خاص بآفاق البيئة والتنمية
الوصول إلى حالة الاكتفاء الذاتي على المستوى الفردي أو المجتمعي ليس سهلاً، لكنه ممكن وقد يحتاج تحقيقه سنوات عديدة وتكثيف الجهود على عدة مستويات، بالإضافة إلى إحداث تغيير جذري في نمط الحياة الحالي لمعظم الشعوب المواكبة لنمط الحياة السريع والاستهلاكي. لكن، عند تحقيقه فهو بمثابة قارب نجاة يضمن استمرارية الأقوام والشعوب في عالم تسيطر عليه المصالح الشخصية والسياسية والاقتصادية والطمع والجشع، على حساب مبادئ الإنسانية والكرامة. |
|
|
منذ أزل التاريخ، يسيطر الاقتتال على الأرض ومواردها الطبيعية على العلاقات البشرية بين العديد من الأقوام، وانتصار القوي على الضعيف ليس بالأمر الجديد. حتى في حالات الكوارث الطبيعية، فإن البقاء يكون للأقوى وللأكثر استعداداً. عامنا المنصرم كان حافلاً بالأحداث، مثل الكوارث الطبيعية، وبالأخص الزلزال الذي ضرب مناطق عديدة في مطلع العام الماضي، أو الحرب الإسرائيلية على غزة، أو الحروب الدامية سواء الأهلية أو الإقليمية. وجميع هذه الأحداث والثقل الجمعي الذي رافقها أحدث تغييراً هائلاً في نفوس الناس، مروراً بالأوضاع الاقتصادية، ووصولاً إلى العلاقات العالمية والوعي الجمعي العالمي. ماذا يعني البقاء للأصلح والأكثر استعداداً في وقتنا الحالي؟
"البقاء للأصلح"، عبارة شهيرة تنسب بشكل غير صحيح لعالم الطبيعة البريطاني تشارلز داروين، وتعني أن الكائنات الحية التي تتكيف بشكل أفضل مع بيئتها هي الأكثر نجاحاً في البقاء والتكاثر. الحقيقة أن داروين استعار هذا المصطلح من عالم الاجتماع والفيلسوف "هربرت سبنسر" الذي صاغ هذه العبارة رداً على قراءته كتاب داروين "أصل الأنواع". عالم الطبيعة "ألفريد راسل والاس" الذي تطابقت نظريته تقريباً حول ميكانيكية التطور مع نظرية داروين، انتقد استعمال الأخير مصطلح "الانتقاء الطبيعي"، وناشده لاستعمال مصطلح " البقاء للأصلح" بدلاً منه، وبالتالي أصبح داروين يستخدم هذا المصطلح، ولكن لم يتخل عن "الانتقاء الطبيعي"، بحيث رآه مرادفاً لـ "البقاء للأصلح".
في ظل ما تشهده المنطقة، ماذا تعني الاستعدادية والتكيف مع البيئة، وبالأخص في ظروف الحرب وفي المناطق التي تشهد صراعات سياسية بشكل دوري؟
هناك العديد من الطرق التي يستطيع الإنسان الاستعداد من خلالها لتداعيات الحرب المختلفة:
الاستعداد الفيزيائي أو الجسدي، هو من أهم الأمور التي يجب أن يلتفت لها البشر عند بدء أي نزاع أو المعرفة باحتمالية حدوث حرب على المستوى المحلي أو الإقليمي. والاستعداد الفيزيائي له عدة جوانب تتضمن: تخزين المواد الغذائية غير القابلة للتلف والمياه والإمدادات الطبية وغيرها من العناصر الأساسية التي يستطيع الشخص إعالة نفسه وعائلته بها. وإنشاء مأوى آمن ومجهز بشكل جيد وتحصينه ضد المخاطر المحتملة، ولا يضر تعلم تقنيات البناء والتحصين الأساسية. وتطوير مهارات البقاء على قيد الحياة مثل إشعال النار والصيد والإسعافات الأولية التي يمكن أن تنقذ الحياة أثناء وقوع الكارثة. إلى جانب الاستثمار في أجهزة الاتصالات التي يمكنها العمل أثناء انقطاع التيار الكهربائي وانقطاع الشبكة، ومن المفضل تجهيز النفس بمعدات حماية مناسبة مثل الأقنعة الواقية من الغازات وأجهزة الكشف عن الإشعاعات التي يمكن أن تحمي من أخطار معينة خلال الحرب.
الاستعداد النفسي، أمر لا يقل أهمية عن الاستعداد الفيزيائي ويتضمن الآتي: الحفاظ على عقلية قوية وإيجابية خلال الأوقات الصعبة، وتدريب النفس على التركيز والهدوء والقابلية للتكيف عند الشدائد. وتعلم تقنيات تخفيف التوتر مثل اليقظة والتنفس العميق والتأمل، وتجهيز النفس عاطفياً لفترات عزلة محتملة، والبحث عن طرق لإشغال النفس، والتكيف مع الظروف الجديدة وقبول التغيير والمرونة في تبني طرق جديدة للحياة.
وجود عقيدة دينية أو روحانية معينة وقوية للأشخاص، تساعد كثيراً في مثل هذه الحالات، فالإيمان بوجود قوة أكبر منا في مثل هذه الظروف التي بيدها إحداث تغيير بمجريات الأمور، والصبر ووجود حكمة ورسالة من وراء أحداث ظلامية مثل الحرب يساعد الأشخاص في المرور بفترة الحرب بأضرار نفسية أقل، أو قدرة وسعة أكبر لتجاوز مجريات الحرب.
الاستعداد المعلوماتي، ويتمثل بالبقاء على اطلاع دائم على الأحداث العالمية، ما قد يساعد في اتخاذ قرارات واعية مستنيرة أثناء الأزمات. معرفة كيفية الوصول والتجهيز لمصادر الطاقة البديلة، مثل الألواح الشمسية والمولدات التي يمكن استخدامها في حال فشل شبكة الكهرباء هو ضرورة ملحة في وقتنا هذا، سواء في حالات الحرب أو السلم. دراسة الحروب والصراعات السابقة مفيدة للتعلم منها ومن أنماط السلوك البشري خلال الحروب. والأهم من ذلك كله تحديد أماكن وجود الموارد الحيوية، مثل المياه والغذاء في المناطق المجاورة.
الاستعداد العملي يتضمن تلقي تدريبات في الدفاع عن النفس، وبناء شبكة أمان مالية لمواجهة عدم الاستقرار الاقتصادي، وتنويع الاستثمارات وإبقاء أموال للطوارئ، وإقامة العلاقات مع المجتمع المحلي والجيران من أجل تعزيز الدعم المتبادل. قد يتضمن الاستعداد العملي أيضاً إجراء تدريبات منتظمة للعائلة على الكوارث لتعزيز الاستجابة لحالات الطوارئ وخطط الإخلاء واكتساب معرفة طبية أساسية ومهارات الإسعاف الأولية.
الاستعداد للمجهول يتضمن تعلم مهارات من شأنها أن تساعدنا في الظروف الاقتصادية الصعبة، مثل أساسيات التجارة ومهارات المقايضة، واستكشاف ممارسات الحياة المستدامة. وبالطبع لا يضر الانفتاح على فكرة مشاركة المعرفة والمهارات المختلفة مع الآخرين، وبالأخص مهارات البقاء على قيد الحياة.
الوعي البيئي قد يكون من أهم الأمور التي يجب أن يتسلح بها الأشخاص، ويشمل العديد من الجوانب. في الوقت الذي تطورت فيه التكنولوجيا إلى حد كبير وزاد الاعتماد عليها في شتى مناحي الحياة، أصبح هناك شقاً كبيراً وضعفاً في معرفة الإنسان عن بيئته والعالم المادي الذي يعيش فيه ويحيط به. البيئة هي الأوساط المختلفة التي تحيط بالإنسان، مثل الماء والهواء واليابسة والفضاء، بالإضافة إلى جميع ما تحتويه من حيوانات ونباتات وجماد، هي نظام ضخم يشمل جميع هذه العناصر الحيوية وغير الحيوية والعديد من الظواهر الفيزيائية والكيميائية.
استعادة الاتصال بهذه الأوساط وزيادة الوعي البيئي تتطلب فهماً معمقاً لمواضيع، مثل التغير المناخي والحياة البرية وأساليب تجميع المياه، والتعرف على النباتات المحلية الصالحة للأكل والحفظ والاستدامة. دراسة هذه المواضيع مهم على المستوى العالمي والإقليمي والمحلي، لأنها جميعها تتأثر وتؤثر ببعضها البعض، والتركيز على المستوى المحلي أمر لا بد منه، حتى يستطيع الشخص الاستفادة من جميع هذه العناصر البيئية وتطويعها من أجل ضمان البقاء على قيد الحياة.
هناك العديد من المهارات الأخرى التي يستطيع الإنسان التسلح بها في هذا الزمن، خصوصاً لسهولة الوصول إلى هذه المعلومات في عصر الإنترنت والعالم الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي. من المفترض أن يكون التجهيز لهذه الحالات مسؤولية دولية وحقاً لجميع المواطنين في أي دولة معينة، لكن حتى في ظل غياب هذا الدور في دول معينة، فالمسؤولية تقع على عاتق الفرد من أجل الاستعداد للأيام الصعبة، ويجب أن تنبع من دافع داخلي للحفاظ على الحياة. المؤسسات المجتمعية أيضاً بإمكانها تشجيع الأفراد على ذلك، من خلال تقديم دورات تدريبية تختص بمثل هذه المواضيع من قبل خبراء مختصين وتسهيل الانضمام إليها من قبل الأفراد.
أحاول دائماً تخيل صورة للمجتمع المثالي، ودائماً هذه الصورة تتضمن مجتمعاً يتمتع باكتفاء ذاتي لا يتأثر جذرياً بالمجريات السياسية والاقتصادية المتغيرة باستمرار.
مجتمع معتمد على الذات
الاكتفاء الذاتي يعني -بكل بساطة- القدرة على تلبية احتياجات الفرد دون مساعدة الآخرين. وعلى مستوى المجتمع فإن الاكتفاء الذاتي يعني قدرة الأشخاص الذين يعيشون في منطقة أو مدينة واحدة على تلبية احتياجاتهم المختلفة دون مساعدة خارجية. بالطبع، تحقيق الاكتفاء الذاتي ليس سهلاً، خاصة في المناطق الحضرية بسبب ضيق المساحة المخصصة للزراعة وتربية الماشية، لكنه خطوة مهمة، خصوصاً في حال وجود أشخاص متشابهين في التفكير ولديهم الإصرار والعزيمة.
في الماضي، كانت توضع استراتيجيات للاكتفاء الذاتي الاقتصادي كوسيلة حماية في أوقات الصراعات الدولية وكعلاج ضد الإمبريالية، التي في جوهرها أيديولوجية تسعى لزيادة السلطة والسيطرة الاقتصادية والسياسية لدول معينة. لكن في يومنا هذا، الاستعداد للحرب هو العامل الرئيسي الذي يدفع الأشخاص لتبني استراتيجيات من شأنها تحقيق الاكتفاء الذاتي، وهذا ما نشهده بأم أعيننا في هذه الأوقات العصيبة.
مجدداً، الوصول إلى حالة الاكتفاء الذاتي على المستوى الفردي أو المجتمعي ليس سهلاً، لكنه ممكن، وقد يحتاج تحقيقه سنوات عديدة وتكثيف الجهود على مستويات عدة، بالإضافة إلى إحداث تغيير جذري في نمط الحياة الحالي لمعظم الشعوب المواكبة لنمط الحياة السريع والاستهلاكي. لكن، عند تحقيقه فهو بمثابة قارب نجاة يضمن استمرارية الأقوام والشعوب في عالم تسيطر عليه المصالح الشخصية والسياسية والاقتصادية والطمع والجشع، على حساب مبادئ الإنسانية والكرامة.
المصادر:
Darwin Correspondence Project. (N.D). Survival of the fittest. University of Cambridge.
Grebler, L. (1938). Self sufficiency and Imperialism. The Annals of the American Academy of Political and Social Science, 198, 1-8. http://www.jstor.org/stable/1021193.
Johnson, R. (2023). World War 3- 50 things you must know to survive doomsday armageddon. Linkedin.
المركز الوطني للأرصاد. (ب،ت). النظام العام للبيئة. تم الاسترداد بتاريخ 13 مارس، 2024 من:
https://rb.gy/9pz3yf