حبيب معلوف
أفضت المناقشات التي انتهت أخيراً في اليونيسكو في باريس، في الاجتماع الثاني للجنة التفاوض الحكومية الدولية المعنية بوضع وثيقة دولية ملزمة قانوناً بشأن التلوث بالنفايات البلاستيكية، بما فيها البيئة البحرية، إلى وضع مسوّدة الاتفاق لإبرامه نهاية عام 2024.
هذه الجولة من المفاوضات التي تحصل برعاية الأمم المتحدة، لم تخلُ من التجاذبات المعهودة بين دول تمثل أصحاب مصالح في الصناعات البتروكيميائية، وتعبّر عادة عن إيديولوجيات فكرية واقتصادية مسيطرة.
الدراسة التي عرضتها "منظمة الأمم المتحدة للبيئة"، أظهرت أن حجم النفايات البلاستيكية بات يتجاوز 430 مليون طن سنوياً، مع احتمال أن تتضاعف ثلاث مرات بحلول عام 2060، ليست هي المحرك الرئيس لإيجاد حلول لمشكلة النفايات البلاستيكية، لا تحلّل هذه النفايات إلى جزيئات دقيقة ودخولها في السلسلة الغذائية وتسببّها بتلوث التربة والمياه وبأمراض إنسانية خطيرة وبآثار مدّمرة على المناخ والتنوع البيولوجي عامة، والسبب الرئيس في تحول النفايات البلاستيكية لقضية دولية، هو توقف الصين عام 2019 عن استيراد قسم كبير منها لإعادة تصنيعها وتدويرها، ما جعل نسب إعادة التصنيع تتدنى إلى حدودها الدنيا، أي أقل من 10% من حجم هذه النفايات حول العالم.
تزامنَ ذلك مع تراجع كثير من محارق الدول الغربية عن استقبال هذه النفايات لتسببها في إنتاج مادة "الديوكسين" المسرطنة، وزيادة كلفة الفلترة والتخلص النهائي من رماد القاع وذاك المتطاير والعالق في الفلاتر، والذي يُعد في غاية الخطورة، وبقاء القسم الأكبر من هذه النفايات في مكبات عشوائية وفي الوديان والأنهار والبحار والمحيطات. الصراع في المفاوضات الدولية تمحور حول تقاذف المسؤوليات في المعالجة، بين من يحمّل هذه المسؤوليات للمنتج، والدول المنتجة التي تتذرّع بأن نصف حجم النفايات المذكورة مستخدمة على المستوى الفردي، ويجب أن تَطال إجراءات المعالجة (ولا سيما الضرائبية) الاستهلاك والمستهلك، ومن يركز على إعادة التدوير والاستخدام ويدعو إلى الاستغناء نهائياً عن المنتجات ذات الاستخدام الواحد بوجود البدائل.
وكانت الأمم المتحدة روّجت لما يُسمى الاقتصاد الدائري وضرورة تتبع سلسلة حياة المنتجات، معتبرة أن الحل الدائري لمشكلة النفايات البلاستيكية يقوم على ثلاثة محاور، الأول يتصل بإعادة الاستخدام لتشجيع المنتجات التي تُردّ وتُستخدم أكثر من مرة، مع ضريبة على المنتج المستخدم لمرة واحدة لتشجيع المنتجات القابلة لإعادة الاستخدام. والثاني، يقوم على تشجيع صناعة إعادة تدوير النفايات والتخفيف من حجمها، والثالث، إعادة التوجيه والتنويع وإيجاد البدائل للبلاستيك، باعتبار أن المشكلة الكبرى هي في أغلفة السلع البلاستيكية التي يمكن استبدالها بالورقية والزجاجية على سبيل المثال.
تلك الأعمدة الثلاثة تخفف من تحميل المنتج المسؤولية، ولا سيما عند من يؤكد أن في المنتجات البلاستيكية البتروكيميائية إضافات كيميائية خطرة يُفترض ألا تدخل في التصنيع، وأن تشملها مهمة البحث عن البدائل في الاتفاقية المزمع إبرامها بحيث تلزم الدول والصناعات، لا سيما أن عمليات إعادة التصنيع غير كافية.
هدف الأمم المتحدة من هذه الاتفاقية التي نوقشت في الجمعية العامة للأمم المتحدة للبيئة العام الماضي، في نيروبي، خفض 80% من النفايات البلاستيكية بحلول 2040.
إلا أن السؤال الأساسي الذي يُطرح في المفاوضات حول الاتفاقية، كما في كل الاتفاقيات المشابهة، هو "من سيدفع كلفة المعالجة وإيجاد البدائل، والتي لا يمكن تحديدها إلا بعد تحديد المسؤوليات وتقسيمها؟".
لتبرير ضرورة إيجاد الحلول وتسهيل دفع كلفة المعالجة، بيّنت الأمم المتحدة في دراستها أن التكاليف الاجتماعية والاقتصادية للتلوث بالمواد البلاستيكية تراوح بين 300 و600 مليار دولار سنوياً، ويبدو أن مسألة الكلفة وكيفية احتسابها لم تؤثر في قضايا ودراسات سابقة على الدول للمضي قدماً في إيجاد الحلول، لسبب جوهري، هو أن الشركات باتت تسيطر على الدول وليس العكس، ما ينعكس على آراء ممثلي بعض الدول ومن يدور في فلك تلك الشركات من سياسيين ومفاوضين وخبراء.
ما يحصل الآن فيما يخص المفاوضات حول الاتفاقية الدولية المتعلقة بالنفايات البلاستيكية، سبق أن حصل مع الاتفاقية المتعلقة بالتنوع البيولوجي، عندما أدّت ضغوط شركات الأدوية الزراعية الكيميائية التي تتسبب بضرب التنوع البيولوجي العالمي في إفراغ هذه الاتفاقيات من مضمونها طوال السنوات الماضية.
وهي الحال ذاتها مع اتفاقية تغير المناخ الأكبر، والأخطر التي لا تزال تخضع لهذا الصراع العالمي على الطاقة والموارد والأسواق، والتي استباحت كل شيء في سبيل المنافسة والربح، مع الإشارة إلى أن قوة البلاستيك ناجمة عن قوة الإيديولوجيات المنتجة لها.
قد لا يعرف كثيرون اليوم، يشاركون في المفاوضات أو في الحملات الدولية والمحلية ضد البلاستيك، أنهم يتبنّون إيديولوجيات منتجة لها، لا يمكن مقاومتها بهذه البساطة.
في طليعة هذه الإيديولوجيات تلك التي تدّعي أن الفكرة "السلعة" الصحيحة في المجتمع هي الأكثر ليونة وقبولاً ونفعية.
وهل هناك ما هو أكثر ليونة من البلاستيك في استخداماته كافة، من فرشاة الأسنان إلى كيس النايلون؟ فكيف نصدق أن الدول والمجتمعات ستتخلى عن البلاستيك من دون أن تتخلى عن الفلسفة البراغماتية العملية والنفعية؟