خاص بآفاق البيئة والتنمية
يُبْنَى مستقبلنا بشكل أساسي على عاداتنا اليومية التي قد تقودنا إلى حياة صحية سعيدة، وربما إلى حياة بائسة مليئة بالأمراض. في عصرنا الحاضر، تتفشى العديد من الأمراض المزمنة التي زادت وتيرة انتشارها بنسب كبيرة مقارنة بالماضي، فأصبحنا نسمع عن الكثير من حالات أمراض القلب والسكتة الدماغية، والسكري والاكتئاب والتهاب المفاصل والسرطان بأنواعه، والعديد من الأمراض الأخرى. نستطيع القول بثقة إن مسببات معظم هذه الأمراض مرتبطة بالأنماط المعيشية للأشخاص الذين يعانون منها أو بجينات معينة ورثها هؤلاء الأشخاص عن آبائهم أو أجدادهم. الأمر الجيد هو أنه عند إحداث تغيير جذري في نمط الحياة يستطيع الشخص علاج العديد من هذه الأمراض أو التخفيف من حدة أعراضها، والأهم من ذلك الوقاية منها لمن تزداد لديه فرص الإصابة بها بسبب عامل الوراثة. يعرفنا هذا المقال على العادات الشائعة المتبعة لدى الناس الأطول عمراً، أو الأشخاص المعمرين. أعداد الأشخاص المعمرين في العالم في ازدياد، لكنهم موزعين بشكل عشوائي في أغلب الدول الصناعية.
|
|
طريقة حياة المجتمعات المعمرة والمبادىء الحياتية الخاصة بها |
عاداتنا اليومية هي الأساس الذي يبنى عليه مستقبلنا، وهي سلاح ذو حدين، فقد تقودنا إلى حياة صحية سعيدة، وربما إلى حياة بائسة مليئة بالأمراض. في يومنا هذا، هناك العديد من الأمراض المزمنة التي زادت وتيرة انتشارها بنسب كبيرة مقارنة بالماضي، فأصبحنا نسمع عن الكثير من حالات أمراض القلب والسكتة الدماغية، والسكري، والاكتئاب، والتهاب المفاصل، والسرطان بأنواعه، والعديد من الأمراض الأخرى.
أستطيع القول بثقة إن مسببات معظم هذه الأمراض مرتبطة بالأنماط المعيشية للأشخاص الذين يعانون منها، أو بجينات معينة ورثها هؤلاء الأشخاص عن آبائهم أو أجدادهم. الأمر الجيد هو أنه عند إحداث تغيير جذري في نمط الحياة يستطيع الشخص علاج العديد من هذه الأمراض أو التخفيف من حدة أعراضها، والأهم من ذلك الوقاية منها لمن تزداد لديه فرص انتقالها بسبب عامل الوراثة.
تتوافق هذه الأفكار مع ما يعرف بالطب الوقائي، لضمان القضاء على المرض، إما عن طريق منع فرص حدوثه، أو عن طريق وقف المرض وتخفيف المضاعفات الناتجة عن ظهوره. بالعادة، يتم النظر للطب الوقائي على أنه عمل مفيد صامت وأمر مفروغ منه، بالأخص في المجتمع الغربي الذي تتوفر لديه سبل العيش الصحي بشتى أنواعها.
مع أن الطب -بشكل عام- تطور، ما مكن الإنسان من يعيش لفترات أطول مما سبق، إلا أن الكثير من الأشخاص يجدون أنفسهم يعانون من أمراض مزمنة استطاع الطب الحديث أن يتحكم بأعراضها إلى حد ما، ولكن بنفس الوقت جعل فترة العلاج المزمنة فترة تخلو من الحرية والاستقلالية والسعادة، بل مملوءة بالقلق والتوتر والاعتمادية على أنظمة صحية ذات أسعار عالية متزايدة. وبالفعل فإن تريليونات الدولارات يتم صرفها على الأنظمة الصحية، خصوصاً في الدول الغربية، والتي يذهب معظمها لمعالجة الأمراض المزمنة.
أغلب الناس الذين يعانون أمراضاً مزمنة تكون فاقدة للأمل بالعلاج الجذري وتكون مستسلمة للأعراض، كون هذه الأمراض ستبقى مرافقة لها طوال حياتها، وهذا الأمر يجعل من الصعب على هؤلاء الأشخاص أن يحدثوا تغييراً في أنماط حياتهم من أجل تغيير هذا الواقع. إذا تم التعامل مع الجسد كأنه معبداً يحتوي على الروح والعقل، وأن علينا الاهتمام به ومعاملته بقدسية من أجل أن ينمو ويقوى، فإن جميع المعادلة يمكن أن تتغير بالنسبة للأمراض.
معظم طلاب الطب بالكاد يتعلمون عن دور التغذية والتمرين الجسدي واليقظة الذهنية والتأمل والتدريب المعرفي والنوم الصحي، في منع ومعالجة العديد من الأمراض المزمنة، عدا عن أن الطب الحديث لا يتطرق نهائياً لأهمية المشاعر والصحة النفسية في تحفيز الأمراض أو علاجها، وكيفية تأثير العادات الصحية على معدلات الأعمار في المجتمعات.
في هذا المقال، سنتعرف على العادات المتبعة الشائعة لدى الناس الأطول عمراً، أو الناس المعمرة على الكرة الأرضية. أعداد المعمرين في العالم في زيادة، لكنهم موزعين بشكل عشوائي في أغلب الدول الصناعية. قام العالم لويجي فونتانا بدراسة معمقة لهؤلاء المعمرين. وفي كتابه "الطريق للعمر الطويل"، يبين لنا كيفية الوصول لعمر 100 عام بصحة تضاهي صحة الأشخاص في عمر الأربعين.
قام فونتانا بدراسة المناطق القليلة في العالم التي يبدو أن أغلب سكانها يعيشون مدة أطول من المتوسط العالمي، مثل جزيرة أوكيناوا في اليابان، وبعض المناطق في جزيرة سردينيا، ومنطقة "سيلنتو" وإقليم "كالابريا" في إيطاليا، ونقل لنا في كتابه بعضاً من أسرار هؤلاء السكان. تشير الأبحاث إلى أن سكان هذه المناطق، لا يعيشون فقط لسنوات طويلة، إنما يمضون أغلب هذه السنوات بصحة ممتازة.
معمرة عمرها 100 سنة
نمط حياة متشابه للناس الأطول عمراً
يتشارك سكان هذه المناطق الجغرافية بصفات معينة منها: نظام غذائي مقتصد يعتمد بشكل رئيس على الأغذية النباتية، والنشاط البدني المستمر، والارتباط القوي بالعائلة والأصدقاء والمجتمع، وهدف نبيل في الحياة مدفوع بمجموعة من القيم الروحانية. لنقرب العدسة قليلاً على كل من هذه المجتمعات حتى نأخذ نبذة بسيطة عن أسلوب حياة كل منها.
أوكيناوا
تقع جزيرة أوكيناوا على بعد 640 كم تقريباً إلى الجنوب من اليابان، بين بحر الصين الشرقي والمحيط الهادئ. سكان الجزيرة هم الأقدم في العالم. وفقاً لتعداد أنجز عام 2006، كانت نسبة المعمرين في الجزيرة تساوي 45 معمراً تقريباً لكل 100 ألف شخص بما يساوي 650 معمراً. هذه النسبة أكثر بأربع أو خمس مرات من العديد من الدول الصناعية. هؤلاء المعمرون لا يعيشون فقط سنوات طويلة، بل يعانون من جزء بسيط جداً من الأمراض الشائعة في الدول الأخرى، ويعيش ثلثاهم بشكل مستقل حتى عمر الـ 97.
لننظر إلى العادات الغذائية لهؤلاء المعمرين. سُجل في عام 1950 أن سكان أوكيناوا يستهلكون 1785 سعرة حرارية في اليوم، بنسبة 14% أقل من سكان اليابان بشكل عام في ذلك الوقت، وأقل بنسبة 50% من سكان الولايات المتحدة الأميركية في الفترة نفسها. كان استهلاكهم للبروتين أقل أيضاً ومن مصادر مختلفة، فطعامهم كان يتكون بالأغلب من فول، وحبوب كاملة، وسمك، على العكس من الأميركي الذي كان يستهلك مخزونه من البروتين من اللحوم، والبيض ومنتجات الألبان. كان النظام الغذائي لسكان الجزيرة قبل وصول الأميركان في نهاية الحرب العالمية الثانية يتكون من البطاطا الحلوة بنسبة 50% من السعرات اليومية. والبطاطا الحلوة البنفسجية (Ben Imo)، أو البطاطا البرتقالية (Satsuma Imo) المليئة بفيتامين أ، وسي، وبي 6، والمنغنيز ومضادات الأكسدة الأخرى، مثل "الأنثوسيانين"، وهي نفس الأصباغ التي تعطي التوت لونه. يبدأ معمرو جزيرة أوكيناوا بشكل خاص كل وجبة بحساء "الميسو" المملوء بالتوفو والأعشاب البحرية والمصحوب بكميات كبيرة من الخضراوات والملفوف والبصل والحنظل (البطيخ المر)، والجذور البرتقالية والصفراء (الجزر، القرع، الكركم)، وهذه الخضراوات كان يتم حصادها من الحدائق الواسعة الموجودة في أفنية بيوت هؤلاء الأشخاص.
ومع أن الجزيرة محاطة بالمحيط وهناك وفرة الأسماك، إلا أن استهلاكهم له كان بمقدار 1-2 وجبة أسبوعياً. أما بالنسبة للتحلية، فكانت تعتمد على فواكه محلاة مصحوبة بكأس شاي الياسمين الساخن. من الجدير بالذكر أنه مع قدوم الأميركان ووجود قاعدة عسكرية أميركية كبيرة في الجزيرة، فإن العادات الغذائية لسكان هذه الجزيرة تأثرت بالغرب، وأصبح العديد من السكان يعانون زيادة في الوزن، وهذا يعرضهم لفئات أمراض مرتبطة بهذه الزيادة أكثر من ذي قبل.
|
|
البطاطا البرتقالية |
البطاطا الحلوة البنفسجية |
طبيعة المعيشة الخاصة بهؤلاء السكان ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمناخ في أوكيناوا، فالطقس دافئ ومشمس في أغلب الأحيان، ولذلك تقضي النساء والرجال أغلب أوقاتهم في الخارج، يمشون ويعملون في الحقول، ويأمنون بأهمية زراعة الأرض وحصادها ودورها في تحسين الصحة. الكبار في العمر يزورون حدائقهم على الأقل ثلاث مرات في اليوم ويسعدون برؤيتها مثمرة. بالإضافة إلى ذلك، فإن معظم سكان الجزيرة يشاركون في نوع من الرقص المحلي، ويمارسون الفنون القتالية مثل الكاراتيه والكوبودو، وهذه الفنون تقوي الجسم والصحة بشكل عام.
جزيرة سردينيا وجنوب إيطاليا
التعداد السكاني لعام 2015 يكشف عن وجود 50 معمراً لكل 100 ألف شخص من سكان القرى الجبلية لمقاطعة "أوليسترا" على جزيرة سردينيا، وهذا رقم عال جداً. هذه الجزيرة موطن الأشخاص الأطول عمراً في العالم. بالعادة تكون نسبة المعمرات الإناث مقابل المعمرين الذكور 1:4، لكن في هـذا المكان فهي 1:1. المثير للاهتمام، أن هؤلاء المعمرين ورغم أعمارهم الكبيرة، إلا أنهم يتمتعون بلياقة بدنية عالية، وعقول حادة وابتسامات معدية. يشترك هؤلاء الأشخاص بالصفات الآتية:
- نظام غذائي نباتي يتكون من خضراوات، وحبوب كاملة، وبقوليات، وكميات قليلة من جبنة الماعز المحلية.
- استهلاك متقطع للحوم، بالعادة في أيام الأحد أو في مناسبات معينة.
- حياة خارجية نشطة بدنياً مع المشي لمسافات طويلة لرعاية الأغنام، والعمل اليدوي في الحقول.
- مزاج هادئ ورحيم وحساس للتدفق الطبيعي للحياة.
- حياة غير مضطربة تتميز بروابط أسرية قوية جداً مع عائلات ممتدة تتكون من الأجداد الكبار والآباء والأبناء والأحفاد الذين يعتنون ببعضهم البعض.
لا يقتصر وجود المعمرين على جزيرة سردينيا، بل هناك العديد من القرى في جنوب إيطاليا التي يزداد فيها عدد المعمرين، وفي جميع هذه الاماكن يتشارك الناس بنظام غذائي خاص بالبحر الأبيض المتوسط، الذي هو في أساسه نباتي.
"عش حتى 100: أسرار المناطق الزرقاء"
على غرار كتاب فونتانا، أصدر الكاتب دان بوتنر مسلسلاً وثائقياً، بعنوان: "عش حتى 100: أسرار المناطق الزرقاء"، عرض فيه خمسة مجتمعات فريدة يعيش فيها الناس حياة طويلة ونابضة بالحياة بشكل غير عادي. الرسم البياني أدناه يبين لنا بشكل مختصر طريقة حياة هذه المجتمعات والمبادئ الحياتية الخاصة بها، وهي باختصار: آفاقهم الحياتية تتمثل بوجود إيمان ثابت. وهدف في الحياة ومجال دائم للاسترخاء. يتحركون دوماً بتوافق مع الطبيعة ويعملون في الحديقة. ويقومون بأعمالهم بأيديهم. وأخيراً، فإنهم يأكلون باتزان وحكمة، ومعظم طعامهم نباتي.
[o41] المجتمع الفلسطيني وعاداته الغذائية
المجتمع الفلسطيني التقليدي (قبل استعماره) لديه العديد من خصائص المجتمعات المعمرة آنفة الذكر، وهو بالأساس مجتمع زراعي في أغلبيته، والنسبة الباقية هم سكان مدن أو مجتمع رعوي (بدو)، وجميعهم كانوا يعتمدون على النباتات في معيشتهم، فهي كانت مصدر غذائهم الأساسي، وهناك علاقة حب وتفاعل مستمرة بين الفلسطيني وبيئته، وهناك علاقات اجتماعية قوية تربط أفراد المجتمع الفلسطيني بعضهم ببعض. فضلاً عن ذلك، فإن العادات الغذائية الخاصة بالمجتمع الزراعي بالأخص كانت دائماً مرتبطة بمواسم الإنتاج، ولم يكن بالإمكان تناول العديد من الأطعمة في غير مواسمها.
كان بائع الحليب (أو بائعة الحليب) يطرق الأبواب صباحاً لبيع الحليب الطازج. وكان المجتمع الرعوي يعتمد في غذائه الأساسي على منتجات المواشي والابقار والإبل في صنع الألبان والأجبان والسمنة البلدية ولبن الجميد ولبن الكشك، ويخزن جزء منها كمونة لفصلي الخريف والشتاء. كل موسم وكل مدينة أو قرية في فلسطين، كانت تشتهر بأصناف مميزة وعادات مميزة. كان سكان البادية -على سبيل المثال- ينتظرون سقوط الأمطار من أجل الحصول على النباتات البرية الموسمية، مثل: العكوب والخبيزة واللوف والهندباء. ويشربون الأعشاب المختلفة، مثل: الميرمية والزعتر والجعدة. والبادية المحيطة بالخليل كان يزرع أهلها الحبوب، مثل: القمح والشعير والكرسنة والعدس.
المجتمع الفلسطيني التقليدي غني بالعادات الغذائية والثقافية، ومن يتعمق فيه يدرك كنزاً من مبادئ الحياة، التي من شأنها أن تطيل العمر على غرار المجتمعات المعمرة التي ذكرناها. وما ذكر هنا ما هو إلا لمحة بسيطة عن تميز المجتمع الفلسطيني في العديد من مناحي الحياة، ولولا منغصات الاستعمار لربما كان محافظاً على هذه العادات حتى يومنا هذا.
المصادر:
* البطمة، نادية. ٢٠١٢. فلسطين: الفصول الاربعة عادات وتقاليد ومواسم. مركز القدس للإعلام والاتصال.
* E.A. Clarke. 1974. What is preventive medicine? Can Fam Physician 20 (11): 65- 68.
* Fontana, L. 2020.The path to longevity: How to reach 100 with the health and stamina of a 40 year old. Hardie Grant Books.
* Live to 100: Secrets of the blue zones. Directed by Clay Jeter, performed by Dan Buettner and Marion Nestle, 2023. Netflix, https://www.netflix.com/il-en/title/81214929
[o41]الصورة غير واضحة. أعتقد أنها غير صالحة للنشر