خاص بآفاق البيئة والتنمية
خلال العدوان الدموي الأخير على قطاع غزة، استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي بشكل منهجي ليس فقط الأهالي، بل أيضا العديد من المواقع التراثية والتاريخية والثقافية والعلمية ودمرها، ما خلف جرحا عميقا لا يُمحى في الذاكرة الفلسطينية الجمعية. دمرت ماكنة الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة الهوية والثقافة والحضارة والمعرفة والتاريخ والفضاء الهندسي المعماري والمدني بكل أبعاده وتفاصيله، وبالتالي أزالت التاريخ والإرث الثقافي والذكريات والذاكرة الجماعية والقصص والتقاليد والارتباط الحسي والوجداني بالأرض والفضاء المادي الذي يغلفها. الكنائس والمساجد والهياكل القديمة تمثل رموزاً للصمود والإيمان والتحمل. لذا، فإن تدميرها يرسل رسالة دموية صارخة عن الطمس والاقتلاع والتهجير. دولة الاحتلال تضرب بعرض الحائط قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني المتعلقة بحماية الإرث الثقافي. الأحكام القانونية موجودة؛ لكن التحدي الدولي يكمن في تنفيذها.
|
 |
موقع قصر الباشا قبل التدمير وبعد التدمير |
قطاع غزة، الشريط الساحلي كثيف السكان، يمتلك تاريخاً حافلا غنياً متنوعاً وطويلا، يمتد عبر آلاف السنين، وكان موطناً لمختلف الحضارات، بما في ذلك الفراعنة القدماء والكنعانيين والفلسطينيين والبيزنطيين والعثمانيين. خلال العدوان الدموي الأخير، استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي بشكل منهجي ليس فقط الأهالي ومنازلهم ومشافيهم ومنشآتهم، بل أيضا العديد من المواقع التراثية والتاريخية والثقافية والعلمية ودمرها، ما خلف جرحا عميقا لا يُمحى في الذاكرة الفلسطينية الجمعية.
منذ أكتوبر 2023، دمرت قوات الاحتلال مئات المباني التاريخية في قطاع غزة، بما في ذلك مبان عمرها مئات السنين، واستهدف العدوان العديد من المواقع الأثرية والتاريخية والثقافية والجامعات والمدارس والمتاحف والمكتبات ودور الأرشيف، فقصفها وألحق بها أضرارا لا يمكن إصلاحها.
ويقدر عدد المواقع التراثية والأثرية التي دمرها الاحتلال بأكثر من 200 من أصل 325 موقعا معروفا في قطاع غزة، شملت المساجد والكنائس التاريخية والمنازل الأثرية القديمة والمتاحف والعديد من المواقع التراثية الهامة والنادرة؛ ما يعد أبشع عملية إفناء معاصرة للعمق التاريخي وللوجود الثقافي والتراثي الفلسطيني.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، من بين أبرز المواقع التراثية التي دمرها الاحتلال كليا أو جزئيا: المسجد العمري في جباليا، مسجد الشيخ شعبان، مسجد خليل الرحمن في عبسان قضاء خانيونس جنوب القطاع، مسجد السيد هاشم في مدينة غزة، مقام الخضر في دير البلح، كنيسة جباليا البيزنطية، كنيسة القديس بيرفيريوس في حي الزيتون (مدينة غزة)، ميناء الأنثيدون (البلاخية) شمال غرب مدينة غزة، تل المنطار في مدينة غزة والذي أنشأه الكنعانيون منذ آلاف السنين كموقع دفاعي صلب ضد الغزاة من الجهة الشرقية للمدينة، مركز المخطوطات والوثائق التاريخية القديمة في مدينة غزة، بيت السقا التراثي في الشجاعية، ومواقع تراثية وأثرية هامة كثيرة أخرى.
سنستعرض في هذه العجالة بعض أبرز المواقع والصروح الأثرية والتراثية والثقافية التي استهدفها العدوان بالقصف والتدمير، إلى جانب محو وطمس كل ملامح الحياة في قطاع غزة، من منازل وجامعات ومدارس ومشافي ومتاحف.

القصف الإسرائيلي لكنيسة القديس بيرفيريوس في غزة وهي ثالث أقدم كنيسة في العالم
تدمير المواقع الدينية
دمر الاحتلال في قطاع غزة مئات المساجد تدميرا كليا أو جزئيا. من بينها مسجد عثمان بن قشقار في حي الزيتون الذي يعود تاريخه إلى القرن الثالث عشر، ومسجد السيد هاشم الذي يحوي قبر جد النبي محمد، والجامع العمري في البلدة القديمة (في حي الدرج وسط مدينة غزة)، وهو أكبر وأقدم مسجد في قطاع غزة، وثالث أكبر مسجد في فلسطين (بعد المسجد الأقصى ومسجد أحمد باشا الجزار في عكا). يعود تاريخه إلى القرن السابع، وتبرز أهميته الثقافية من خلال تميزه بفن العمارة الإسلامي.
كذلك قصف الاحتلال كنيسة القديس بيرفيريوس في مدينة غزة العتيقة (في حي الزيتون) المبنية على الطراز البيزنطي، فدُمِّر أجزاء من معالمها التاريخية، واستشهد فيها 20 غزيا. وهي ثالث أقدم كنيسة في العالم، إذ بُنيت في القرن الخامس الميلادي، ما أكسبها أهمية دينية وأثرية عالمية، فتم ترشيحها لتصبح على لائحة التراث العالمي.

القصف الإسرائيلي لمشفى المعمداني في غزة
مَحْق الصروح التاريخية والثقافية
يصعب حصر المواقع التاريخية والثقافية والهياكل الأثرية الغزية التي استهدفتها دولة الاحتلال بالقصف والتدمير واسع النطاق لكثرتها. فعلى سبيل المثال، المتاحف الثقافية التي استضافت الآثار التي تمثل ماضي غزة، لم تسلم من العدوان الدموي الشامل الذي دمر تلك الصروح التي تعتبر مستودعات للمعرفة والهوية. ومن أبرز تلك المتاحف "متحف العقاد" في خانيونس، إذ قُصِف ودُمِّر جزء كبير من قطعه الأثرية. ويحوي المتحف قطعاً أثرية نادرة وقيّمة، منها نحو 2800 قطعة من عصور ما قبل التاريخ وصولا إلى العصر الحديث.
"قصر الباشا" (في حي الدرج) استُهدِف أيضا بالقصف والتخريب، وهو من النماذج المتبقية للقصور في مدينة غزة ونموذج للعمارة الإسلامية المملوكية.
كما أن حي الرمال غرب مدينة غزة يعد من أبرز أحيائها، وقد دمره الاحتلال تدميرا كاملا ودمر معه بالتالي معالمه الثقافية والتراثية التي أكسبته أهميته الثقافية، كساحة (أو ميدان) الجندي المجهول الواقع في ذات الحي على امتداد شارع عمر المختار.
كما أن أهم جامعات قطاع غزة موجودة في حي الرمال، مثل الجامعة الإسلامية التي تعرضت لدمار كبير، وجامعة الأزهر التي دُمرت تدميرا كليا. وخلال العدوان، كرر الاحتلال قصف ذات الجامعات، لتأكيد إصراره على استئصال الثقافة الفلسطينية وتكريس سياسة التجهيل. وفي ذات الحي أيضا، دمر الجيش الإسرائيلي مركز رشاد الشوا الثقافي، فحوله إلى ركام، علما أن المركز كان يعد الواجهة الثقافية والحضارية الأبرز في المدينة، فاحتضن العديد من الأنشطة والفعاليات الثقافية والفنية والسياسية.
أما حي الدرج، الواجهة الأثرية لمدينة غزة العتيقة، الذي ينبعث منه عبق التاريخ، فعمد الاحتلال إلى تسوية معظمه بالأرض. ويعد هذا الحي من أبرز الأحياء التاريخية ذات النمط المعماري المملوكي، وتنتشر في أزقته معالم أثرية كثيرة أشهرها المسجد العمري، أكبر مساجد القطاع.
وفي ذات السياق، لا ننسى مشفى المعمداني في حي الزيتون بمدينة غزة، حيث اقترف فيه الاحتلال مجزرة مروعة، إثر قصف المشفى وقتل من فيه من أطفال ونساء وشيوخ، فبلغ عدد الشهداء نحو 500. وهو من أقدم مشافي غزة (تأسس عام 1882)، وتجاوره كنيسة ودير، علما أن المنطقة تحوي أهم المعالم العثمانية في قطاع غزة.
يضاف إلى ما ذكر، الدمار الذي أصاب الحمامات العثمانية كحمام السمرة، وهو الأخير الباقي في مدينة غزة.
وإجمالا، أفنى الاحتلال العديد من المواقع التاريخية والهياكل الأثرية، بعضها يعود تاريخه إلى آلاف السنين، فتحولت إلى ركام. كانت هذه المواقع تحمل أدلةً على حضارات المنطقة القديمة وإسهاماتها في تاريخ البشرية. تدمير المواقع التاريخية يتجاوز مجرد الأضرار المادية، إذ أنه يستهدف جوهر الهوية الفلسطينية واستمرارية الثقافة.

تدمير الاحتلال الإسرائيلي للمسجد العمري أكبر وأقدم مسجد في قطاع غزة وثالث أكبر مسجد في فلسطين
المواقع التاريخية تتميز بروابطها الملموسةً بالماضي، إذ تجسد الذاكرة الجماعية والذكريات والقصص والتقاليد، وبالتالي تدميرها يؤدي إلى انقطاع استمرار الذاكرة، ما يعزل الأجيال القادمة عن تراثها.
الكنائس والمساجد والهياكل القديمة تمثل رموزاً للصمود والإيمان والتحمل. لذا، فإن تدميرها يرسل رسالة دموية صارخة عن الطمس والاقتلاع والتهجير.
الفن والهندسة المعمارية والآثار تعد تعبيراً عن الثقافة. تدمير هذه المواقع والمعالم تسبب في محو جزء هام من تاريخ قطاع غزة، وبالتالي فقدان الشعب الفلسطيني جزءًا أساسيًا من تراثه الثقافي ومعلومات تاريخية قيمة. وبالطبع، تدمير هذه العناصر، يؤدي إلى تراجع وهبوط نشاط حياة المجتمع الثقافية.

قصفت إسرائيل ودمرت الجامعة الإسلامية في غزة
اغتيال الرموز الفكرية والعلمية
طالت الهجمات العسكرية الإسرائيلية المنظمة نسبة مرتفعة من مكونات الخزان البشري المعرفي والفكري والعلمي والثقافي في قطاع غزة، إذ قُتِلَ أكثر من مائة شخصية فكرية وعلمية وأكاديمية، استُشهِد منهم العشرات في قصف مباشر لمنازلهم التي دُمِّرت على رؤوسهم مع أفراد عائلاتهم، فدفنوا تحت الأنقاض. معظم الأكاديميين الشهداء يعتبرون أساطين العمل الأكاديمي والبحثي في جامعات قطاع غزة.
منذ بداية العدوان، اغتالت القوات الإسرائيلية عشرات الفنانين والناشطين والكتاب وصناع الفن المقاوم، علاوة على تدمير مطابع ودور نشر ومكتبات عامة ومراكز ثقافية وشركات واستوديوهات إنتاج إعلامية وفنية.
كما عمدت قوات الاحتلال إلى قصف وتفجير جميع الجامعات في القطاع، مثل مباني جامعتي الإسلامية والأزهر وسائر الجامعات التي حولها الاحتلال إلى ثكنات عسكرية ومن ثم نسفها بالكامل، كما حدث في جامعة الإسراء (جنوب مدينة غزة) التي وثق الاحتلال، بغطرسة حاقدة (في 17 كانون ثاني الماضي)، عملية تفجيرها ونسفها، فدمر المتحف الوطني في الجامعة، الذي يعد أهم متحف أكاديمي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ويحوي أكثر من 3 آلاف قطعة تراثية وأثرية نادرة سرقها الجيش الإسرائيلي قبل تفجير المبنى، بحسب تأكيد إدارة الجامعة.

الشاش الطبي الذي اخترعه أهل غزة القدامى
فاجعة للذاكرة الإنسانية
الفلسطينيون ليسوا وحدهم ضحايا الحرب الإسرائيلية الدامية المتمثلة بالتدمير العبثي للمُعطى الإنساني-الحضاري-الثقافي في قطاع غزة، بل تشكل هذه الجريمة خسارة خالصة للذاكرة الإنسانية. غزة التي اخترعت تاريخيا الشاش الطبي تواجه اليوم مجزرة بشعة على تراثها الثقافي، بما في ذلك المتاحف والمباني التاريخية التي آوت عشرات آلاف القطع الأثرية التي تحولت إلى أنقاض.
الشاش الطبي الذي لا يخلو منه أي مشفى أو مركز صحي، صدرته غزة قبل قرون، وضمدت به الجرحى في العالم، لكنها اليوم تكاد لا تجده؛ حيث يستشهد عدد كبير من جرحاها، رغم جراحهم غير المميتة التي تتحول إلى التهابات قاتلة بسبب غياب مستلزمات الإسعاف الأولي. الشاش الطبي الذي يعود أصل صناعته لأهل مدينة غزة القدامى، ازدهرت صناعته خلال حروب الفرنجة (الصليبية)، فنقله الفرنسيون إلى أوروبا في القرن الثالث عشر، مع حفاظهم على اسمه باللغة الفرنسية، المنسوب إلى المدينة التي أكتشف فيها(Gaze).
كما اشتهرت غزة بصناعة الفخار والزجاج والأخشاب التي صدرتها طيلة قرون طويلة، حتى عام 1967 حين ابتليت بالاحتلال الاسرائيلي الذي حجب صناعاتها عن الخارج.
خلاصة القول، هدفت ماكنة الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة تدمير الهوية والثقافة والحضارة والمعرفة والتاريخ والفضاء الهندسي المعماري والمدني بكل أبعاده وتفاصيله، وبالتالي إزالة التاريخ والإرث الثقافي والذكريات والارتباط الحسي والوجداني بالأرض والفضاء المادي الذي يغلفها.
في الواقع، تدمير دولة الاحتلال للمشهد الثقافي والحضاري في قطاع غزة ليس مستجدا، بل استمرارا مكثفا وصارخا لما دأبت تلك الدولة على فعله طيلة عشرات العقود الماضية، بشكل منهجي منظم، ليس فقط لإفناء الفلسطينيين واقتلاعهم من وطنهم وإحلال مستوطنيها على أنقاضهم في أراضيهم وديارهم، بل لسحق السردية الفلسطينية. رغم ذلك، الرواية الفلسطينية الأصلانية لم ولن تندثر، نظرا للقوة التاريخية لثقافة السكان الفلسطينيين الأصليين، ولامتلاكهم ميراثا ثقافيا وحضاريا ثريا متجذرا.

قصف وتفجير جامعة الإسراء في غزة
الأحكام القانونية والمساءلة
نظريا، توفر القوانين الدولية حماية للتراث الثقافي خلال الحروب والصراعات المسلحة، فاتفاقية لاهاي (1954) تهدف إلى حماية الممتلكات الثقافية خلال النزاعات المسلحة، وبالتالي تحظر الهجمات المتعمدة على المواقع الثقافية وتؤكد على أهمية الحفاظ على التراث لصالح الإنسانية. دولة الاحتلال تضرب بعرض الحائط قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني المتعلقة بحماية الإرث الثقافي.
وبحسب تقارير وشهادات كثيرة، تعرضت آلاف القطع الأثرية النادرة في قطاع غزة لسرقة منظمة من الجيش الإسرائيلي، كما حدث في موقع "تل أم عامر" (دير القديس هيلاريون)، ما يعد جريمة حرب حسب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. كما أن اتفاقية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) لعام 1970 أكدت بأن سرقة الآثار والتجارة غير المشروعة بها وبالأملاك الثقافية، تعد جريمة حرب حسب القانون الدولي.
إذن، الأحكام القانونية موجودة؛ لكن التحدي الدولي يكمن في تنفيذها. فيفترض باليونسكو تحديدا القيام بدورها فورا وإرسال فريق تحقيق إلى قطاع غزة، مهمته الأساسية الكشف عن مصير آلاف القطع الأثرية، والتحقق من مآل المواقع الأثرية والتاريخية، ومحاسبة دولة الاحتلال على تدميرها للتراث الحضاري الإنساني وسرقته، واتخاذ إجراءات قانونية عقابية ضد المسؤولين.
المراجع:
- Middle East Eye. Israel's war erases Gaza's religious and cultural heritage, January 12,2024 (https://rb.gy/unbe2s)
- Museums Association. Widescale destruction of cultural heritage in Gaza, January 30, 2024(https://rb.gy/0hcjc3)
- Mises Institute. Israel’s "Hamas made me do it" claim doesen’t excuse Tel Aviv’s barbarism, January 8, 2024 (https://rb.gy/lpxn6g)
- شاعر، أميرة ودانية اشتي. التراث الثقافي في قطاع غزة: شاهد وشهيد. مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 18/11/2023 (https://rb.gy/ni13gl)