بالتعاون بين مجلة آفاق البيئة والتنمية ومركز العدل البيئي في جمعية الجليل
|
قضية إيناس الأطرش لم تكن قصّة فريدة، فهي تجسيد لمعاناة مئات وربما آلاف أطفال النقب، وما يميّز هذه الحالة أنها وصلت إلى ما يُسمى "محكمة العدل العُليا" الإسرائيلية، حيث لم تجد إيناس عدلًا، بل وجدت قضاة يتمنون لها – بشكل مستفز- الشفاء، وكأن الأمنيات هي بديل الكهرباء التي تشغل جهاز تبريد حقن الدواء أو حتى بديل الحق الأساسي لطفلة مريضة بالسرطان. قصّة إيناس تكشف بأن الحديث عن العمل من أجل العدل الطاقي ليس ترفًا مناخيّا ولا بيئيا، بل مسألة حياة أو موت.. كما هو الحال بالنسبة لإيناس وشيماء وغيرهما من أطفال النقب الذين يُعانون حتى اليوم من انعدام الأمن الطاقي.. والأمراض المزمنة والخطيرة التي تهدد حياتهم يوميا؛ وبالتالي أي جهد لتحقيق العدل الطاقي والاستدامة في إنتاج الطاقة، هو جهد عظيم ومطلوب، مهما بدا صغيرًا!
|
 |
| منظر عام لقرية سعوة الأطرش - موقع عرب 48 |
مقدمة
رغم مرور أكثر من 20 عامًا على قصة الطفلة إيناس الأطرش التي لم تكن قد تجاوزت عامها الثالث حين شُخّصت بمرض السرطان في يناير 2005، إلا أن قصتها لا تزال تجسّد نموذجًا مؤثرًا لواحدة من أبرز القصص التي تحوّلت إلى قضية رأي عام وأصبحت تلخص مُعاناة آلاف العائلات البدوية في القرى غير المعترف بها في صحراء النقب، مع الحرمان من الطاقة بسبب سياسات التخطيط والطاقة العُنصرية – حتى يومنا هذا. فقد وصلت قصّتها إلى محكمة العدل العُليا الإسرائيلية التي تعاملت مع القضية بشكل "مستفز"، ما أثار موجة من الانتقادات من قِبل المؤسسات البحثية والمنظمات الحقوقية والإنسانيّة وجعلها تلتفت إلى قضيتها وتشير إليها في تقارير كثيرة؛ ولهذا وُثِّقَت قصتها بشكل لافت، مقارنة بآلاف الحالات التي لم توثق في النقب وقد غابت بشكل كبير عن الإعلام. من المثير أن قصة إيناس تحولت إلى نموذج كفاح من خلال الطاقة الشمسية حيث انضمت مؤسسات خيرية لتزويد العائلة بنظام طاقة شمسية، في وقت كانت منظومة الطاقة الشمسية مُكلفة جدًا، واستطاعت هذه المنظومة الشمسية الصغيرة أن توفر ما تحتاجه ثلاجة صغيرة لحفظ أدوية إيناس كوسيلة لتعزيز صمودها ضد هذا المرض الخبيث وكذلك ضد السياسات العنصرية الخبيثة.
في التقرير التالي، نستكشف قصّة إيناس وتفاعل المحكمة والإعلام والمنظومات الحقوقية والمؤسسات الأكاديمية والجمعيات الإغاثية مع قضيّة من قضايا العدل الطاقي في النقب.
الدراسات والإحصائيات عن النقب ليست كثيرة، وبعضها قديم، لكن الإشارة إليها يفيدنا في فهم السياقات الأوسع لأي قضية. فلو بحثنا مثلًا عن معطيات حول الأمراض المزمنة بين الأطفال، فالمسألة ليست سهلة. لكن هناك دراسة نُشرت سنة 2011 للدكتور ثابت أبو راس يشير فيها إلى أن"12% من سكان القرى غير المعترف بها هم مرضى بأمراض مزمنة يحتاجون للكهرباء من أجل أجهزة أو أدوية محفوظة بالبرودة"[1]. وتكشف تقارير وزارة الصحة الإسرائيلية عن فوارق صحية صارخة، حيث بلغت نسبة وفيات الأطفال البدو في النقب عام 2006 نحو 12 لكل 1000 ولادة، وهي أعلى بثلاثة أضعاف من المعدل العام في إسرائيل، ويُعزى ذلك بشكل مباشر إلى غياب البنية التحتية الأساسية كالكهرباء والماء[2] .
هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات جامدة، بل هي قصص أطفال وعائلات تدفع ثمن سياسة التمييز الممنهج والإقصاء الطاقي المستشري.
السياق التاريخي والقانوني للقرى غير المعترف بها في النقب: سياسة التجاهل والحرمان
قرية سعوة الأطرش تقع في النقب الذي يُعتبر واحة الطاقة الشمسية وتُنتج فيها طاقة شمسية بوفرة، ولكن سعوة الأطرش شأنها شأن عشرات القرى الأخرى المنتشرة في النقب تفتقر إلى المياه الجارية الآمنة، وشبكات الصرف الصحي، والطرق المعبدة التي تُصبح أوحالًا في الشتاء، وخدمات جمع النفايات المنتظمة، والمدارس الرسمية، والمرافق الصحية الملائمة.
هذا الحرمان ليس نتيجة إهمال بيروقراطي ولا بسبب صعوبات تقنية، بل هو سياسة ممنهجة تهدف إلى الضغط على السكان البدو للانتقال إلى تجمعات حضرية "مخططة" أنشأتها الدولة، والتي غالبًا ما تفتقر إلى فرص العمل والبنية الاجتماعية التي تتناسب مع نمط حياة البدو وتقاليدهم وثقافتهم. يشكل هذا الوضع انتهاكًا صارخًا للحقوق الأساسية في السكن اللائق، والصحة، والتعليم، ومياه الشرب، وفقًا للقانون الدولي لحقوق الإنسان[3].
تتجاوز هذه السياسات الحرمان من الخدمات لتصل إلى التهديد المباشر بالاقتلاع. ففي كانون ثاني/ يناير 2022، شهدت قرية الأطرش (بما في ذلك منطقة سعوة) تصعيدًا خطيرًا، حيث حاولت سلطات الاحتلال والشرطة الإسرائيلية والصندوق القومي اليهودي (JNF) تحريش أراضي القرية بالقوة لتهجير السكان وزراعة الأشجار عليها[4]، ضمن ما يُسمى بمخططات "تهويد النقب". وقد واجه الأهالي هذه المحاولات بالاحتجاجات السلمية كما حصل عام 2022، إلا أن الشرطة استخدمت القوة المفرطة، بما في ذلك إطلاق الكلاب والخيول، واستخدام الغاز المسيل للدموع، والرصاص المطاطي لتفريق الاحتجاجات السلمية، ما أسفر عن اعتقال قاصرين ونساء وأطفال[5].

اعلان لمظاهرة للتصدي لسياسة التهجير والتهويد وهدم البيوت في سعوة-الأطرش:
https://www.deyaralnagab.com/print.php?content=29&id=5418
إيناس الأطرش: معركة حياة ضد الفقر الطاقي
بيت عائلة الطفلة إيناس الأطرش كان من البيوت المهددة بالهدم، وهو بالمناسبة لا يبعد عن خطوط الكهرباء الإسرائيلية القطرية إلا بضعة مئات الأمتار ولا يحق لهم الوصول إلى الكهرباء، لذلك كانوا يعتمدون على مولّدات كهرباء مُزعجة وملوثة وتكاليفها باهظة.
في عام 2005 تم تشخيصها بسرطان خبيث وعدواني ينتشر بسرعة. خضعت إيناس لعمليات جراحية وعلاجات كيميائية مكثفة أضعفت جهاز مناعتها بشكل حاد، وجعلتها في أمس الحاجة إلى حقن يومية من دواء خاص يُدعى GCSF. هذا الدواء، الذي يُعد حيويًا لدعم نخاع العظم ومساعدة الجسم على إنتاج خلايا الدم البيضاء المقاومة للعدوى، يتطلب حفظًا دقيقًا للغاية في درجة حرارة تتراوح بين 0-4 درجات مئوية لضمان فعاليته وبالتالي سلامة الطفلة، كما أكدت إفادة المحامية سونيا بولس[6]. وأي انحراف عن درجة الحرارة هذه قد يفسد الدواء ويجعله عديم الفائدة، ما يعرض حياة الطفلة للخطر المباشر.
ولأن العائلة كانت محرومة من الارتباط بشبكة الكهرباء القطرية وكانت تكتفي بموّلد كهربائي مشترك مع الجيران وتشغله ثلاث ساعات ليلًا بسبب كلفته الباهظة (نحو 6000 شيقل شهريا، حينها)، لم يكن بالإمكان تشغيل ثلاجة تُمكنها من حفظ الدواء بالشكل المطلوب طيلة ساعات اليوم وبالذات مع حر الصيف الشديد في صحراء النقب[7]. نتيجة لذلك، اضطرت العائلة إلى حفظ الدواء في كيس مملوء بالثلج داخل ثلاجة لا تعمل معظم ساعات اليوم، وهي طريقة حفظ بدائية غير آمنة، ما شكّل خطرًا مباشرًا على حياة الطفلة المعرضة للخطر أصلاً بسبب مرضها ونقص مناعتها[8].
المحكمة العليا: حين يتحوّل القضاء إلى أداة للتمييز
في محاولة يائسة لإنقاذ حياة طفلتهم، التمست عائلة إيناس من المحكمة العليا الإسرائيلية الأمر بربط منزلها بالكهرباء. لكن المحكمة العليا، في قرارها الصادر بتاريخ 23.11.2005، رفضت الالتماس[9]. جاء في حيثيات قرار المحكمة تبرير يُلقي باللوم على الضحايا لاختيارهم العيش في قرية سعوة الأطرش باعتبارها قرية غير معترف بها (في ذلك الحين) ولم تقدم المحكمة للعائلة إلا "مساعدة قدرها 16 ألف شيكل، والتي قد تكفي، بتقديرهم، لتشغيل المولد لعدة أشهر". بالإضافة إلى ذلك، تعاملت المحكمة مع المأساة وكأنها خلل إداري بسيط، ورفضت رؤية أن ما يحدث هو نتيجة تمييز بنيوي طويل الأمد ضد البدو، واختتمت قرارها بعبارة "مفعمة بالأمل والدعاء بالشفاء العاجل" لإيناس، وكأن الأمل يمكن أن يحل محل الكهرباء[10].
أثار هذا القرار استنكار واسعا من وتحليلات قانونية، حيث اعتبره كثيرون فشلًا ذريعًا للنظام القضائي في حماية الحقوق الأساسية للفرد عندما تتعارض مع "مصالح" الدولة وتخطيطها القومي. هذا الحكم جرَّد الحقوق الإنسانية الأساسية – مثل الحق في الحياة والصحة – من جوهرها، وحولها إلى مجرد "حاجات إنسانية" يمكن للدولة أن تُقدم لها "مساعدات" رمزية بدلًا من الاعتراف بها كحقوق واجبة. يعكس هذا القرار بشكل صارخ الميل القضائي إلى إعطاء الأولوية للخطط "التنموية" للدولة، حتى لو كانت تمييزية، على حساب حقوق الأفراد والجماعات المهمشة[11].
من أهم الانتقادات التي نُشرت في هذا السياق، كانت للباحثين أحمد أمارة وزينديا ميلر، حيث يؤكدان بأن تصرف المحكمة في قضية إيناس الأطرش يجسّد استراتيجية "ما وراء نص القانون" والتي اعتمدتها المحكمة العليا في حث الجهات الرسمية على "مدّ يد العون" حفاظًا على حياة الطفلة؛ وبهذا أقرت بأن الحل يجب أن يأتي من مسار إنساني-إداري لا قضائي، لتفادي خلق سابقة تعترف بحق بنيوي في الخدمات. وهكذا تتحول الحاجة الملحّة للكهرباء إلى مسألة رحمة استثنائية، تُعالج بمنح وتبرعات، بينما يبقى الحرمان البنيوي قائمًا. ويُستخدم هذا النهج لإدامة سيطرة الدولة على الأرض وتجنب أي اعتراف قانوني بالحقوق التاريخية[12].
ومن منظور القانون الدولي لحقوق الإنسان، يمثل هذا القرار انتهاكًا صارخًا للحق في الصحة (المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، والحق في مستوى معيشي لائق (المادة 11)، والحق في عدم التمييز (المادة 2). فالمحكمة، بدلًا من أن تكون حامية لهذه الحقوق، تحولت إلى أداة لترسيخ سياسة التمييز البنيوي ضد البدو، عبر قبول منطق الدولة بأن العيش في قرية غير معترف بها هو "اختيار" يتحمل أصحابه نتائجه، متجاهلة بذلك التاريخ الطويل من الحرمان القسري ومحدودية الخيارات المتاحة أمام هذه المجتمعات[13].
التغطية الإعلامية والأكاديمية: قضية رأي عام
تحوّلت قضية إيناس إلى واحدة من أبرز القضايا الحقوقية في النقب خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، وتميزت بتغطية إعلامية محلية ودولية واسعة؛ فتم تناولها عبر وسائل إعلام عبرية وعربية وأجنبية، ما ساعد على تسليط الضوء على معاناة القرى غير المعترف بها. صحيفة "هآرتس" العبرية كانت من أبرز الصحف التي غطت القضية، فنشرت تقريرًا ساخرًا بعنوان: "كهرباء لتبريد الأدوية: ابحثوا في مكان آخر"[14]. وبعد عام من صدور قرار المحكمة العليا برفض الالتماس لربط منزل طفلة بدوية مصابة بالسرطان بشبكة الكهرباء، تلقت عائلة الأطرش أمر هدم لمنزلها[15].

صورة من صحيفة فصل المقالة - عدد 422[16]
على الصعيد العربي، غطت منصات مثل "عرب48" و"فصل المقال" القصة في تقارير موسّعة حول تفاصيل معاناة العائلة مع تأمين تكاليف تبريد الدواء، في ظل حرمانها من الارتباط بشبكة الكهرباء وخطورة ذلك على جودة الدواء والعلاج.
كما أصدرت منظمات حقوق الإنسان بيانات صحفية قوية، مثل جمعية حقوق المواطن في إسرائيل (ACRI) تحت عنوان "AThree-Year-Old Cancer Patient Will Remain Without Electricity" (طفلة في الثالثة من عمرها مصابة بالسرطان ستبقى بلا كهرباء) بتاريخ 30.11.2005[17]، ومنظمة أطباء لحقوق الإنسان (PHR) التي تذكر قضية إيناس الأطرش في العديد من ملفاتها[18]. كما تناولت القضية مواقع حقوقية عربية مثل المؤسسة العربية لحقوق الإنسان[19]، ما أظهر البعد العالمي لانتهاكات حقوق الإنسان في هذه المناطق.
إلى جانب التغطية الإعلامية، حظيت القضية باهتمام أكاديمي واسع. ومن أبرز الدراسات التي تناولتها أطروحة الدكتوراه لإيميلي مككي في جامعة نورث وسترن بعنوان "Dwelling in Conflict" (العيش في النزاع) عام 2011 [20]، التي حللت حياة البدو في القرى غير المعترف بها ضمن سياق أوسع من الصراع على الأرض. كما استشهد البروفيسور أيال غروس بحالة الأطرش كنموذج على التمييز بين السكان في الحقوق الصحيّة الأساسية، وذلك من خلال تحليل قرار المحكمة العليا في قضية الأطرش، واعتبره مثالًا حيًا على فشل النظام القضائي في حماية الحق في الصحة عندما يتقاطع مع اعتبارات التخطيط والسياسة القومية التمييزية.
الحل البديل: الطاقة الشمسية من المجتمع المدني... تحديات قائمة
في ظل غياب الدولة وعجز القضاء عن توفير الحل العادل، تدخلت منظمات المجتمع المدني لتقديم يد العون وتقديم حلول بديلة ومؤقتة. قامت جمعية "بستان" بجمع التبرعات اللازمة وتركيب منظومة طاقة شمسية في بيت عائلة إيناس لتشغيل الثلاجة التي تُحفظ فيها الأدوية الحيوية. وبعد تحسن حالة إيناس، نُقلت المنظومة نفسها إلى عائلة أخرى في قرية غير معترف بها لديها طفل آخر يحتاج إلى جهاز تنفس، ما يدل على استدامة هذه المبادرات المجتمعية وتضامنها في مواجهة الإهمال الحكومي. هذه المبادرة أثبتت أن الحلول التكنولوجية موجودة ومتاحة، لكنها تحتاج لإرادة سياسية حقيقية واحترام للحق بالحياة، لا تعنت قانوني أو إداري[21].
لم تكن جمعية "بستان" وحدها العامل في هذا الشأن، فهناك جمعيات ومؤسسات أخرى أبرزها مؤسسة "النقب للأرض والإنسان" أغلقتها السلطات الإسرائيلية عام 2015 بذريعة مُحاربة الإرهاب[22]، وذلك ضمن حملة مسعورة طالت مؤسسات فلسطينية كثيرة في أراضي عام 1948[23]، علما أن هذه المؤسسة كانت من أهم المؤسسات التي عملت على تزويد الأسر الأشدّ فقرًا (في القرى غير المعترف بها) بأنظمةٍ شمسية منزلية، مع منح أولويةٍ قصوى للعائلات التي يسكن في كنفها مرضى مزمنون يعتمدون على أجهزةٍ طبية كهربائية؛ إلا أن إغلاق المؤسسة أوقف المشروع.
حاليا، أصبحت منظومات الطاقة الشمسية أرخص وأصبح بمقدور المزيد من العائلات تركيبها، إلا أن التحديات لا تزال قائمة. ففي الأيام الغائمة أو الأيام التي تكثر فيها الأتربة والغبار (وهي ظواهر متكررة في مناخ النقب الصحراوي) تؤدي إلى تقليل كفاءة الألواح الشمسية بشكل كبير، ما يؤثر على إنتاج الكهرباء[24]. كما أن أي عطل في بطاريات تخزين الطاقة، أو في منظومات التحويل، قد يؤدي إلى انقطاع كامل للكهرباء في اللحظات الحرجة، ما يشكل خطرًا مباشرًا على حياة المرضى الذين يعتمدون على الأجهزة الطبية أو الأدوية المبردة. وقد وثقت دراسات أكاديمية أجرتها جامعة بئر السبع أن عدم استقرار إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية يزيد من حدة انعدام الأمن الطاقي لدى الأسر التي تعتمد على أجهزة تبريد الأدوية أو أجهزة التنفس، ما يشكل خطرًا مباشرًا على الصحة العامة لهذه الفئات المستضعفة[25].
إيناس ليست وحدها... معاناة شاملة
ما واجهته إيناس يواجهه أيضا آلاف المرضى في النقب، حيث يتغلغل الفقر الطاقي ليصبح تهديدًا مباشرًا للصحة والحياة. ووفق دراسة لمركز عدالة، فإن 12% من السكان في القرى غير المعترف بها يعانون من أمراض مزمنة تتطلب الكهرباء لحفظ الأدوية أو تشغيل أجهزة طبية[26].
مئات الأطفال يحتاجون لأجهزة تنفس، مرضى سكّري يعتمدون على حقن الأنسولين المبردة، ومرضى كبار في السن يتطلبون أجهزة دعم حياتية؛ فهؤلاء جميعا يعيشون في خطر يومي نتيجة انعدام الكهرباء. من بين هؤلاء الأطفال شيماء ابو صبيح من قرية الباط، والتي بلغت قصتها منصات إعلامية عالمية مثل الانتفاضة الرقمية[27]، والأكيد أن أطفالا كثيرين لم تصل قصصهم للإعلام، مثل قضية انتشار مرض الزُحار (الديزنطاريا) بين أطفال قرية عبدة عام 2004، والتي وثقتها المؤسسات الحقوقية، حيث انتشر الزُحار بين أطفال قرية عبدة بسبب فساد الطعام لانعدام الكهرباء لحفظه[28]. ولوحظ انتشار 20 حالة بين الأطفال خلال فصل الخريف وهو أمر غريب لأن الزحار ينتشر غالبا في الصيف[29]، ما يؤكد خطورة الفقر الطاقي على الصحّة العامة.
العدل الطاقي.. مسألة حياة أو موت!
قضية إيناس الأطرش لم تكن قصّة فريدة، فهي تجسيد لمعاناة مئات وربما آلاف أطفال النقب، وما يميّز هذه الحالة أنها وصلت إلى ما يُسمى "محكمة العدل العُليا" الإسرائيلية، حيث لم تجد إيناس عدلًا، بل وجدت قضاة يتمنون لها – بشكل مستفز- الشفاء، وكأن الأمنيات هي بديل الكهرباء التي تشغل جهاز تبريد حقن الدواء أو حتى بديل الحق الأساسي لطفلة مريضة بالسرطان. الحديث هنا لا يتعلق بالكهرباء لتشغيل أجهزة ترفيه (كما الحال في المزارع والكيبوتسات والمستوطنات اليهودية في النقب) بل لتشغيل جهاز للحفاظ على الأدوية من الفساد، ومع ذلك قررت المحكمة إلقاء اللوم على أهالي إيناس لإصرارهم على البقاء في أرض أجدادهم ورفض الانصياع لمخططات التهجير الصهيونية التي تحاول جذب المزيد من اليهود إلى النقب و"تكديس" العرب في مُدن فقيرة وهشّة.
قصّة إيناس تكشف بأن الحديث عن العمل من أجل العدل الطاقي ليس ترفًا مناخيّا ولا بيئيا، بل مسألة حياة أو موت.. كما هو الحال بالنسبة لإيناس وشيماء وغيرهما من أطفال النقب الذين يُعانون حتى اليوم من انعدام الأمن الطاقي.. والأمراض المزمنة والخطيرة التي تهدد حياتهم يوميا؛ وبالتالي أي جهد لتحقيق العدل الطاقي والاستدامة في إنتاج الطاقة، هو جهد عظيم ومطلوب، مهما بدا صغيرًا!
[3] Negev Coexistence Forum for Civil Equality. The Arab-Bedouins of the Naqab-Negev Desert in Israel: Report to the UN Committee on the Elimination of Racial Discrimination (CERD). Beer-Sheva: Recognition Forum & Physicians for Human Rights – Israel, May 2006
[6] عرب48، "مطالبة المحكمة العليا بربط بيت طفلة مريضة بالسرطان بالتيار الكهربائي"، 27.7.2005.
[12] Amara, A., Abu-Saad, I., & Yiftachel, O. (Eds.). (2012). Indigenous (in) justice: Human rights law and Bedouin Arabs in the Naqab/Negev (Vol. 4). Harvard University Press.
[14] חשמל לקירור התרופות? תחפשו במקום אחר https://www.haaretz.co.il/misc/2005-12-07/ty-article/0000017f-db1a-d856-a37f-ffda871d0000
[20] McKee, Emily. Dwelling in conflict: Negev landscapes and the boundaries of belonging. Stanford University Press, 2020.
[21] McKee, Emily. Dwelling in conflict: Negev landscapes and the boundaries of belonging. Stanford University Press, 2020
[24] Kattan, E., Halasah, S., & Abu Hamed, T. (2018). Practical Challenges of Photovoltaic Systems in the Rural Bedouin Villages in the Negev. J Fundam Renewable Energy Appl, 8(258), 2.
[25] Shapira, S., Shibli, H., & Teschner, N. (2021). Energy insecurity and community resilience: The experiences of Bedouins in Southern Israel. Environmental Science & Policy, 124, 135-143.
[28] للمزيد أنظر دراسة حول الأمن الغذائي في النقب: "في قريتنا نُولِّد الكهرباء باستخدام الألواح الشمسية، لكن الأمر مُشكِل إلى حدٍّ ما لأنّ الكهرباء في الواقع لا تتوفّر باستمرار وبانتظام. أعرف عائلاتٍ تبقى بلا كهرباء لساعاتٍ طويلة يومياً لأنها لا تستطيع تحمّل كلفة تركيب عدد كافٍ من الألواح لتوليد كهرباء لفترات أطول… في فترةٍ سابقة، حين لم يكن لديّ ما يكفي من الكهرباء، كنت أضطرّ إلى رمي كثير من الأطعمة السريعة التلف مثل الحُمّص والقِشطَة والحليب لأنها تحتاج إلى تبريدٍ طوال اليوم، ونتيجةً لذلك صرت أشتري طعاماً ليومٍ واحد فقط لتجنّب الهدر."
Food Insecurity in Bedouin Communities in the Negev-Naqab: Assessing The Multi-Dimensional Impact of Crises on the Most Vulnerable Israeli Citizens https://www.dukium.org/wp-content/uploads/2024/06/World-Food-Safety-Day-2024-NCF-Negabyia-ADVA.pdf
[29] أطباء من أجل حقوق الإنسان – إسرائيل. سلاح المياه: المياه، الدولة والقرى غير المعترَف بها في النقب. تل أبيب: أطباء من أجل حقوق الإنسان – إسرائيل، أيار/مايو 2006.