في جولة ممتعة قامت بها مراسلة "آفاق البيئة والتنمية" بين مزارعي "بيت لاهيا" شمال قطاع غزة، التقت بأشخاص وهبوا أرواحهم للتراب والأرض؛ إنهم تماماً كالسمك الذي يموت لو خرج من البحر. "من المثير للاهتمام أن نسمع عن دراساتٍ تشير إلى أن المزارعين يتمتعون بصحة أفضل من صحة غيرهم حيث أسلوب حياتهم يرتكز على الانخراط في أعمال بدنية، وتناول طعام صحي يعتمد على النباتات، فيما تؤكد التقارير أهمية أعمال الزراعة في حياة من يمارسها، ومما يتوقف عنده المرء ما ذكره مقال نشر في موقع "بي بي سي" أن "البستنة تعطيك سبباً لكي تنهض من أجله كل يوم؛ وفيها تحصل على تمارين بدنية غير مرهقة غالبية الأيام".
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
 |
المزارع جهاد حمدونة |
كلُ منهم له نافذته التي يطلّ منها على الحياة؛ اختاروا لأجل ذلك عالماً يخصهم وجدوا فيه ملاذهم، وكان المشترك الجميل بينهم عطر فلسطين وطبيعتها وخضرتها؛ بإمكاننا نحن أيضاً أن نفعل ذلك وبطريقتنا الخاصة ومن زاوية نحبها، في التقرير التالي نحاول أن نرى شكل فلسطين من تلك النوافذ المتنوعة.
في جولة ممتعة قامت بها مراسلة "آفاق البيئة والتنمية" بين مزارعي "بيت لاهيا" شمال قطاع غزة، أردنا أن تلتقي بأشخاص وهبوا أرواحهم للتراب والأرض؛ إنهم تماماً كالسمك الذي يموت لو خرج من البحر.
ومن المثير للاهتمام أن نسمع عن دراساتٍ تشير إلى أن المزارعين يتمتعون بصحة أفضل من صحة غيرهم حيث أسلوب حياتهم يرتكز على الانخراط في أعمال بدنية، وتناول طعام صحي يعتمد على النباتات، فيما تؤكد التقارير أهمية أعمال الزراعة في حياة من يمارسها، ومما يتوقف عنده المرء ما ذكره مقال نشر في موقع "بي بي سي" أن "البستنة تعطيك سبباً لكي تنهض من أجله كل يوم؛ وفيها تحصل على تمارين بدنية غير مرهقة غالبية الأيام".
في الهواء العليل؛ حديث قصير تجاذبناه مع منير حمدونة الذي يعمل منذ 25 عام في أرضه، ويا لسعادته حين يأكل من كدّ يده فيستمتع بطعم كل لقمة يتذوقها. بتحدث بعفوية الفلاح قائلاً: حين أتناول "حبة البندورة" أكون مرتاح البال أن عبث الأسمدة لم يطالها؛ إذ يرى نفسه محظوظاً بأن عائلته تتمكن من الطهي من محاصيل مثل الفلفل والباذنجان؛ معقباً "نحن المزارعين نحب أن نأكل من عمل أيدينا، وإذا ما نقص علينا شيءٌ نأخذ من جيراننا".
وفي المقابل لا يغفل الجانب السلبي، فالمساحات الخضراء تقف في الواجهة وتحتمل عذابات التجريف وإطلاق النار من قِبل الاحتلال الإسرائيلي كون تلك الأراضي تقع في منطقة حدودية، في حين يكدر صفو المزارعين إطلاق الغاز الذي يؤثر على المزروعات بحسب إفادته، ولكن ماذا عساهم أن يفعلوا! الأرض هي الروح وكل شيء لأجلها يهون.
سألت منير عن أحب الشهور إليه كمزارع؛ فقال أنه يروق له شهر أكتوبر/ تشرين أول الذي يستبشر به خيراً في انتظار محصول التوت الأرضي، وما يسبقه حينها من تحضير التربة بشكل جيد تحسباً لحدوث أي أمراض؛ ويفضل أن يكون صريحاً بقوله: "الربح في المحصول يجعلني سعيداً".

جولة في الأراضي الزراعية ببيت لاهيا
تفاصيل منعشة
ويبتسم بصفاء عندما يخبرنا: "الجهد البدني الذي نبذله في ساعات الصباح الباكرة بمثابة رياضة تنعشنا أثناء ركضنا المستمر لأداء مهام التلقيط والتوريق؛ إنه التعب اللذيذ الذي قد نصاب فيه بالانفلونزا حين نخرج مع أول نسمات النهار".
أقصى ما يشغل باله الآن شتل التوت الأرضي الذي بات يتكرر على مدار السنوات الماضية مما يجعل النتاج يخالف التوقعات؛ فــ "الشتل الذي كان يُجلب من رأس الناقورة سابقاً يتمتع بجودة عالية"؛ إلا أن ما يشتت كل تلك المخاوف ليلة سمرٍ باردة تتزاحم فيها الأيادي الملتفة حول "الكانون" تتعالى فيها صوت ضحكات أولاده الذين لا يتوقفون عن مساعدته دون أن يتخلوا عن دراستهم في الجامعات.
انتقلنا إلى أرض أخرى مجاورة لصاحبها جهاد حمدونة الذي يعمل مزارعاً منذ 45 عام؛ تحديداً منذ كان تلميذاً في الصف السادس، كانت نظرته إلى الحياة التي اختارها بملء إرادته جديرة بالاحترام، ملامح الرجل كانت مليئة بالقناعة والرضا، سألته إذا ما كان حدسي في محله؛ فضحك وقال: "طالما أنه لا يوجد دَين علي؛ ومستورة؛ لماذا لا أكون سعيدًا!؛ السكينة العميقة تستقر في قلبي طالما أني لا أفكر في الغد لأني موقنُ بأن رزق الله آتٍ، دائماً وأبداً نقول الحمد لله الخير كثير بالرغم من صعوبة الوضع".
ويبلغ الحماس أوجهُ حين يحل موسم الفراولة لأن فوائده تستمر لمدة طويلة بحسب حمدونة، الذي يضيء أرشيف ذاكرته بأيامٍ يجتمع فيها مع زوجته وبناته وأحفاده لقضاء وقت عائلي لا يقدر بكنوز الدنيا.
 |
 |
الزعتر - نادية طملية |
الكرز في الجولان المحتل- هبة الجيطان |
طعامٌ وأماكن
ما بين احتفالات تعيشها قرية بيتر- قضاء بيت لحم- بقطف الباذنجان، وما بين "خبز النواعم" المُنكّه باليانسون وحبة البركة الذي ينتشر على البسطات في الصباح الباكر، وما بين أطباق لها رائحة التراب بعد المطر، وما بين وجوه تنطق بالطيبة والكفاح لباعة العنب في مدينة الخليل أو الجوافة في مدينة خانيونس، ويكون من الرائع المرور بشاطئ مدينة أسدود الساحرة حيث تجتمع النوارس بجوار المراكب الراسية، وإلقاء نظرة على منزل شامخ في فلسطين المحتلة تكسو الزهور أحجاره من كل ناحية، وكأن حسرة القلب ما مرت به يوما.
هبة الجيطان من مدينة القدس وصديقتها فردوس التي تعيش حالياً في الكويت؛ بعد عصف ذهني اتخذتا معاً قرارا بنشر كل ما يتعلق بفلسطين وبالدرجة الأولى وصفات الطعام التقليدية والتراثية، من أجل نقل معالم المطبخ الفلسطيني من المدونين المهتمين بأبهى صورة بإنشاء صفحة your Lebanon التي مر على إنشائها عام وحققت متابعة عالية وذلك بالتعاون مع صفحة Your Palestine .
 |
 |
رولات كلاج |
سدر نمورة |
تقول هبة عن جهد يستحق التقدير: "يتطلب الأمر الكثير من الوقت والجهد فليس من السهل انتقاء الصور التي تحظى بالأهمية المطلوبة من بين عشرات الصفحات"، إذ تتجول الصديقتان بين صفحات انستغرام للبحث عن صور مميزة للأطباق التراثية، ناهيك عن الجولات الممتعة التي تنظمها هبة بين ربوع فلسطين برفقة كاميرتها.
وتضيف الطاهية الشابة التي نالت شهرة في السنوات الأخيرة لــ مجلة "آفاق البيئة والتنمية": "نحتاج في عملنا إلى قراءة عميقة في التاريخ لأجل توثيق معلومات صحيحة، وحقيقةً نحن ممتنون من هذا التفاعل الجميل معنا بعد فترة قصيرة من انطلاقنا".
 |
 |
سمسمية القدس بالعسل- هبة الجيطان |
صينية قزحة في فصل الشتاء |
حفظ التراث الغذائي
تحكي لنا المحامية التي عملت لمدة عام في تخصصها ثم ما لبَثت أن انشغلت بعائلتها، وبعدها أخذت موهبتها بالطهي في الظهور على مواقع التواصل الاجتماعي: "مطبخنا لم يأخذ حقه، حين تعمقنا فيه وجدناه أكثر شمولية واتساعا من غيره؛ ناهيك عن أن الاحتلال يسرق أكلاتنا التي يجب ألا ندير ظهرنا لها، فكرة صفحتنا أن نوثق ونلقي الضوء على أكلات فلسطينية غير معروفة، والتي يلتبس على البعض إن كان أصلها شامي أم تركي، لذا نسعى إلى التعريف بجذوره ومدى غناه بنكهات لا توصف، ففي كل موسم نركز على الأصناف الرائجة، وننشر عن أكلات شامية أخرى بالاستعانة بصفحات لبنانية بسبب التقاطع في الوصفات إجمالاً؛ ونحرص على معايير عالية للصور بحيث تكون واضحة وجذابة، ونحاول لفت النظر من خلال الهاشتاجات وفق نسق واحد، وهكذا أصبح متابعونا في حالة انتظار لكل ما هو جديد".
 |
 |
عنب الخليل- منير قليبو |
فلفل أحمر |
أدهشتها سيدات فلسطينيات "ماهرات بما تعنيه الكلمة من معنى" بما فيهن المغتربات في الخارج، فمن خلال تواصلها معهن لاحظت نشاطهن الدؤوب للتعريف بالمطبخ الفلسطيني في الشتات عبر تحضير الوصفات القديمة وتنظيم دروس وورش الطهي بغية المحافظة على هويته، وتقول في ذلك: "وددنا كثيراً أن نظهر جهودهن التي يبذلنها خلف الكواليس لإبراز صورة مشرقة عن طعامنا".
ولا تدخر السيدة المقدسية وسعاً من أجل الوصول إلى أكبر انتشار ممكن، بحيث لو بحث أياً كان عن طعام فلسطين، تظهر له الصفحة فورا فيطلع على العادات والتقاليد وما شابه، موضحةٍ: "ننشر أهازيج وأغانٍ تراثية ومعلومات عن قرى مهجرة حتى نبعث روح فلسطين فيها؛ سيما أن الكثيرين لا يستطيعون دخولها".
 |
 |
قطر منكه بالبرتقال |
كعك أصفر باليانسون |
سفيرات المطبخ التراثي
وبخصوص الجولات تذكر في سياق كلامها: "من خلال مشاويري في الأراضي المحتلة أو الضفة الغربية؛ ألاحظ تفاعلاً كبيراً من فلسطيني الخارج او حتى غير الفلسطينيين ممن يحبون بلادنا، أتمنى أن أزور غزة فهي المدينة الفلسطينية الوحيدة التي لم يتسنَ لي زيارتها لتبقى قطعة ناقصة من لوحة فلسطين الجميلة؛ وإن كنا نحاول تعويض ذلك بأخذ ما ينشر في بعض الصفحات الغزاوية".

معجنات الجدات
تأخذ نفساً عميقاً نفهم منه ارتياحها؛ فالصفحة لاقت تفاعلَ الكثير من المتابعين في فترة قياسية دون استخدام أي إعلانات أو تسويق الكتروني، ساعية إلى تجاوز مشكلة تنظيم الوقت، فــ مهمة من هذا النوع تتطلب زيارات وبحث واطلاع، مبدية إعجابها بنشاط بعض المبدعات اللاوتي يمنحن الإلهام مثل ميرنا بامية التي تبحث في أصل الطعام، وتحضر وصفات شعبية وتنظم جولات جميلة، تبعاً لكلامها.
 |
 |
كعك نابلس |
كنافة على الفحم في قرية رنتيس |
ولا تستطيع أن تحصي صفحات الفلسطينيات المميزات بالطهي، إلا أنها يمكنها أن تستحضر بعض الأسماء مثل صفحة "نادية طملية" و"بطيخ وجبنة" و"نفين كيتشن"، وغيرهن. "فخورة باحترافهن وأتمنى الجميع أن يعرفهن" تقول هبة.
إلا أن عتبا كبيرا يبدو في نبرة صوتها إزاء التقصير الشديد في توثيق الطعام الفلسطيني، مستدلة بذلك على موقف مرت به: "أذكر أني قبل سنوات شاركت ببعض من أعمالي في كتاب تعريفي لوزارة الخارجية واندهشت أنه لا يوجد حتى الآن كتاب رسمي يوثق الطعام الفلسطيني حتى يوزع في المناسبات الدولية، وما نشهده في هذا الجانب لا يعدو عن مبادرات شخصية لاقت نجاحاً، وبخلاف ذلك؛ لم نشهد مبادرة رسمية مما جرّأ الأعداء على نهب تاريخ طعامنا".
 |
 |
لؤلؤ المفتول-نفين حجازي |
محيط كنيسة القيامة في القدس |
وتدعو الجيطان الجهات المعنية إلى أن تأخذ الأمر على محمل الجد، وتشرع في أقرب وقت بإصدار كتاب رسمي يتناول الأطباق التراثية، حتى إذا ما طلبت جهة دبلوماسية غربية أو سيّاحا الاطلاع على هذه "التحفة" من قصتنا وجدوا ما يفوق توقعاتهم.
 |
 |
الأقحوان التاجي |
الترمس الأزرق |
حياة النباتات
د.عماد حسين؛ طبيب في مقتبل العمر يعمل في قسم الطوارئ في مدينة رام الله، وجد نفسه مشدوداً إلى عالم النبات في فلسطين وما يتصل بخصائصها الطبية؛ فأراد أن يطلع المهتمين على كل معلومة يعرفها بهذا الخصوص؛ كخطوة مساهمِة من طرفه في طريق التوثيق لهذا الجانب من الحياة الفلسطينية .
حين تتجول في صفحته الشخصية في انستغرام سيشدك الزعيتمان أو ما يسمى بــ زعتر موسى هذا النبات الزاحف ذو الرائحة الجميلة الذي تتزين به جبال طولكرم، مروراً بالبطنج الفلسطيني وهو من عائلة النعنع، وليس انتهاءً بزهور السوسن وشقائق النعمان، والعلندة التي أصبحت العديد من الفلسطينيات المصابات بسرطان الثدي يستخدمنها في السنوات الأخيرة.
 |
 |
الثوميات |
السوسنة العراقية |
يخبرنا عن سر شغفه بالنباتات فيقول أنه متعلق بالعرِق الأخضر منذ طفولته إلا أن الاهتمام بدأ بشكل جاد أثناء دراسته الجامعية وما بعدها، حين تبين له أن الارض الفلسطينية زاخرة بالتنوع الهائل في النباتات، بالإضافة إلى ما تحفل به طبيعتها من جبال وينابيع وصحارى وسهول وصخور خاصة الصخر الجيري الجميل الذي شغفه حُباً، معقباً: "الطبيعة سر الوجود، والأرض الفلسطينية ساحرة وتبعث الراحة في النفس والجسد".
 |
 |
العليق |
زهرة الأفعى الخليلية |
رحلة المعرفة
وعن طرق اكتسابه للمعلومات المتعلقة بعالم النبات، قال: "أدرس هذا المجال من خلال السكان المحليين الذين يعرفون أنواع النبات واستخداماتها، وأبحث في الكتب العلمية وغالبا هي كتب اسرائيلية، ولا أفوّت المجلات العلمية حيث أدرس الأبحاث التي تتم على مختلف النباتات".
ويأسفُ عاشق النباتات إزاء قلة المصادر الفلسطينية التي توجد جلّها كأبحاث جامعية تتوزع هنا وهناك؛ إذ يستفيد منها أحياناً.
 |
 |
زهرة الآلام |
ورق لسان |
من النباتات التي يقف مذهولاً أمامها شجرة القيقب الحمراء حتى أنه يبتسم عند وصفها: "في كل مرة أراها أشعر بسعادة"، هو الذي يشارك بقلبه ويديه في موسم الزيتون، فيما يستمتع بزراعة الكثير من الخضراوات في حديقته، خاتماً حديثه لنا: "آمل أن أطوّر نفسي في الكثير من العلوم الزراعية، وأن تتسع مدارك المزارعين بمعلومات تتجاوز ما يعرفونه عن محاصيلهم الأساسية".