خاص بآفاق البيئة والتنمية
في قطاع غزة أصبح مألوفًا أن ترى مشاهد اقتلاع الأشجار من جذورها دون النظر إلى عمرها أو قيمتها؛ لدوافع عديدة أبرزها التوسع العمراني، وصناعة الحطب لموسم الشتاء. هذا الخطر ترفض الجهات الرسمية والعاملون في مهنة التحطيب وسمه بـ "التصحر"، فهذا المصطلح حسب رأيهم كبير وخطير، ولا يأتي من تصرفات محدودة. لكن مختصين بالشأن البيئي يقولون إن مفهوم التصحر لا يقتصر فقط على غزو الأراضي بالكثبان الرملية، وإنما يعني أيضًا التدهور المستمر للأراضي الزراعية، وتراجع خصوبة التربة؛ بسبب التغيرات المناخية والأنشطة البشرية.
|
|
أشجار الحطب في غزة |
لا تزال الممارسات البشرية غير المسؤولة في كثيرٍ من الأحيان تُهدد الحياة الخضراء، وتُجهز على ما تبّقى منها، ففي قطاع غزة أصبح مألوفًا أن ترى مشاهد اقتلاع الأشجار من جذورها دون النظر إلى عمرها أو قيمتها؛ لدوافع عديدة أبرزها التوسع العمراني، وصناعة الحطب لموسم الشتاء.
هذا الخطر ترفض الجهات الرسمية والعاملون في مهنة التحطيب وَسمه بـ "التصحر"، فهذا المصطلح من وجهة نظرهم كبير وخطير، ولا يأتي من تصرفات محدودة.
لكن مختصين بالشأن البيئي يقولون إن مفهوم التصحر لا يقتصر فقط على غزو الأراضي بالكثبان الرملية، وإنما يعني أيضًا التدهور المستمر للأرضي الزراعية، وتراجع خصوبة التربة؛ بسبب التغيرات المناخية والأنشطة البشرية.
ويُعد الزحف العمراني من أبرز ما يُهاجم القطاع الزراعي في غزة ويؤدي إلى آفة التصحر، وعند الحديث عن هذا الأمر، لابد من لفت الانتباه إلى حرفة التحطيب التي تنشط جراء الزيادة في قطع الأشجار.
أكوام الأشجار المقتلعة للتحطيب في غزة
لا يفكرون بترك المهنة
رائد عبد العال (52 عامًا) الذي يعمل في مهنة التحطيب منذ 34 عامًا، كان يجلس في مِحطبه داخل سوق "فِراس" أحد أقدم الأسواق الشعبية في المدينة، والذي يضم أكوامًا من الخشب وعشرات الأشجار المقطّعة، وتتفاوت أعمار بعضها بين 20 إلى 50 عامًا.
يقول عبد العال إنه يستأجر هذا المكان سنويًا، ويعمل برفقة أبنائه الأربعة يوميًا في موسم الشتاء (من تشرين أول/ أكتوبر حتى شباط/ فبراير)، إذ يذهب صباحًا إلى الأراضي الزراعية من جنوب القطاع حتى شماله، بحثًا عن خشب الأشجار، مشيرًا إلى أن الراغبين في قطع أشجار أراضيهم يتركزون في مناطق الجنوب.
ويُضيف لـ "آفاق البيئة والتنمية" أن عمله الذي ورثه عن جدّه وأعمامه يتراجع سنة بعد أخرى بسبب الظروف الاقتصادية والمعيشية العامة، لكنه لا يفكر بترك هذه المهنة فهو سنويًا يُجهز داخل محطبه أخشاب الأشجار بعد قطعها ويؤهلها للبيع منتظرًا المشترين.
وفي الموسم الواحد يُنتج محطب عبد العال فقط من 150 لـ 200 طن من الحطب، وهو ما يعادل قطع 1500 شجرة من مختلف الأنواع "الحمضيات، والزيتون، والأثل، والسرو، والصنوبر، والجميز، والكينيا"، وغيرها، تبعًا لصاحبه "أبو إسماعيل".
عند الحديث عن هذه الكمية الكبيرة من الأشجار التي تُعدم سنويًا؛ لإنتاج الحطب وبيعه مقابل ربحٍ مادي قليل (شيقل ونصف لكل كيلوغرام)، هل يُمكننا القول إن هذه المهنة ساهمت سلبًا وإلى حد كبير في تقلّص المساحات الزراعية بالقطاع؟
يُجيب عبد العال على سؤالنا: "نحن لا نُلزم، ولا نُجبر أحدًا على قطع أشجار أرضه، وأعتقد أننا نعمل في نطاق المقبول، ولنفترض أن "أبو إسماعيل" سيترك هذه المهنة، هناك بدائلٌ بالعشرات، وبالتالي المشكلة لم تُحل".
ويلفت إلى أنه يعمل في قطاع غزة نحو 250 شخصًا في مهنة قص الأشجار وتقطيع الحطب، بعد أن كانوا 20 فقط حتى عام 2000، مبررًا تمسكه بهذه المهنة: "نحن مضطرون دائمًا للعمل لساعات طويلة في مهن مرهقة كهذه؛ بحثًا عن رزق عوائلنا وقوت يومنا".
ولا يختلف رأي الحاج طه الحطّاب (61 عامًا) عن سابقه، فهو الآخر يعمل في مهنة التحطيب وإنتاج الفحم منذ ما يزيد على 40 عامًا، ويعتقد أن واحدًا من العشرات لا يؤثر، وأنه يجب ألا يُلقى عليهم اللوم، لا سيما أن القطع يتم بإذن صاحب الأرض.
ويعزو الحطّاب من حي الشجاعية شرقًا، تراجع المساحات الخضراء في قطاع غزة إلى الزحف العمراني نتيجة الزيادة الكبيرة بعدد السكان، قائلًا: "قطاع غزة بمساحته الضيقة، يسكنه أكثر من مليوني إنسان أين يذهبون؟ (..) هم مضطرون للبناء حتى لو كان على حساب الشجر".
طه الحطاب في محطبه بغزة
ويُكمل لـ "آفاق البيئة والتنمية": "مشاكلنا هنا معقدة وكبيرة، كل شيء يُثير التذمر، حتى التحطيب الذي تصفونه بالجائر لم يعد يجدي نفعًا، أملك محطبين أحدهما يضم 150 طن من الحطب، وها نحن على مشارف انتهاء موسم الشتاء، وما زال مركونًا ومصيره الخسارة".
وبالرغم من شكواه المتكررة خلال اللقاء بشأن تراجع رواج الحطب في الأسواق الغزّية إلا أن طه الحطّاب يُشبّه ارتباطه بهذه المهنة كما علاقة السمك بماء البحر: " كبرت بين الأشجار وأعرفها كما أعرف أبنائي، والتخلي عنها لا يكون بسهولة حتى لو كان هناك بديل بمردود مالي كبير".
طه الحطاب- غزة
"لم أفكر بالتصحر يومًا"
اجتثاث الأشجار من جذورها أصبحت سمة دارجة في الوقت الراهن بقطاع غزة مع اختلاف الدوافع، فهذه أم رمزي علي (67 عامًا) مواطنة تعيش في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، كانت تملك أرضًا زراعية بمساحة دونم ونصف (الدونم يساوي 1000 متر مربع)، تقول إنها جرفت 500 متر من مساحة أرضها؛ من أجل البناء.
وتردف أم رمزي لـ "آفاق البيئة والتنمية" "حتى أكون صادقة أنا لم أفكر يومًا بموضوع التصحر، رغم ارتباطي الوثيق بالأرض، فقبل سنوات ساءت ظروفنا الاقتصادية، فاضطررت لبيع المنزل الذي نعيش فيه، ومن ثم تجريف جزء من الأرض واقتلاع أشجار بعضها مثمرة ومعمرة كالزيتون والجوافة، والبناء عليها".
وتشير إلى أنها ظلّت تستخدم الحطب من خشب الأشجار المقطوعة لفترات طويلة؛ للتدفئة والطهي في آنٍ واحد، بسبب ترّدي الظروف المعيشية، واستمرار أزمة انقطاع الكهرباء منذ صيف عام 2006.
وتقرّ ضيفتنا بأن الأشجار يقطعها المواطنون دون الشعور بأي مسؤولية أو وعي، لكن "لا خيار أمامهم على هذه البقعة الضيقة سوى ذلك، وإلا سنواجه مشكلة في نقص المباني السكنية مع زيادة عدد السكان".
من ناحيته يُحذر الخبير الزراعي م. نزار الوحيدي من انعكاسات ظاهرة التصحر على البيئة الزراعية في قطاع غزة، قائلًا: "مشكلتنا الحقيقية ليست في قطع الأشجار، إنما في إزالة الغطاء النباتي الأصلي وعدم مراعاة إبقاء الأعشاب والنباتات الطبيعية على سطح الأرض".
ويعد قطاع غزة من أكثر المناطق تكدسًا بالسكان في العالم وتبلغ مساحته 365 كيلو متر مربع، ويقطنه قرابة مليونين و375 ألف شخص مع نهاية عام 2022.
وبحسب معطيات رسمية فإن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في القطاع تبلغ 180 ألف دونم، يُستخدم نصفها لزراعة الخضروات، بينما يذهب النصف الآخر لصالح البستنة الشجرية.
ويُشير الوحيدي إلى أن 25% من أراضي القطاع خضعت لظاهرة التصحر الناتج عن سوء إدارة الزراعة، مبينًا لـ "آفاق البيئة والتنمية" أن المساحة الزراعية كانت تتراجع بمعدل 500 دونم سنويًا، لكن منذ عام 2010 ضُبطت المسألة قانونيًا، ولا تتراجع بأكثر من 50 دونمًا سنويًا لمصلحة نشاطات مختلفة.
ورغم عدم تطرق المتحدثين في التقرير لجزئية الملاحقة القانونية في حال اللجوء إلى القطع الجائر للأشجار، إلا أن الوحيدي يؤكد أن هناك متابعة حثيثة من الجهات المختصة، إذ يُغرّم مَن يقطع شجرة في الشوارع العامة بـ 1200 شيقل، أما داخل المنازل والممتلكات الخاصة فإن أصحابها يُلاحقون قانونيًا في حال أُبلغ عنهم.
محطبة عبد العال في غزة
وزارة الزراعة: لا تُشكل خطرًا
هذا ويتحدث أدهم البسيوني الناطق باسم وزارة الزراعة عن إجراءات حكومية مشدّدة من أجل الحفاظ على الأشجار والمسطّح الأخضر في قطاع غزة، لافتًا إلى أن القطاع لم يصل بعد إلى ظاهرة التصحر، لكن الخطر يداهم الأراضي الزراعية مستقبلًا، وسببه الرئيس الاعتداءات الإسرائيلية، ثم الزحف السكاني الكبير والمستمر.
ويؤكد لنا أن وزارته لا تسمح بالتصرف بأي مساحات زراعية إلا بعد الرجوع إليها، حتى عملية الزحف العمراني نحو الأراضي الخضراء تتم وفق إجراءات صارمة -والكلام له- "لدينا مندوبون دائمون في وزارة الحكم المحلي لمتابعة هذه المسألة".
وفي ضوء ما سبق، إن مسألة استنفاد الأراضي في قطع الأشجار والتحطيب ليست إستراتيجية ولا تُشكل خطرًا لأنها محدودة جدًا، من وجهة نظر البسيوني، "فهذه الحرفة ظهرت نتيجة التمدد العمراني، وهي موسمية".
محطب رائد عبد العال في غزة
مسؤولية وطنية
إلا أن الوزارة تعاني كثيرًا من مسألة الحفاظ على الأشجار لا سيما في الأماكن والحدائق العامة، وعدَّ البسيوني هذا الأمر مسؤولية وطنية، موضحًا أنه عند الحاجة لزراعة أشجار في منطقة أو شارع ما، فإن من أهم التحديات التي تواجههم هو استمرار هذه الشجرة دون العبث بها الذي قد يصل إلى حد الاقتلاع من قِبل الأطفال أو مواطنين ليس لديهم حس المسؤولية.
وحول جهود الوزارة لتعزيز وزيادة المساحات الزراعية وتعويض الفاقد فيها، يلفت إلى أن لديهم ثلاثة مشاتل رئيسة تُوزّع سنويًا عشرات آلاف الشتلات الزراعية على المؤسسات والحدائق العامة والمواطنين، وتصل في بعض الأحيان إلى 100 ألف شتلة.
قانونيًا، يقول أمجد الأغا مدير عام الشؤون القانونية في المجلس التشريعي إن القانون الفلسطيني، وفي أكثر من معالجة، حفظ حق حماية الأشجار والنباتات والأحراش عمومًا، ومنع تجريف الأراضي الزراعية، مع إعطاء مالكيها حق التصرف بها والاستفادة منها دون انتهاك.
ويُشير الأغا لـ "آفاق البيئة والتنمية" إلى المادة رقم (16) من قانون الزراعة سنة 2003 التي تنصّ على أن تصدر "وزارة الزراعة بالتعاون مع سلطة البيئة التعليمات الخاصة بتنظيم عمليات قطع الأشجار والنباتات والأشجار المحمية والمهددة بالانقراض، وتحديد الفترات التي يُسمح فيها قطعها".
كما أن المادة رقم (18) من قانون البيئة لسنة 1999، تحظر "تجريف الأراضي الزراعية أو نقل تربتها بهدف استعمالها في غير الأغراض الزراعية، ويُعاقب كل من يجرف أراضي أو يسهم في تسويتها أو نقل تربتها بهدف البناء عليها أو استخدام أشجارها خشبًا وحطبًا وفقًا للشروط والضوابط المقررة من الجهات المختصة".
ويذكر أن المعالجات القانونية ذات الصلة، توعدّت المخالفين بعقوبات تتراوح بين الملاحقة الجزائية والغرامات المالية، والسجن لمدة تقل عن ثلاث سنوات.
لكن ما سبق لا يشمل ما أسماه الأغا "أشجار المواطنين الخاصة"، إذ لا يوجد موانع أو قيود قانونية أمام صاحب الأرض؛ للتصرف والاستفادة من ممتلكاته كيفما شاء، بما في ذلك قطع وتحطيب جزء من الشجر.
وفي الوقت ذاته يُشدد على ضرورة إقرار سياسة حكومية واضحة في مسألة الاستدامة البيئية والحفاظ على المسطّح الأخضر بالقطاع، على أن تُترجم بالمراقبة والمتابعة الفعلية وبإجراءات صارمة ولوائح تُنظم عملية التحطيب، وتشمل الملكيات العامة والخاصة.
وفي الختام يُجيب الأغا على سؤالنا: "هل طُرحت هذه القضية على طاولة النقاش في المجلس التشريعي؟": "في الحقيقة لا؛ لأن الجدل لم يُثار حول هذا الأمر من قبل، فموسم الشتاء في غزة ضعيف وعادةً ما تكون حرفة التحطيب محدودة".