الاحتلال يحول أراضي القطاع إلى صحراء قاحلة ولا مغيث!!
قرار بوقف زراعة الأراضي التي قصفت في العدوان على غزة
دراسة إيطالية: نسب مرتفعة من المواد الملوثة والمشعة في الأراضي التي تعرضت للقصف الإسرائيلي
سمر شاهين / غزة
خاص بأفاق البيئة والتنمية
هنا في بيت حانون "شمال قطاع غزة" حيث الأرض "السوداء" القاحلة، أرض غاب عنها لونها ذات مرة ولم يعد يعرف عنوانا لها، بفعل الآلة العسكرية الإسرائيلية التي استهدفت الشجر والتربة والحجر قبل البش؛ لا لشيء إلا لقتل البيئة الفلسطينية من ناحية وتدمير الإنسان الفلسطيني وتحويله إلى تابع لها في كافة مناحي الحياة، ولترفع شعار: "نحن نهدم ونجرف ونقتل إذن فهم أسرى لنا إن لم يكونوا داخل أقبية سجوننا فهم أسرى خارجها".
ولم يقتصر سواد التربة ومرضها فقط في بيت حانون، ولكن في جنوب القطاع كان للمزارع الفلسطيني وأرضه وأشجاره نصيب من المعاناة التي حددت الآلة العسكرية الإسرائيلية بداية لها دون أن تضع حدا لنهايتها، فمئات الدونمات سلكت طريق التصحر والجفاف من ناحية، وعدم الإنتاجية ومرض الأرض من ناحية أخرى.
في نهاية العام 2008 وحتى السابع عشر من العام 2009 شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي حربا عسكرية على قطاع غزة استمرت مدة 22 يوما استخدمت خلالها الكثير من ترسانتها العسكري، وجعلت القطاع بسكانه وتربته ومائه وشجره حقل تجارب لتلك الأسلحة لتخلف نحو 1500 شهيد، وجرح وإصابة أكثر من 5500 مواطن، وتجريف وهدم نحو 20 ألف منزل بالإضافة إلى تجريف آلاف الدونمات الزراعية .
" آفاق البيئة والتنمية" ومع حلول الذكرى الأولى للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تفتح ملف الأراضي الزراعية في قطاع غزة وتأثير الأسلحة المستخدمة على التربة ومال آلت اليه العملية الزراعية.
|
|
الاحتلال حول أراضي القطاع إلى صحراء قاحلة |
آلاف الدونمات من أخصب الأراضي في قطاع غزة تحولت إلى أراضي مدمرة وملوثة بفعل العدوان الإسرائيلي |
حليفه الموت!!
المزارع أحمد عبد ربه من عزبة عبد ربه شمال قطاع غزة يقول: " لقد حرقت ( إسرائيل) الأرض والشجر وحتى التربة ولم تعد هذه الأراضي صالحة للزراعة، وإن صلح جانب منها فإن ما يتم زراعته غير صالح للاستخدام الآدمي بصورة طبيعية بل يشكل خطرا على حياته، لافتا إلى أن الطيور التي تسول لها نفسها التقاط أي من هذه المزروعات المتناثرة فان الموت حليفها.
ويذكر أن الكثير من الطيور كان مصيرها الموت إذا ما تناولت شيئا من الأرض لاسيما الأعشاب التي جفت، وباتت لا يتميز لونها عن لون الأرض من شدة الاسوداد.
ويشير إلى أن جرافات الاحتلال الإسرائيلي عملت على دفن الأشجار المثمرة التي تجاوز عمرها عشرات السنين في باطن الأرض ولم تكتف بذلك، بل عمدت إلى زرع باطنها بسموم المتفجرات مما أدى إلى حرق التربة، حيث لم تعد هذه الأرض صالحة للزراعة.
والمزارع عبد ربه "54" عاما صاحب البشرة السمراء ليس الوحيد الذي بات يبكى أرضه ليل نهار، بل مئات المزارعين وأسرهم باتوا يبكون أراضيهم الزراعية التي باتت عقيمة بفعل الاحتلال الإسرائيلي وممارساته التي لن تتوقف يوما رغم أن عجلة الحرب وضعت أوزارها مع ليلة السابع والثامن عشر من كانون الثاني 2009.
ويوضح المزارع عبد ربه وهو أب لسبعة أطفال أكبرهم لم يتجاوز الثامنة عشر: "هجرت الأرض رغما عني لكي أبحث عن مصدر رزق جديد يمكنني من إعالة أطفالي، ويساهم في توفير جانب من الأموال التي تمكنني من شراء أدوية لعلاج الأرض التي باتت توهن يوما بعد يوما"، ويلفت إلى أن الاحتلال لم يتوقف يوما عن استهدافها بصورة مباشرة للنيل منها، وتحويلها إلى قطعة صحراوية مريضة لا يعرف لها علاج.
قرار بوقف الزراعة
وقررت وزارة الزراعة الفلسطينية في غزة التوقف عن زراعة المناطق التي تعرضت للقصف الإسرائيلي في العدوان الأخير على غزة، بعد أن كشفت دراسة إيطالية عن وجود نسب عالية من المواد الملوثة والمسرطنة، منها مواد ذات طبيعة إشعاعية في التربة في المناطق التي تعرضت للقصف الإسرائيلي.
ويؤكد خبراء أن هذا القرار يعني تدميرا إضافيا للموارد الطبيعية في غزة ولأنماط الزراعة وسبل معيشة المواطنين الفلسطينيين، ويساهم في زيادة حدة الحصار الاقتصادي المفروض على غزة.
ويشدد الخبراء على وجود حاجة ماسة إلى استقصاء وبائي وبيئي دقيقين لحالة التربة والمياه والجو في غزة إضافة إلى نسب الأمراض الناجمة عن التلوث؛ مما سيساهم في تكوين ملف متكامل عن الجرائم الإسرائيلية والعمل على محاكمة مرتكبي هذه الجرائم والتعويض عن الضرر البيئي والتخلص من آثاره وتنظيف البيئة في غزة من نتائج العدوان الإسرائيلي، حماية للأجيال الحالية والقادمة والتي سوف تستمر في دفع ثمن الحرب.
ويوضح عبد ربه وهو يقلب بين يديه حفنه من التراب، بأن هذه الأرض تغير لونها وبات يميل إلى السواد بصورة مستمرة ولم تعد صالحة لزراعة أي من الخضروات، ويقول: "أحاول ليل نهار أن أستصلح ولو خمسمائة متر من الدونمات العشرة؛ لأتمكن من توفير أصناف من الخضر لأبنائي؛ ولكنني منذ عام وأنا عاجز عن ذلك.
ويضيف: "لم تعد تلك الخضروات التي كانت تملأ بيتي نراها كما في السابق، بل أصبحت حبة البندورة تشكل عبئا كبيرا علينا إذا ما احتجنا إليها.
وبعيون غلبتها الدموع يتابع حديثه لـ"آفاق البيئة والتنمية" فيقول: "لم يتبق لي ولأسرتي وعائلتي سوى رمال محروقة، حالها كحال مالكيها، الألم والحسرة والدموع عنوان لهم. أي ذنب ذلك الذي اقترفته أرضي وأشجاري لتزول دون عودة بل وتدمر التربة ولا يعرف موعد لسلامتها؟
ويتمتم بكلمات ممزوجة بالألم "الجو بات غير صحي للبيئة الفلسطينية بما تحويه، لن تعود الأرض إلى سابق عهدها نتيجة لجملة السموم التي استخدمها الاحتلال الإسرائيلي ".
وعائلة عبد ربه فقدت أبناءها وأراضيها الزراعية وأشجارها التي توارثتها أبا عن جد، حيث لا تبعد عزبة عبد ربه عن حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48 سوى ثلاثة كيلومترات تقريبا، وتبلغ مساحتها حوالي كيلومتر مربع. وعرف عن هذه الأرض خصوبة تربتها الطينية الحمراء العالية، كإحدى أكثر المناطق خصوبة بعد سهل مرج بن عامر، ووادي غزة. كما اشتهر عنها زراعة الفواكه حتى أن البعض سماها "سلة فواكه غزة"، وقد أتت الآليات العسكرية الإسرائيلية على أكثر من ثمانية آلاف دونم مزروعة بالحمضيات .
الدراسة الايطالية كشفت النقاب عن أن التلوث الذي تبين في التربة يتضمن تراكيز عالية لمواد سامة جدا ومنها مادة الموليبديوم وهي عنصر سام للحيوانات المنوية، ووجود مستويات عالية منه يؤثر على الخصوبة، ومادة الكادميوم المسببة للسرطان. ومن المواد الأخرى التي تم الكشف عن وجودها مادة التنجستين وهو عنصر سام للأجنة، ووجود تركيزات منخفضة منه يسبب أمراضا في الجهازين العصبي والتنفسي، إضافة إلى مواد الكوبالت والنيكل والمنجنيز والنحاس والزنك والأسترونتيوم وجميعها مواد خطيرة.
هذه التراكيز من المواد السامة، وغيرها من المواد المشعة التي نتجت عن استخدام قنابل الفوسفور الأبيض تفسر النسبة الكبيرة من زيادة الأجنة المشوهة في غزة، والتي تمثل جريمة حقيقية ضد الإنسانية ارتكبها الجيش الإسرائيلي لم تقتصر فقط على الشهداء والجرحى أثناء الحرب، بل أصبحت جريمة عابرة للأجيال ودائمة الوجود من خلال تلوث الهواء والتربة والمياه.
|
|
مساحات واسعة من الأراضي الزراعية المقصوفة في غزة تحوي تراكيز مرتفعة من العناصر الثقيلة |
نسب عالية من المخلفات الإسرائيلية الملوثة والمشعة والمسرطنة تنتشر في العديد من الأراضي الزراعية في قطاع غزة |
طريقة ممنهجة
ومن جانبه يوضح المزارع أبو خالد سعدات من بيت حانون أن الاحتلال استهدف في بداية حربه الأراضي الزراعية حيث عمل على تجريفها وتخريبها بطريقة ممنهجة ومدروسة، وبخاصة لأنه رغم انتهاء الحرب قبل نحو العام إلا أنه لم يتمكن أحد من معالجة هذه الأرض ولو جزئيا، ويشرح ذلك فيقول: "أتذكر جيدا أن قوات الاحتلال كانت تمركز استهدافها على المناطق الزراعية، وتعمل على قصفها بصورة هستيرية حتى تتركها وهي ارض محروقة ومجموعة من الحفر المتناثرة هنا وهناك التي يصعب العمل على ردمها أو التعامل مع تربتها، حيث تم حرقها بأشعة دون أن يكون هناك لهب مستمر بل على العكس ما إن تغادر الجرافات والدبابات الإسرائيلية المكان حتى يختفي هذا الإشعاع، لكن الأرض تصاب بالوهن بصورة متواصلة دون توقف.
وفي ذلك يقول د. باسم نعيم وزير الصحة في غزة: "عشرات العناصر الثقيلة والسامة منتشرة في التربة والمياه بكميات أكبر بكثير من المعدل الطبيعي لها وأنها تصل إلى آلاف الأضعاف".
وعقب على التقرير الإيطالي في تصريحات لـ"آفاق البيئة والتنمية" بأنها تمثل رأس الهرم الجليدي لهذه الجريمة النكراء بحق أبناء شعبنا" مطالبا بإرسال خبراء مختصين للكشف عن باقي معالم الجريمة سواء من المؤسسات الأهلية أو الدولية".
كما طالب كل الوفود التي وصلت إلى القطاع بعد الحرب وأخذت عينات من تربة القطاع أو جثامين الشهداء الفلسطينيين أن تكشف عن حقيقة النتائج التي توصلوا إليها وألا يستسلموا للضغوط الإسرائيلية.
ودعا نعيم المجتمع الدولي وخاصة مؤسساته المعنية بهذا الشأن أن ترسل الخبراء لمساعدة الحكومة في غزة ومؤسساته المختصة ،لوضع الخطط لحماية الشعب الفلسطيني وبخاصة الأجيال القادمة من آثار "هذه الجريمة النكراء".
كما طالب وزير الصحة، بناء على نتائج تقرير العلماء الإيطاليين وغيره من التقارير القانونية وآلاف الأدلة على الجريمة المجتمع الدولي، بملاحقة مجرمي الحرب فورا وتقديمهم للعدالة.
ويتابع المزارع سعدات حديثه ويقول: "آه يا أرضي لقد كُنْتِ الحلم الأكبر لحياتي وأولادي واليوم أصبحت سرابا أبحث عنه وأنت أمامي، لقد قتلك الاحتلال ليس لمرة واحدة ولكنه عمل على قتلك بصورة ممنهجية (...) على المؤسسات الحقوقية والدولية أن تجبر الاحتلال على توفير العلاج الذي من شأنه القضاء على هذه السموم التي زرعها في باطن الأرض التي حولها إلى عقيمة".
|
|
وقف زراعة الأراضي التي قصفت في العدوان على غزة |
نسب مرتفعة من المواد الملوثة والمشعة تنتشر في الأراضي الزراعية التي تعرضت للقصف الإسرائيلي |
غرباء عن الارض
ويشير سعدات "47" إلى أنه لم يمتهن في حياته هو وأشقاؤه الأربعة إلا الزراعة، "حتى النساء والأبناء يساعدوننا في ذلك ولكن منذ مطلع العام الماضي أصبحنا غرباء عن الزراعة". "انظري"، هكذا يقول لي، "لم يعد لنا إلا بعض هذه الأشجار المتناثرة هنا وهناك والتي لم تعد مثمرة كما الماضي؛ كما أن الخوف يملا قلوبنا من الإقدام على تناول أي من ثمارها خوفا من التلوث".
وفي خان يونس تحط آفاق البيئة والتنمية رحالها لدى مزارعي الجنوب الذين باتوا يضربون كفا على كف ليس فقط جراء تدمير أراضيهم الزراعية بل لاستهدافها بصورة مستمرة؛ فلا يكاد يمضي يوم إلا ويكون لها نصيب من قذائف الاحتلال التي تقتل كل ما تقابله.
المزارع حسين أبو طعيمة من بني سهيلا جنوب القطاع يوضح أنه لن يترك أرضه الزراعية مهما بلغت قسوة وممارسات الاحتلال، ويضيف أين أذهب أنا وأسرتي التي تجاوزت 24 فردا؛ فالأرض هي مصدر رزقنا الوحيد وهي الحياة لنا".
ويتابع حديثه وهو يعمل على جمع محصول البطاطس -العروة الأولى- كما يقول: "لن أترك الأرض، سأواصل الزراعة، وسأقف للاحتلال وممارساته بالمرصاد، ولن أتوانى عن ردهم، والعمل على استصلاح أرضي فهي أغلى من عائلتي".
ويوضح بأن الاحتلال استهدف أيضا الأشجار المثمرة لاسيما الزيتون، النخيل، والحمضيات، لافتا إلى أن المحصول الزراعي انخفض بأكثر من 40%.
ويؤكد المزارعون أن القذائف الصهيونية، لا سيما "الفسفور الأبيض"، والقذائف الحارقة هي السبب في الانخفاض الحاد وغير المسبوق في محصولَيْ الزيتون والنخيل في الحقول التي نجت من التجريف الصهيوني في القطاع.
وبدت مظاهر خيبة الأمل جلية على وجه المزارع أبو طعيمة الستيني مؤكدًا أن "المحصول في انخفاض بصورة متواصلة،"
ويضيف: "إلى جانب الخسارة الكبيرة التي لحقت بنا نتيجة تجريف أراضينا وحرقها ، يكاد يكون الحصاد لما تبقى من أشجار معدومًا بطريقة لم تحدث من قبل"، مشيرًا إلى أن هذا البلاء لم يكن من نصيبه وحده، بل ينطبق على جميع الحقول الزراعية في المنطقة.
دمي ليس أغلى من الأرض
وبدورها أكدت المزارعة أم محمد النجار من عبسان الكبيرة جنوب قطاع غزة أن حياتها باتت معاناة بعد أن دمرت أرضها وأصبحت لا تفي بالمستلزمات الأساسية لأسرتها؛ وتشير إلى أن هذه الأرض التي تملكها العائلة والبالغة 8 دونمات تفقد صلاحيتها يوما بعد يوم، وأن الإنتاج في تراجع كبير من حيث الكمية والنوعية.
وتضيف صاحبة البشرة السمراء وهي تتكئ على عكاز في يديها: "لا يمكنني أن أغيب عن أرضي للحظة واحدة ولن أغيب. قبل عام دفعنا الاحتلال إلى تركها ليدمرها بسلاحه الإجرامي ويتركها مريضة حتى اليوم، ولكنني لن أتركها أيا كانت النتيجة؛ فدمي ليس بأغلى من ارضي".
في جنوب القطاع وشماله الصورة ذاتها تتكرر والألم يتواصل على الأرض التي انتهكت وقتلت بفعل الاحتلال لإسرائيلي وممارساته وقذائفه المحرمة دوليا. اليوم قد نجد عشبة هنا أو هناك، لكن المستقبل دام ويزداد اسودادا في ظل توقف الزراعة وقتل التنوع الحيوي والاعتماد على ما قد يصل إلينا من الخارج.
"آفاق البيئة والتنمية" توجه نداء عاجلا وصرخة للضمائر الحية. قطاع غزة يئن وأرضه تموت، فأين هي خطط الإنقاذ التي طالما تبجح بها كل من أيد تدمير غزة وأهلها!!
|