خاص بآفاق البيئة والتنمية
خالد قطامش مدير فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية يستخدم الهاتف الأرضي فقط ويقاطع الهواتف النقالة
يُقاطع مدير أعمال فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية، خالد قطامش الهواتف النقالة، ومواقع التواصل الاجتماعي، ويرى أن التكنولوجيا ساهمت في صناعة جو متوتر لمستعمليها، وتدخلت في مفاصل العلاقات الاجتماعية، واستطاعت أسر مستخدميها، الذين يقبلون عليها إلى درجة "الجنون".
وقال في حوار خاص بـ"آفاق البيئة والتنمية" إنه لا زال يعيش في فترة الثمانينات، ولا مشكلة لديه في عدم حيازة هاتف نقّال، الذي إن أحتاجه مرة في الشهر، لا يجد ضرورة له 29 مرة شهريًا.
ويحمل قطامش بكالوريوس التربية من جامعة القدس المفتوحة، وينحدر من قرية المالحة المدمرة، وأبصر النور عام 1963 في مدينة البيرة، وأنهى الثانوية العامة أوائل الثمانينات، وعمل في الدهان والطراشة، وتربية الدواجن حتى 1993، ودرّب الدبكة، وتطوع في فرقة الفنون طويلاً، وكانت أول وظيفة في الفرقة عام 1995 من نصيبه، ثم عمل في مركز الفن الشعبي.
ويخصص قطامش أوقات فراغه وعطلته في رعاية حديقته المنزلية، وتربية الحيوانات، وزيارة الأصدقاء والعائلة، ويصر على أنه سيزداد مقاطعة للهواتف النقالة والتكنولوجيا عمومًا، بعد بلوغ التقاعد.
تربية الدواجن في محيط منزل خالد قطامش
وهنا نص الحوار:
استهلاك و"جنون"
يروج كثيرون لأنماط استهلاكية وتقنيات جديدة، يدعون أن لا غنى لنا عنها. كيف تعيش بلا هواتف نقّالة؟ ومنذ متى؟
حتى لا يُفهم حديثي كنوع من العدمية، أنا لست ضد التكنولوجيا، والهواتف النقالة، ووسائل التواصل الاجتماعي، بل لديّ مشكلة فعلية في آليات استخدامها، ولا يمكن لأحد أن يكون ضدها أو ضد التطور والحداثة، لكن الإشكالية في آلية ومكان استعمالها، أو عدم استخدامها بشكل عملي يريح الإنسان.
والاستخدام الراهن للهواتف النقّالة من كل مستخدميه يخلق شعورًا بالرقابة على مدار الساعة، ويُنهي الخصوصية، ويُبقي على حالة تحفز للرد عليه، ويخلق توترًا متواصلًا، ويُخرج صاحبه عن السيطرة، وعليه الرد على أي اتصال، وقراءة أي رسالة حتى خلال قيادة المركبة.
ومشكلتي مع التكنولوجيا "أسرها "لمستخدميها، لا أن يأسرها أو يسخرها المستخدمون لمصالحهم.
شخصيًا، لا أشعر بالحاجة إلى هاتف نقال، وأستطيع العيش دونه، وأعيش بلا استخدامه، فأنا أعمل في الثقافة لا البورصة، وأودي المهام المطلوبة مني في ساعات الدوام المكتبي، ولا شيء في الثقافة وبناء المجتمع يحتاج وسيلة آنية للتواصل، وإذا ما احتجنا للتواصل فهناك الهواتف الأرضية.
-ما الذي دفعك لمقاطعة الهاتف النقال؟ وهل حذا حذوك آخرون؟
من متابعاتي لأصدقائي، تكون ردة فعلهم الأولى حين يعلمون بمقاطعتي للنقال، المديح وغبطتي على ما أنا فيه، لكنهم سرعان ما يتراجعون، ويبررون سبب اقتناء هواتف خلوية.
هناك منطقة لا يتصالح الإنسان فيها مع ذاته في استعمال النقال، وبالتأكيد هذه الأجهزة مهمة لشريحة معينة من الناس كالأطباء والتجار، لكنها غير ضرورية لم يعملون في المكاتب، ولديهم هواتف أرضية في بيوتهم ومكاتبهم.
لكن كثافة استخدام النقال لدرجة الجنون، حتى خلال الاجتماعات، والعروض، والمناسبات، تؤكد أن الهواتف الخلوية أصبحت المسيطرة علينا. وفي الوقت نفسه، لا تبني هذه الأجهزة مجتمعًا أكثر تحضرًا، وأكثر فهمًا، وأكثر إنتاجية، بل على العكس كانت الإنتاجية قبل هذه الطفرة أعلى من اليوم، الذي يضيع منه ساعات لمتابعة كم هائل من الأحداث لا يؤثر غيابها علينا.
وتقود كثافة المعلومات المرتبطة بهذه الهواتف إلى حالة من عدم التركيز، فحين يرى رواد مواقع التواصل الاجتماعي ألف منشور يومًا، فإنهم يفقدون القدرة على التركيز والفهم، ومن النادر أن يقرأ المتصفحون التحليلات والتعليقات، على ما ينشر.
ضجيج وضحايا
-تبدو الحياة بلا "خلويات" أجمل، هذا ما أجربه شخصيًا أيام العطلة .ما مظاهر السعادة المتحققة لك جراء هذه المقاطعة؟
الهاتف النقّال بحد ذاته سببٌ للتوتر، ويُنهي جزءًا من خصوصيتك حين تظل متحفزًا للرد عليه، أو تبقى في مظهر رسمي لالتقاط "سيلفي"، أو أخذ صورة مع أحد، وباللاوعي، تشعر أن أحدًا ما يراقبك، ويطلب منك في كل لحظة أن تكون جاهزًا لها، ما يوترك، وحين تبتعد عنه خلال العطلة الأسبوعية قليلاً تشعر بالسعادة والراحة من ضجيجه، ومن كثافة ما يصلك.
بافتراض أن من يملك هاتفًا يتلقى أو يرسل 150 -100 مكالمة يوميا، لكنني لست متأكدًا من حجم الاتصالات المهمة، وأشك بذلك، وربما 5-10 فقط هي المهمة، والباقي لا ضرورة لها.
-ثمة محتجون في العالم ضد النقال، وهناك تحذيرات من تداعياتها الصحية، ويتنامى القلق من أضرار أبراج النقال على الإنسان والبيئة. كيف تُعلّق على هذا؟
لم يثبت حتى الآن ضرر الأجهزة النقالة أو الهوائيات، وكل ما يُنقل افتراضات، ولكونها كذلك يمكن أن تكون مضرة بالبيئة أو الإنسان مستقبلًا، فيجب الحذر من استخدامها على الأقل، وربما يثبت بعد سنوات عدم ضررها الصحي، لكنها على الصعيد الذهني والنفسي لها أضرار جانبية.
ألاحظ أن أكبر ضحية للنقال هم الأطفال، لأن الأهل يفرضون على الأبناء امتلاك هواتف نقالة وأجهزة ذكية وهم بعمر سنة وسنتين، وهذا ليس بسبب الاهتمام بهم، ولكن لوجود نوع من الأنانية والذاتية رغبة منهم في إكمال أعمالهم، وسهرهم، وأفلامهم، فيلهون الأطفال بهذه الأجهزة، ويوقعون الضرر عليهم بشكل قسري، دون اتخاذ الأطفال قراراً بامتلاك هذه الأجهزة.
أشعر بنوع من التدمير للأطفال بحجة أنهم أذكياء ويستخدمون الأجهزة بطريقة صحيحة، لكنهم عمليًا يدمرون نفسية الأطفال، حيث ينعزلون عن محيطهم الاجتماعي، ويختفي وجود الحارة في حياتهم والأصدقاء الواقعيين، وخاصة بوجودنا في شقق ببنايات مستقلة، وهذا يؤدي إلى تأثيرات سلبية على نفسية الأطفال.
خصوصية وافتراض
-تفقدنا "الأجهزة الذكية" الكثير من الخصوصية، حين نتحدث في كل مكان، ونصور كل اللحظات تقريباً. ما رأيك؟
الهواتف النقالة، و"فيس بوك" يجعلانك تُشرّع نوافذك وأبوابك لكل الناس، وحينما لا تمتلك هذه التقنيات تحتفظ بخصوصية عالية، فلا أحد يرصد تحركاتك اليومية، ولا يقترب من خصوصيتك، فليس مهمًا أن يعرف الناس أين ذهبت، وأي العروض المسرحية شاهدت.
تسبب التكنولوجيا بإفساد علاقاتنا الاجتماعية، فإذا ما خرجنا مع أصدقاء مقربين، فليس ضروريًا نشر ذلك، لأنه سيؤثر على علاقتنا بأصدقائنا الآخرين، كما تؤدي إلى مشاكل اجتماعية، فحين ننشر عن وجودنا في مطعم، بالتزامن مع وفاة قريب لصديق، أو لفرح صديق آخر، فإن ذلك سينعكس على علاقتنا، ونصبح بحاجة إلى تفسير غيابنا.
بالعموم، النقال وتطبيقاته مجال حيوي للتطفل على كل خصوصياتنا، والأسوأ أنه بدل أسرنا للتكنولوجيا وتطويعها لما نريده ولتطوير أعمالنا ومجتمعاتنا، أصبحت هي من يأسرنا، ويتحكم بنا، ويؤثر على كل حياتنا سلبًا.
تبرير حاجتنا للتواصل بالنقال مع الأبناء من باب الخوف عليهم في غير مكانه، فما الذي سيحدث لهم وهم في رام الله مثلاً، فأولادي مثلاً يتحركون ولا يتواصلون معي، ولا شيء يهددهم، وباتفاق ضمني في الأسرة؛ نوفر لهم الهاتف النقال في سنة الثانوية العامة.
أولادي: قيس، وهو أستاذ رياضة في مدرسة الفرندز، وتيماء خريجة إدارة الأعمال من جامعة بيرزيت، ورحى على مقاعد الثانوية العامة، وثلاثتهم لا أتواصل معهم عبر الهواتف النقالة إلا ما ندر.
-هل تتابع الإعلام الاجتماعي في مجال عملك، وهل لديك حسابات عبره، وخاصة أن معظمها مرتبط بالهواتف الذكية؟
شخصيًا، لا أملك صفحات خاصة عبر وسائل التواصل، وفي العمل أدير صفحة فرقة الفنون الشعبية، وللدقة أدخل على حساب الصفحة بشكل متتالي يومًا بما لا يزيد عن 15 دقيقة، وأنشر فيه أخبار الفرقة وصورها، ولا يحتاج ذلك للإقامة في الموقع.
لا فضول لدي لامتلاك صفحة خاصة، وأشعر بأن ما هو موجود سطحي وافتراضي، وهناك فجوة بين ما ينشر وشخصية الناشر، وتصيبنا الدهشة أحيانًا حين نقابل أشخاصًا نعرف نشاطهم وكتاباتهم عبر مواقع التواصل، لكنهم في الحقيقة غير ذلك، وهذا يجعل الناس غير طبيعيين، ومن تجربتي في مقابلات التوظيف نجد أشخاصًا لا يمتلكون الحد الأدنى من الجرأة، لكنهم افتراضيًا ينعزلون عن واقعهم، ويمضون وقتًا طويلاً في غرفهم، ويكتبون ما يريدون، ويفشلون في امتحانهم الاجتماعي خلال المقابلات.
والغريب، أن رواد مواقع التواصل يهربون من واقعهم، فيتحدثون عن لاعبي كرة قدم، ومشاهير، وملايين، لكنهم في الواقع لا يملكون شيقلًا واحدًا، ويدعون وجود ألف صديق على صفحتهم ومن بلدان مختلفة، لكن لا أصدقاء لديهم في الحقيقة.
وقد قلّل العالم الافتراضي الذي نعيش فيه من استخدامنا لعقولنا، وللمعرفة، ولتطوير الذات، وجعلنا كسالى، فالحاسوب يصحح لنا ما نكتب، وهناك نسبة كبيرة من الحوادث سببها الهواتف النقالة، وأتفاجأ من سائقين يستخدمون الهاتف النقال، بكتابة رسائل خلال السياقة، وأطلب منهم إما التوقف عن استعمال أجهزتهم، أو إنزالي من مركباتهم.
اختلاف وبدائل
-هل شعرت يومًا ما بحاجة لهاتف نقال، وخاصة خلال السفر؟ وهل استخدمته ولو مرة من صديق؟ وما ردة فعل من يطلبون رقمك، حين يعلمون أنك لم تصب بمرض النقال؟
لا تقارن إيجابيات عدم امتلاكي لهواتف نقالة بسلبيات هذه الأجهزة، فخلال تجوالي مع "الفنون"، لا أعرف أحيانًا عنوان اللقاء، وأضطر للبحث عن هاتف أرضي، لكن هذا الموقف إن تكرر 10 مرات في العام، يحميني 355 يومًا بقية السنة.
الهواتف النقالة ليست حاجة أساسية في حياتي، ورفضت أن نشترك في هاتف نقال لفرقتنا، فيكفينا الأرضي، ولكل موظف في الفرقة هاتفه الخاص.
حين يطلب مني من أقابلهم رقم هاتفي، يذهب تفكير جزء منهم بأنني من الشخصيات المهمة، التي لا تعطي رقمهاً لأي أحد، ولا يصدقون أنني لا أملك جوالًا، كما لا يستوعبون اختلافي. ويتحمس آخرون لتقليدي في البداية، لكنهم سرعان يتراجعون، ويدعون استحالة ذلك؛ لظروف العمل، والأسرة، ومتابعة الأولاد.
فأحد البنوك الوطنية شطب حسابي الشخصي على الإنترنت؛ لأنني لا أملك هاتفًا خلويًا، بحجة الحرص على الحساب، بالرغم من تعهدي لهم بأنني أتحمل مسؤولية عدم وصول رسائل لأي حركة على حسابي.
لا تتطلب غالبية الأشياء في حياتنا ردًا سريعًا، وبالإمكان تأجيل الإجابات ساعة أو ساعات، ولن ينتهي العالم. نحتاج إلى تصالح مع ذاتنا، ويتطلب ذلك "سلامًا داخليًا" لا يتحقق مع تكنولوجيا تجعلنا متوترين 24 ساعة.
خالد قطامش مدير فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية مع مجموعة من الأرانب التي يربيها
-ما البديل لك عن الهاتف الذكي؟
خلال يوم الإجازة يمكن ممارسة نشاط بدني، أو زراعي في حديقة المنزل، أو ري الأزهار، أو المشي، فالطبيعة تمنحنا توازنًا في ظل ضغط العصر والتكنولوجيا.
أقتني الدواجن، والأرانب، وأربي حيوانات أليفة في حديقة المنزل، أطعمهم وأسقيهم، وأرعاهم، وأستفيد منهم، وأزرع الخضروات، وأحقق توزانًا في حياتي، ثم أعود إلى دوامي.
أعيش في البيرة القديمة، وورثنا عن والدي أرضَا تقل عن الدونم، وبنيننا فيها أربع شقق، لكننا نجد فيها متسعًا للزراعة، وتربية الحيوانات، وهناك فرصة للمشي في الحارة.
-إلى متى يمكن أن تصمد دون هواتف خليوية؟
بالمنظور القريب لدي الموقف نفسه من التكنولوجيا، وأنا ذاهب نحو التقاعد، وفي تلك الفترة أنا متأكد من أنني لن أقتني نقالاً، وسأكون أكثر استقراراً مع أبنائي وأحفادي مستقبلا. ولن أتنازل عن قناعاتي.
سطوة وتخريب
-لدينا مفارقة عجيبة، تملك أسر متوسطة الحال وربما محدودة الدخل، أجهزة خلوية، بعضها لأطفال، تتطلب إكسسوارات، وأرصدة، وتبديل، وصيانة ما ارتدادات هذا الحال؟
قرار الناس ليس بيدها، والتكنولوجيا اختطفتهم، فما الذي يحتاجه عامل تنظيف أو بناء ليقتني جهازين متنقلين. هذه باختصار سطوة التكنولوجيا الاستهلاكية التي يجري فيها متابعة التطورات، فجزء كبير من الناس لم يصلوا فكريًا لاستخدام الخواص المتطورة في هذه الأجهزة، ومع ذلك يشترون الموديلات الذكية، ويستخدمونها بالتصوير وإرسال الرسائل القصيرة فقط، وهذا يستدعي أن يعودوا إلى الأجهزة القديمة وغير المكلفة، التي لا تتلف سريعًا، وسهلة الصيانة.
تصادر الأجهزة حريتنا، وتراقبنا، وهذا سببه إشكالية في الوعي. التدخين والنقال العنصران الأكثر استنزافنا لميزانية الأفراد، وهي توازي ميزانية الأسرة نفسها.
ما حجم ما أفسدته التكنولوجيا للبيئة الريفية؟
التكنولوجيا لاعب رئيس في تخريب العلاقات الاجتماعية بين الناس، ما يجري فعليًا ليس عملية تواصل اجتماعي، بل هو "تخريب اجتماعي". عادة، تفرز الحارة التقليدية شخصية قيادية، تتعامل مع أقرانها، وتدافع عن نفسها، وتشارك في عمل جماعي، وهذا غائب عن التكنولوجيا.
حتى حين يلتقي الأصدقاء تراهم في المطعم يمضون وقتهم مع أجهزتهم، وصحيح أننا لا نستطيع الوقوف في وجه التكنولوجيا، لكن هل نستطيع أن نطوّر وأن نحسن رقابتنا عليها؟
هل لكم من تجربة في فرقة الفنون الشعبية لتجسيد أمراض التكنولوجيا؟
الأسهل إنتاج عمل مسرحي من عمل فني مبني على الدبكة والحركة، ومن الممكن أن نفكر في ذلك مستقبلاً.
التكنولوجيا بوجهين، فإما أن تكون آفة العصر بإغراقنا في نمط استهلاكي تمسنا وتمس الأجيال القادمة، وتسيطر علينا وتحولنا إلى تابعين لسطوته، أو تكون ميسرة لحياتنا بمواكبتها للتطور والتغير وتسخيرها لخدمتنا.
علينا أن نبدأ بالسيطرة على سلوكنا بالامتناع عن الرد على كل هاتف وكل رسالة، ونستطيع إغلاق أجهزتنا بعد انتهاء الدوام وفي الإجازة.
وأخيرًا، سُئل حكيم وهو على فراش الموت، على ماذا أنت نادم في هذه اللحظة؟ فكان جوابه: "عدم قضاء وقت أكثر مع الأسرة والعائلة والأصدقاء".
aabdkh@yahoo.com