آخر قلاع الصمود في الأغوار الفلسطينية.. اقتصاد العائلة تحت الهجمة الاستيطانية
خاص بآفاق البيئة والتنمية
يأتي هذا التقرير ضمن سلسلة تقارير مجلة آفاق البيئة والتنمية حول منطقة الأغوار، والتي تستعرضُ أهم المشكلات التي يواجهها سكان هذه المنطقة الاستراتيجية، والتحديات السياسية والاقتصادية والبيئية، في محاولة لقراءة وفهم الواقع، على طريق وضع الاستراتيجيات والخطط التي تناسبها. نناقشُ في هذا التقرير الأثر التدميري على اقتصاد العائلة، الذي يشكل الاقتصاد الجمعي والتاريخي لسكان منطقة الأغوار. حيث نستعرض أهم الأشكال الاقتصادية التي يعتمد عليها سكان الأغوار تاريخياً، وطرق الحفاظ عليها وحمايتها رغم المهددات المتنوعة. كما نستعرضُ الأثر المباشر وغير المباشر للهجمات الاستيطانية المستمرة منذ سنوات طويلة، والمتمثلة في القرارات الحكومية الإسرائيلية لضم وتوسعة المستوطنات، وكذلك الأثر الكارثي على الاقتصاد الفردي والوطني والتعقيدات التي خلقتها سياسة اليمين الإسرائيلي، والمطبقة على الأرض من خلال عصابات المستوطنين الإسرائيليين المتطرفين.
|
|
التخريب الإسرائيلي لمضارب البدو في الأغوار الفلسطينية |
بحكم طبيعتها البيئية والمناخية التي ذكرناها في تقاريرنا السابقة، تعتمد منطقة الأغوار تاريخياً على الزراعة بشكل أساسي. حيث تتميز المنطقة بخصوبة تربتها وتوفر المياه للزراعة والشرب، وتعدد مصادر المياه. إضافة إلى ذلك الخبرة الكبيرة التي اكتسبها سكان الأغوار الفلسطينيين الذين واظبوا على زراعة أرضهم لعقود طويلة، وتمكنوا أيضاً من تصدير منتوجاتهم إلى دولٍ عربية مجاورة.
إضافة إلى ذلك، تميزت الأغوار بغزارة إنتاجها الحيواني وتنوعه، إذ أن غالبية سكان الأغوار هم من اللاجئين الفلسطينيين البدو الذين حافظوا على ثقافتهم البدوية التي يعد الاقتصاد الرعوي أهم مكوناتها الثقافية والاقتصادية الاجتماعية ومصدرا أساسيا لدخلهم.
راكم سكان الأغوار لعقود طويلة خبرة واسعة في المجالات الزراعية المتنوعة، وحافظوا على الأرض التي أصبحت محط أطماع الاحتلال الإسرائيلي؛ لهذا استهدف الأخير الاقتصاد الفردي المحلي لسكان الأغوار، حيث فرض حصاراً دام لسنوات على مربي الثروة الحيوانية والمزارعين الفلسطينيين الذين اعتادوا فلاحة الأرض وزارعة السهول الخصيبة في مواسم العام المختلفة ببراعة عالية.
كما فرض الاحتلال طوقاً خانقاً على المدخلات الزراعية، ومنع الاستيراد أو التصدير أو الاختلاط بالسوق المحلي للمدن المختلفة. استمر هذا الحصار منذ أواخر حزيران عام 1967 حتى منتصف عام 1973 كما يقول بعض سكان الأغوار ممن عايشوا هذه المنطقة.
يقول الحاج محمد زبيدات "أبو أيمن" إن الاحتلال فرض الحكم العسكري على سكان قرية رأس العوجا والمناطق المحيطة. ويتابع: "كانوا يمنعون التجول يوميا ابتداء من الساعة السادسة مساء حتى السادسة صباحاً. كما فرضوا قيوداً مشددة على المواطنين لتعطيل وصولهم إلى أراضيهم الزراعية. إضافة إلى كل ذلك كانت عملية التسويق أمراً في غاية الصعوبة، ويجب أن يمر بسلسلة من الإجراءات الصعبة."
ويضيف: "كان العديد من سكان العرب (القرية) يمتلكون الأغنام، لكننا اضطررنا لبيعها بسبب صعوبة إيجاد المراعي والإجراءات العسكرية وفرض الغرامات المالية الكبيرة."
نواة لبؤرة استيطانية مطلة على قرية فصايل الفوقا وسط الأغوار
في شهادته على هذه المرحلة يقول السيد جلال رشيد من سكان رأس العوجا وأحد كبار مربي الثروة الحيوانية "فرضوا علينا ما كانوا يسمونه مصادرة الأغنام، ووضعها في (الكرنتينة) – والمقصود هنا المستوطنات والمعسكرات الإسرائيلية القريبة -. حيث كانوا يصادرون الأغنام بحجة الرعي في مناطق عسكرية أو تهديد سلامة الجنود ووضعها في (الكرنتينة) ولا يمكننا أن نخرجها إلا بدفع غرامات عالية جداً، كانت تتجاوز 14 ديناراً للرأس الواحد أحياناً."
تعود اليوم ذات السياسة الإسرائيلية مجددا بأكثر شراسة وقسوة، مهددة أي تطور لقطاعي الزراعة سواء زراعة المحاصيل أو الثروة الحيوانية.
وثقت المؤسسات الحقوقية سواء الدولية أو الفلسطينية أو حتى بعض الإسرائيلية مئات الانتهاكات المباشرة شديدة الإيذاء التي مارسها المستوطنون في الأغوار، بدعم وتشجيع مادي وأمني من قبل الجهات الرسمية والحكومية الإسرائيلية.
|
|
بؤرة استيطانية في الأغوار |
حرق مضارب البدو في الأغوار الفلسطينية |
تدمير الاقتصاد الأسري
بعض الحالات الموثقة تثبت أن الهجوم على اقتصاد العائلات الفلسطينية هو مشروع متكامل تعمل عليه المؤسسة الإسرائيلية الرسمية لطرد السكان والإجهاز على أي شكل من أشكال الصمود، وأهمها قوت اليوم.
وفي حادثة غير مسبوقة في الثاني والعشرين من كانون ثاني الماضي، بدأ ما يسمى المجلس الإقليمي للمستوطنات (بكاعوت هيردين) بفرض الغرامات المالية الباهظة على مربي الثروة الحيوانية من خلال مصادرة الأبقار والأغنام وإجبار العائلات على دفع مبالغ طائلة للإفراج عنها كما حدث مع عائلة "دعيس" جنوب قرية الجفتلك حينما صُودِرَت المئات من أغنامهم وإجبارهم على دفع مبلغ (150) ألف شيكل لاستردادها من المجلس الإقليمي للمستوطنات.
وفي مطلع شباط الماضي صادرت الشرطة الإسرائيلية، بتحريض من المستوطنين، (100) بقرة لمربي الأبقار قدري دراغمة (58) عاماً من سكان الأغوار الشمالية، اعترفت (الشرطة) بثلاثين منها فقط. حيث أشار دراغمة: "المستوطنون يلاحقوننا طوال الوقت، والشرطة والجيش يعملون عندهم. ودائماً تبدأ المعركة مع المستوطنين، ثم تنتهي بأن يصادر الجيش أو الشرطة أغنامنا أو أبقارنا أو منعنا من الرعي في المناطق الجبلية الخصبة. ليس هذا فقط، بل يفسحون المجال للمستوطنين الذين يأتون مع أبقارهم وأغنامهم."
في وقت لاحق اضطر قدري دراغمة على دفع حوالي (50) ألف شيقل لاستعادة أبقاره، لأنه إن لم يفعل ذلك سريعاً، فسيُجبر على دفع (15) شيقلا إضافيا عن البقرة الواحدة كل يوم مقابل (أرضية) في بركسات الاحتلال.
|
|
مستوطن يحمل السلاح أثناء اقتحام نبع العوجا مع المئات من المستوطنين الاخرين |
مستوطن يرعى الأغنام في المنطقة الجنوبية للتجمع البدوي (عين رأس العوجا) ومنع الرعاة الفلسطينيين من الوصول اليها |
"محمد رشايدة" من سكان قرية فصايل الفوقا، أشار في لقائه مع مجلة آفاق إلى أنه كان مضطراً لبيع أغنامه البالغ عددها 150 رأسا، لعدم مقدرته على إطعامها. "في البداية منعونا من الوصول إلى نبعة فصايل وهي مصدر المياه الرئيسي لري الأغنام. وكنا ننقل المياه منها أيضاً عبر الصهاريج المتنقلة. لكن، منذ حوالي عام بدأ حارس مستوطنة "بتسائيل" بالتضييق علينا، ثم بعد ذلك نصبوا بوابة معدنية، ومنعونا من التواجد هناك بعد الساعة السابعة مساء. كذلك منعوا أبناءنا من التواجد مع الأغنام في تلك المنطقة" يقول رشايدة.
تأتي هذه الممارسة الإسرائيلية، والتي تشبه إلى حدٍ بعيد ما حدث مع سائر مناطق الأغوار – كمرحلة أولى "لجس نبض" رد فعل المواطنين،إثر منعهم من الوصول إلى مصادر المياه. ثم بعد ذلك تأتي خطوة أخرى لتزيد التضييق على السكان الفلسطينيين.
يضيف رشايدة: "منذ بداية الحرب في تشرين أول الماضي، أصبح شبه مستحيل الوصول الى الجبال مع الأغنام. المستوطنون يهجمون علينا، ويضربوننا ويسرقون أغنامنا أو يطلقون النار علينا من بعيد وأحياناً على الأغنام، لترهيبنا ومنعنا من الوصول الى المراعي الطبيعية. كما قاموا ببناء عدة اكواخ على رؤوس الجبال وفي مناطق مطلة على بيوتنا وقريتنا."
"أفضل أن أبيع الأغنام وأبحث عن مصدر رزق آخر، كي لا أخسر أبنائي أو حياتي من قبل المستوطنين في سبيل الوصول الى المراعي التي كنا نرعى بها منذ عشرات السنين بكل أمان وحرية" يختم رشايدة.
|
|
حرق وتخريب مضارب البدو في الأغوار الفلسطينية |
عشرات المستوطنين يقتحمون نبع العوجا للاستجمام ويطردون المواطنين الفلسطينيين |
مثال محمد رشايدة يعبر عن قسم كبير من المشهد في الأغوار، ما يفاقم الأزمة الاقتصادية للعائلات الفلسطينية في الأغوار. كما يفاقم الضغط الاقتصادي على الحكومة الفلسطينية والجهات التي يفترض بها إيجاد بديل للسكان، سواء عبر توفير بدائل للمراعي أو بدائل للمنتجات الفلسطينية التي قد تُسْتَبْدَل بالمنتجات الإسرائيلية، ما يعني مزيداً من البطالة للنساء ومزيداً من العمالة الفلسطينية الذكورية في السوق الزراعي الإسرائيلي، علما أن قسما كبيرا من نساء الأغوار الفلسطينيات (ما لا يقل عن 1500 امرأة) يعملن في مجال تربية ورعاية الحيوانات، فضلا عن المساهمة الكبيرة في توفير الحليب ومشتقاته. كما تفاقم هذه الحالة ازمة التصدي لدخول المنتجات الإسرائيلية الى السوق الفلسطيني، وبالتالي حرمان المزيد من المصانع الفلسطينية فرص العمل التي توفرها لألاف الفلسطينيين.
كما تعاني منطقة "عين رأس العوجا"، شمال غرب مدينة أريحا، من أزمة كبيرة منذ أحداث السابع من أكتوبر. إذ ازدادت وتيرة هجمات المستوطنين على السكان الفلسطينيين، كان آخرها حرق لمنازل وخيام وبركسات تابعة لعائلات الرشايدة والغوانمة"
"هجموا على بيوت آل النجادة الموجودة في الوادي وكأنهم ينقضون على فريسة، حرقوا البيوت كلها وحاولوا التقدم أكثر الى بقية التجمع الا أن تجمهر الأهالي وقدوم الشرطة الإسرائيلية أوقف ذلك" يقول داوود طريف.
بينما يضيف "علي أبو خربيش" احد سكان المنطقة: " يعتدون علينا باستمرار وبدأوا ببناء بؤر استيطانية على التلال كلها في الجبل المحاذي لنا. ومنذ بداية الحرب في تشرين أول الماضي، ازدادت الهجمات، والان يريدون السيطرة على نبع العوجا مصدر مياهنا الوحيد. في حال مصادرتهم النبع ومنعنا من الوصول اليه بشكل نهائي، فإن وجودنا في هذه المنطقة سيصبح مستحيلاً."
من الواضح أن الخطوة الإسرائيلية القادمة في الأغوار هي مصادرة نبع العوجا. هذا ما عبر عنه وزير المالية الإسرائيلي "سموتريش" في زيارته لنبع العوجا في نيسان الماضي برفقة وزيرة البيئة عيديت سيلمان. حيث أكد تخصيص الموازنات الكبيرة لصالح الأغوار. بينما قالت الوزيرة: "هذه الموازنات ستصب في مجال المسح للإعلان عن أراضي دولة أو في مجال زيادة مناطق نفوذ المستوطنات ومخططات البناء الهيكلية وفي تنظيم المحميات الطبيعية ومصادر المياه والجولات السياحية وتطبيع الحياة هناك."
|
|
مستوطن يعمل على نقل أغنام وطعام في محاولة لبناء بؤرة استيطانية قرب نبع العوجا - تم طرده لاحقاً |
مستوطنون يستجمون في نبع العوجا على حساب الوجود الفلسطيني |
الاستفراد بفلسطينيي الأغوار
سياسة الاستفراد بفلسطينيي الأغوار أصبحت هي السياسة الرسمية التي ينتهجها الاحتلال من خلال أدوات عديدة أهمها المستوطنون عبر انشاء البؤر الاستيطانية الرعوية. كذلك من خلال الهجمات المتكررة على السكان ومصادرة مصدر دخلهم الوحيد أو جعل الحياة مستحيلة في هذه المنطقة. كما يعمد الاحتلال إلى تهديد اقتصاد العائلات بشكل مباشر دون رحمة.
تستدعي هذه السياسة التدخل الفوري من كافة الجهات المعنية، وبخاصة الجهات الدولية؛ إذ أن استمرارها يعني القضاء الكامل على الوجود الفلسطيني في الأغوار من خلال خنق الاقتصاد المحلي الرعوي، تماماً كما تم خنق الاقتصاد الزراعي في الأغوار ومصادرة الأراضي ومصادر المياه.
يفترض بالسلطة الفلسطينية، باعتبارها مسؤولة عن الشعب الفلسطيني، أن تتحرك بكافة الاتجاهات السياسية وتدعم فلسطينيي الأغوار. على أن تكون الأولوية في هذه المرحلة للتحركات الدولية ومقاضاة الحكومة الإسرائيلية وعتاة مستوطنيها أمام المحاكم الدولية.
كما على كافة النشطاء ومناصري الشعب الفلسطيني التحرك أمام المحاكم في دولهم لفرض العقوبات على مجموعات المستوطنين والجهات التي تمولهم وتدعمهم.
الى جانب هذا التحرك السياسي الهام، يجب على الحكومة الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني تكثيف تدخلاتها الاغاثية والتنموية العاجلة في مجالات الزراعة والثروة الحيوانية وتطوير مصادر المياه للتجمعات البدوية الفلسطينية في الأغوار.
كما يجب تعزيز وتمتين روابط الاقتصاد المحلي والعائلي من خلال الدعم المباشر للعائلات الفلسطينية في الأغوار، لبناء وتطوير اقتصادها الأسري الخاص القائم على الزراعة والثروة الحيوانية، باعتباره من أهم أشكال الصمود والبقاء في الأرض.
وزير المالية الاسرائيلي سموتريتش وعدد من وزراءه أثناء زيارتهم لنبع العوجا في الأغوار في نيسان الماضي