في غزة .. عام بيئي ملوث
سمر شاهين / غزة
كان صباح يوم السابع والعشرين من شهر كانون أول مؤلما هذا العام، فالذكريات كثيرة، وذاكرتي تنضح بالكثير من الألم. قصاصة ورق و قلم صغير حملتهما بيدي، وقررت أن أجوب القطاع لأخفف من غصة الحلق التي كادت تخنقني حينما أشارت عقارب الساعة إلى الحادية عشر والثلث. حينها انهالت علي ذكريات ذلك اليوم من العام الماضي حينما كنت اجمع مشاهد بيئية. المكان ذاته هنا، مقر السرايا وسط مدينة غزة؛ حيث كان يعلو آنذاك بناء تاريخي، أما اليوم فكومة حديد تم جمعها من ذلك البناء الذي أصبح اثرا بعد عين، كومة من الركام غلب عليها اللون الأسود.
|
|
|
|
كومة ركام، بفعل صواريخ الاحتلال الإسرائيلي التي ألقت عليها حمم نارها عبر صواريخ حملت متفجرات تعد العدو الأول للبيئة التي لحق وما زال يلحق بها ضرر في كافة الجوانب؛ فالحديد غطاه الصدأ الذي ينساب إلى التربة ليل نهار دون أن يعمل احد على رفعه من مكانه، أو تجميعه ورفعه عن الأرض. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل بقى جانب كبير من الردم مكانه، كدليل حي على جرائم الاحتلال. وتزداد هذه الجرائم قسوة على البيئة الفلسطينية في كل لحظة؛ حيث اجمع عدد من خبراء البيئة أن بقاء الركام يعني تسرب مواد سامة إلى باطن التربة، علما بأن الركام اختلط مع مواد المتفجرات.
المشهد الثاني...
وفي تل الهوى جنوب مدينة غزة، قادتني قدماي إلى مجمع الدوائر الحكومية الذي كان معلما لبناء جديد مميز، أما اليوم فيئن منال دمار وأي دمار. فالمبنى مازال شامخاً، لكن الدمار أجهز عليه، والركام حوله يتناثر، وقذائف الاحتلال وما حملته من سموم مازالت كما هي منذ عام، والأرض والتربة تحتضنان في باطنهما ملوثات كيماوية.
ويقول احد أفراد الشرطة المتواجدين في المكان: "حتى يومنا هذا نشتم أحيانا رائحة هذه المتفجرات، ونشاهد كيف أن الرمل والتربة باتا يميلان إلى اللون الأسود، ومن يلمسهما بيديه يلاحظ أن طبيعتيهما تختلفان عن الرمل والتربة اللتين لم تتعرضا لتلك المواد والمتفجرات.
ويتابع لـ"آفاق البيئة والتنمية" التي جابت القطاع في ذكرى الحرب الأولى التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي ظهيرة يوم السابع والعشرين من كانون أول عام 2008 وألقت خلالها 1500 قذيفة فسفورية وقتلت نحو 1500 فلسطيني: "حجم الدمار كبير والحصار حال دون إدخال المعدات اللازمة من اجل إزالة الركام، لهذا بقي كما هو منذ انتهاء الحرب (...) وجوده يشكل خطر كبير لاسيما وان المبنى آيل للسقوط نتيجة الضربات العسكرية الإسرائيلية، والى أن تتوفر الإمكانات والمعدات لإزالته فان البيئة والتربة ستبقيان على ما هما عليه من ملوثات تلو الملوثات لتستمر المعاناة".
المشهد الثالث...
ولأنه جبل الريس فكان لزاما علينا أن نقف عليه ونستشعر لحظات الألم التي تكبدها قاطنوه على مدار 22 يوما هي فترة العدوان الإسرائيلي. وخلال مرورنا في منطقة الشعف شرق المدينة كانت أطنان من الركام والمنازل ساجدة لله على الأرض؛ فالمكان بدا وكأن زلزالا ضربه للتو وارتفع مؤشر ريختر إلى أعلى درجاته.
وقفت في المكان وكنت أرى جموع الناس ودموعهم تحيى ذكرى أليمة على قلوبهم، لكن ما لم يشعر به الناس أن بيئتهم أيضا باتت تحتضر وبات الألم حليفها؛ فالمنطقة خراب ودمار وأكوام الحجارة تراوح مكانها والحديد ومخلفات القصف مكانها، والأطفال يتنقلون هنا وهناك على جانب الركام، بعضهم عاري القدمين وآخرون يلهون بالحديد والركام غير آبهين بالنتائج.
وتقول المواطنة سميرة الشيخ من المنقطة: "الوضع على حاله، الركام والحجارة عنوان لمنطقتنا. ومنذ أن عدنا للمكان عقب الحرب لم يتغير شئ سوى نصب خيام للمواطنين ومن ثم تركهم يدبرون أمورهم، رغم معرفة كل المؤسسات دون استثناء، لاسيما المؤسسات المانحة والدولية، أن الإنسان الفلسطيني في القطاع بالكاد يستطيع توفير لقمة عيشه، فكيف له إعادة إعمار منزله أو حتى استصلاحه.
وتضيف الشيخ وهي تشير إلى منزلها الذي بات اثرا بعد عين: "هذا منزلي، حاولنا استصلاح بعض حجارته حتى نعد منها غرفة نوم، لكن لم نتمكن من ذلك، بل وحتى الأرض التي كنت استغلها لزراعة البقدونس والسبانخ لم تعد صالحة للزراعة، وإذا ما نبتت أي من المزروعات فإنها تكون مليئة بالحبوب، وورقها يجف بسرعة وبات لدينا تخوف من تناولها".
المشهد الرابع...
رفح، جنوب القطاع، كانت محطتنا الرابعة من مشاهد بيئية؛ حيث الأنفاق والجدار الفولاذي على الحدود الفلسطينية المصرية. وصلت المكان والساعة تشير الثالثة عصراً، واقتربت أكثر وأكثر من بعض الاتفاق، بعد أن نسقت مسبقا مع أصحابها. بدا المكان كخلية نحل، والخوف كان سيد الموقف. الخوف من طائرات الاحتلال، والخوف من انهيار النفق لا قدر الله ومن العمل داخله. أما الخوف الثالث فمن الأمن المصري الذي بات يتصيد هذه الأنفاق ويفجرها. لكن شيئا واحدا كنت ابحث عنه: هل استخدم الاحتلال في قصفه لهذه الأنفاق اليورانيوم المنضب، كما أشارت بعض التقارير الإعلامية. أحد العاملين في هذه الأنفاق قال لي بصوت تعب، خاصة وانه كان يساهم في حفر نفق جديد: "الاحتلال استخدم كل شيء وجرب كل أسلحته، وفجأة كشف لي عن يده وقال انظري، كانت مليئة بالبثور والتسلخات".
ويتابع: "ما ألم بيدي وجسدي أصبت به منذ أن بدأت العمل في الأنفاق؛ لاسيما حينما يتم الحفر. فما أن نبدأ عملية الحفر، يتحول جسدي، وكذلك أجساد العديد من المشاركين معي، إلى خلية من الحبوب التي تتفاعل بسرعة مع بعضها البعض، ونأخذ بالهرش من اجل تهدئتها، ولكنها تواصل في الازدياد".
ويشير إلى أن هذه الحبوب والتسلخات تزول، وتنتهي عملية الهرش، الا أن الطبع والاثار الناجمة عنها تبقى على الجسم ولا تزول.
ويبين ان البعض بات يصاب بأمراض دون سابق إنذار؛ لاسيما أولئك الذين يوصلون الليل بالنهار في العمل داخل الأنفاق.
وختاما...
عام طوى أوراقه... وعام فتح ورقة جديدة...والبيئة الفلسطينية مازالت تراوح مكانها في التلوث والأمراض والدمار، حتى باتت تشكل خطرا حقيقيا على الإنسان الفلسطيني، ويبقى السؤال إلى متى ؟!! |