولهذا سنستمر".
عن بذور الصمود
وكما تقول، يبشّر مشروعها بحلٍ لأزمات متلاحقة ما تزال تهدد حياة الغزيين على حد سواء، ما يدفعها للتشبث به حتى في أصعب الظروف، لذا لم تتوقف جهود القائمين على المشروع.
وعن تفاعل العائلات مع زراعة الأشتال تبتسم وتحكي باللهجة الدارجة: "الناس الي ما بكون معنا الهم شتل كفاية بزعلوا".
وتضيف في السياق ذاته: "حمداً لله، هناك وعي بأهمية الزراعة. نحن شعب نشأ على حب الأرض".
وحالياً يركز الفريق على زراعة البندورة والبصل، وفي فصل الصيف زرع الباذنجان والفلفل والقرنبيط "الزهرة"، بينما في الشتاء اتجه لبذور السلق والفجل والبازلاء والفاصوليا والفول.
بعد إعلان وقف إطلاق النار في التاسع عشر من يناير/ كانون ثاني الماضي، توفرت المواد الغذائية بأسعار معقولة نسبياً، وهذا جعلها تتنفس الصعداء كونها واحدة من أهالي الشمال الذي عانى المجاعة لشهور، وتذكر بخصوص هذه المرحلة: "مضينا قُدماً على الوتيرة ذاتها، مع تكثيف الجهد الميداني بعد أن بدأت غزة تستقر نوعاً ما، ورغم التوفر الجيد نسبياً وقتها للمواد الغذائية في الأسواق، واصلنا جهدنا، نريد أن نزرع لنحقق مصدراً غذائيًا ذاتيًا لنا، كي نضمن أهم عنصر في حياتنا وهو غذاؤنا".
وحول ما أنجزته بذور الصمود في الآونة الأخيرة، تقول: "في مناطق غرب غزة غطّينا ما يربو عن ٣٠ مساحة منزلية، وتُوزع الأشتال وفقاً للمساحة المتاحة، كما تابعنا نمو النباتات في مساحات زرعناها في وقت سابق، حتماً واجهنا صعوبات من ناحية عدم توفر الأمان، لكن حتى في الأماكن التي لم يكن بمقدورنا الوصول لأصحابها، حاولنا تغطية احتياجاتهم من الأشتال والبذور".
إمكانيات محدودة
من المؤسف؛ أن تفاصيل الحياة أضحت أسوأ مما كانت عليه، بمجرد أن اشتعلت الحرب مجدداً، سواء في عدم توفر المواد الغذائية أم ندرة المياه، أم الطهي على الحطب، أم التنقل بشقّ الأنفس.
والسؤال "تُرى هل ستتراجعون؟" الجواب "قطعاً كلا" حيث تخطط بيسان مع فريقها، لتغطية حاجة عدد قليل من العائلات من الخضراوات، بما يتفاوت من ١٠ إلى ١٥ أسرة، ممن فقدوا بيوتهم وليس لديهم مساحة يزرعون فيها، حيث خيامهم منصوبة في الشوارع.
وعن الإجراء الأهم الذي اتخذته من وجهة نظرها: "في المساحة الزراعية لمشروعنا قمنا بخطوة استباقية تتمثل في تشتيل البذور وتجهيزها لموسم زراعتها، لعلمنا بتدمير الأراضي الزراعية والمشاتل في شمال القطاع".
ومن أهم التحديات التي لم يسلم المشروع منها في ظروف معقدة، الحصول على المياه، كونها المشكلة الأبرز التي تطفو على السطح، لكن ما يسهّل الأمر أن المساحات التي تُزرع تكون مخصصة لعائلة أو اثنتين بحدٍ أقصى، ما يعني أن توفر الماء لا يكون مستحيلاً، والكلام لها.
وفي الوقت ذاته، سيستمر فريق بيسان في زراعة الأشتال المتوفرة لهذا الموسم، وهي مخصصة لتوزيعها على العائلات التي لديها مساحة منزلية للزراعة، مع مواصلة الزيارات الميدانية للمساحات التي زُرعت سابقاً لتقييم احتياجاتها، ومتابعة إرشادهم الزراعي.
"ماذا عن التمويل؟" تجيبنا: "الإمكانيات المتاحة محدودة، والتمويل الذي يصلنا ليس بالمستوى المطلوب. أرى أن مشروعنا لم يأخذ حقه بعد من ناحية التفاعل، ما يضطرنا أحيانًا لبذل جهد إضافي في التواصل مع أشخاص معنيين بمشاريع مشابهة لمشروعنا، والتنسيق معهم".
وتستطرد قائلة: "نسعى بحثاثة لتوسيع نطاق الدعم المادي، حتى يكبر أثرنا في سد حاجة أكبر عدد من العائلات".
وتؤكد أنهم يواجهون صعوبة بالغة عند سحب المال الذي يتلقونه من الداعمين كونه يتطلب عمولة مرتفعة، إلى جانب قلة توفر المياه، كما أن عدم استقرار الوضع الأمني يؤثر على الوصول إلى الأشتال والبذور.
ومن جهة أخرى، تثّمن بيسان جهد الفريق الذي لولاه لم تتقدم المبادرة، ويلعب فيه المهندس الزراعي أحمد المغربي دوراً فاعلاً، وهو مسؤول عن الجهد الميداني، وشراء الأشتال والبذور والمتابعة مع العائلات وإعطاء التوجيهات اللازمة أثناء الزراعة، مُشيدةً أيضاً بجهد ابنة عمها شهد عكاشة، التي تدرس في إسبانيا، وتشرف على إعداد المحتوى في مواقع التواصل، خاصة في الفترات التي ينقطع فيها الإنترنت عند بيسان، لافتة إلى أن المردود المادي على الفريق لا يكاد يُذكر.
"ألم يُراودك شعور باليأس مع ظروف سَوداوية كهذه؟"، نضج ومسؤولية يظهران في جوابها: "لا يمكن الادّعاء أننا أقوياء، لكن إذا لم نتحرك النتيجة معروفة، سيهلك الناس جوعاً، لا نستطيع الاعتماد على المساعدات الشحيحة، وأؤكد أننا سنستمر بعون الله إلى أن تتحقق رؤيتنا".
وفي ختام حديثها تشدد على مسألة مهمة، أن توفير الغذاء الصحي يُعد من أهم المشكلات التي تواجه القطاع في الوقت الراهن، ووفقاً لهذا، تأمل أن تتجه الأنظار صوبها، مع اقتراح حلول واقعية تغيث مليونيّ إنسان، لتأمين مستقبلهم الغذائي، تحسباً لأي مجاعة محتملة جراء الحصار.
محسن الدريملي في ورشة إعداد الطعام للنازحين
محسن الدريملي وسط مخيمات النازحين
فريق "محسن الخير" يوزع المياه
ننتقل إلى مبادرة أخرى، لم يدخر صاحبها محسن الدريملي جهداً في أتون الحرب، من أجل أن يساهم في حل أزمة المياه المتفاقمة لدى أهل غزة، حيث انطلقت مبادرته بعد منتصف العام الماضي، وما يزال حتى اللحظة نشطاً فيها.
قبل الحرب، كان هذا الشاب مستأجراً لمَحالٍ لبيع الخضراوات والفواكه، ولكن تغيّر حاله، بعد السابع من أكتوبر، كما كل شيء، ولم يعد بالإمكان استمراره في عمله.
"آفاق البيئة والتنمية" تسنّى لها الحديث مع الدريملي في المرحلة الفاصلة بين الحرب وعودتها، أي ما يُعرف بفترة وقف إطلاق النار التي استمرت أقل من شهرين.
وانطلاقًا من قول الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام "أفضل الصدقة سقيا الماء"، بدا ممتناً لأنه أتيحت له الفرصة للمساهمة، ولو بجزء بسيط، في تنفيذ مبادرات توصيل "المياه العذبة" إلى المواطنين عبر توفير المال من المساهمين، واللافت للانتباه أن عددًا لا بأس به منهم هم أفراد من غزة.
ويتطرق إلى معضلة غلاء المياه وسببها ارتفاع سعر السولار، قائلاً: "انقطاع الكهرباء يُصعّب علينا كل نواحي الحياة، بما في ذلك الأنشطة اليومية الأساسية، وحتى محطات التحلية لم يعد بوسعها التعامل مع غلاء السولار، وأصبح من الصعب توصيل المياه للمنازل، جراء التكلفة المرتفعة جداً".
يخرج محسن تقريباً يوميًا لتنفيذ مبادرات سقيا الماء أو تكية طعام، ويرى مواقف تدمي القلب، حسب تعبيره، موضحاً: "عندما أرى سيدة كبيرة أو بنتاً صغيرة حافية القدمين تسابق الريح حتى تلحق بتعبئة جالون ماء، أو لتأكل صحن طعام، أو حتى تنال نصيباً من توزيع عبوات الحليب، فإننا لا نجد كلمة واحدة تعبّر عن المأساة".
إحدى مبادرات فريق محسن الخير لتوزيع المياه العذبة في شمال غزة
جدير بالذكر أن الاحتلال الإسرائيلي دمرَّ معظم آبار ومرافق المياه في غزة، والتي مرت أخيراً بفترة حرجة، جراء تضرر خط مياه "ميكوروت" شرق الشجاعية، نتيجة الأضرار التي لحقت بالخط في نهاية شارع المنطار، ما فاقم أزمة العطش التي يعاني منها السكان، حسب حديث لبلدية غزة.
وبالعودة إلى محسن، فإنه يؤكد؛ بحكم ملامسته لهموم الناس، ترّدي الأوضاع المعيشية على كل المستويات، حيث يرى مشاهد تُفجرّ الأحزان: "في الشجاعية، على سبيل المثال، الحياة صفر بمعنى الكلمة، حتى المياه المالحة لا تتوفر، يعيش الناس في الخيام ولا طعام ولا شراب، ولا حياة إطلاقًا، في تل الهوى والشيخ عجلين يعيش الناس فيما هو أشبه بالأوكار، خيمة هنا وهناك، مهما قلت لن أستطيع وصف مشاقّ الحياة".
وعلى صعيده الشخصي، يقول إن المياه الحلوة لا تتوفر في المنطقة التي يقطنها، ما يضطره للذهاب إلى مكان بعيد، أو بالكاد يعبئ جالونًا أو اثنين لأسرته في مبادرات توزيع المياه التي يشارك فيها.
يحكي الدريملي لمراسلة "آفاق البيئة والتنمية": "بعد التهدئة عدنا لمنزلنا، الذي كان معبقاً بالأدخنة جراء احتراق الطابق السفلي، أخذنا نحسب ألف حساب من أجل توفير الماء، كل يوم ننظف جزءاً من البيت، كانت ملابسنا بحاجة إلى غسيل، لم نتمكن حتى من غسل ربع الكمية، من أجل الحفاظ على كل قطرة ماء، لأنها لا تصلنا إلا مرة أو مرتين أسبوعياً، ونضطر لنقلها من الطابق الأرضي للثاني".
ووفق تجربته فإن توفير الماء للناس في شمال غزة، وقت الحرب كان أسهل بكثير من بعد إعلان وقف إطلاق النار، لأنه لم يكن يتواجد هذا العدد الضخم من النازحين الذين عادوا، "أصبح لدينا عجز في توفير المياه المالحة والحلوة على حد سواء بسبب كثافة السَحب، ما جعل وضع الماء أكثر سوءاً، فيما نلاحظ اختفاءً لجهود المبادرين، ربما لأن الداعمين يعتقدون أن الحرب انتهت حقاً" يقول محسن.
وبإلقاء نظرة على معنويات الناس "المتدهورة" حسب وصفه، يعقد مقارنة: "عندما أتأمل حالي أحمد الله أن دخلي البسيط يمكنّني من الإنفاق على عائلتي، علماً أن أبي مريض وأنا غير متزوج بعد، ونسكن بيتًا بالإيجار، ودخلي يتوفر بواسطة هذه المبادرات التي أكتفي فيها بنسبة بسيطة، والحمد لله على كل حال"، مستدركاً حديثه: "بينما أكثر الناس ليس لديهم مصدر دخل، ولا يستطيعون توفير ما يسد رمق أطفالهم، هم بالمختصر ضائعون، وغالبيتهم لا يعرفون ماذا يفعلون وأين يذهبون".
صعوبات تكتنف المبادرة
محسن الدريملي يعتبر أن توقف إمداد المواطنين بالمياه كارثة
وبدوره، يأسف محسن الذي يعمل بمفرده وليس ضمن مؤسسة، لحالة عدم الشفافية التي عمّت عدداً من المبادرين بسبب ما لوحظ من "سرقات"، ما جعل بعضٌ يشكّكون فيهم ويترددون في إرسال الدعم، والكلام له، معبراً عن انزعاجه من: "صورة نمطية ترى أن المبادر لصّ، ويأخذ لجيبه نصيب الأسد".
وعن الآلية التي يعمل بها، يوضح: "أنشر في مواقع التواصل تصوّراً واضحاً للتكلفة دون توسل أو استجداء كما يفعل بعضُ، ويصلني دعم متقطع، لكن بصفة دورية إما تردني مبالغ لدعم سيارة ماء أو تكية طعام، وفي كل الأحوال استمرار المبادرات مرهون بالدعم من الأفراد، فمنهم من يتصدق عن روح ميت عزيز، بحيث يحددون المطلوب من المال المرسل سواء كان كسوة أم سقيا أم طعام، ونسأل الله أن يتقبّل منهم ومنا".
وبموجب حديثه، أول 70 شاحنة مياه من بين 220، لم يتقاضَ منها شيكلاً واحداً، بل كان ينفق من جيبه الخاص أيضاً، وبعد ذلك أصبح مضطراً للانتفاع بنسبة بسيطة لتوفير دخل متواضع له ولشابٍ قريبه يعمل معه في الفريق.
ورغم أن المال الذي يجمعه لتنفيذ هذه المبادرات لا يكفي لأكبر عدد من المواطنين، إلا أنه يحاول الاستمرار.
ومن وجوه المعاناة في أزمة المياه التي يذكرها، أنه لم تعد تتوفر شاحنات لضخ الماء للبراميل، "هناك أشخاص يطلبون كوب ماء (ألف لتر)، بينما الشاحنة تشترط ألا تضخ أقل من 5 كوب، وإلا سيطلب صاحبها سعرًا مضاعفًا، بسبب تكلفة السولار الباهظة" تبعاً لقوله.
ويشير إلى أن سعر "كوب الماء" قبل الحرب كان بـ 60 شيكلاً، أما اليوم يُقدّر بـ 160 شيكلاً، أي زاد ثلاثة أضعاف، بينما في بداية الحرب كان سعره أقل.
ومن الصعوبات التي تواجهه، جراء هول القصف في المدينة، أن كثيراً من الشوارع باتت مغلقة، لافتاً إلى أن بلدية غزة تبذل قصارى جهدها في هذا الجانب، لكنها لا تغطي 5% من احتياجات المواطنين، بسبب الافتقار للآليات الثقيلة لرفع الركام.
ويشرح محسن الدريملي ما يعنيه: "يأتي الناس من بين الردم على بعد كيلو متر لجلب المياه، على أمل أن تتمكن الجهات المعنية من فتح الطريق حتى تتمكن سيارة النقل من الوصول إليهم".
أما مشكلة المواصلات، فهي أمر آخر، حيث يحتاج للانتقال من منطقة لأخرى، وأسعار المواصلات باتت مرتفعة، يذكر في هذا السياق: "ننتظر فترة طويلة حتى يتسنى لنا العثور على وسيلة مواصلات، وما كان سعره لمكان قريب بشيكل، أصبح اليوم بـ 7 شواكل".
وبصوت مقهور يستنكر عدم تحرك العالم لتوفير أدنى حدود الإنسانية لسكان غزة: "كان يجب إدخال الكرافانات بأسرع وقت بدلاً من أن يعيش الناس مشردين في الخيام، ولم يُطبق هذا البند، حتى الحصول على الخبز أصبح حلماً بعيد المنال، حتى من قبل إغلاق المخابز، يريدون أن يدفعوا بنا إلى اليأس، ماذا سيحدث لو أنهم سمحوا بإدخال براميل المياه، والمخابز المتنقلة، والطاقة البديلة لتوفير الكهرباء".
ومن واقع اطلاعه على احتياجات الغزيين، فإنه يوصي المهتمين بدعمهم، بالأخذ في الاعتبار تلبية احتياجاتهم المادية لأساسيات الحياة الملّحة من طعام وشراب وعلاج وحليب للرضع، وهذا كله بعيدًا عن الضرورات الأخرى من توفير السكن والماء والكهرباء.
أخيراً، أسأل محسن عن طموحه وسط كل هذه الكوارث، فيجيب بابتسامة كمن يحاول عبثاً أن يكون بخير: "طموحي بسيط، كأي إنسان في غزة، أريد أن نعيش حياة مطمئنة وآمنة، تتوفر فيها مقومات الحياة لنتعايش معها، نريد أن نحيا كبقية العالم، ونحن راضون بقدر الله".