:سياحة بيئية
من بلدة تنتشر فيها القوارض إلى رمز حضاري
دير إستيا.. نموذج مشرف في الحفاظ على التاريخ
رائد جمال موقدي
خاص بآفاق البيئية والتنمية
تعد البلدة القديمة في بلدة دير إستيا نموذجاً حياً لمدى اصرار الانسان الفلسطيني في الحفاظ على تراثه ومعالم بلاده التاريخية، التي تعكس الهوية الحقيقية للارض في وجه مخططات الاحتلال الاسرائيلي الهادفة الى انتزاع الشرعية وسرقة التراث ومقدرات الأمة.
فالزائر للبلدة القديمة في دير إستيا، يدهش من عظمة ابنيتها التي تعكس التراث المعماري العربي من حيث نظام الاقواس والقباب، وبأزقتها المبلطة الضيقة وحواريها وأسبطتها المقوسة الجميلة التي تعود الى العهد المملوكي والعثماني، حيث تشكل البلدة القديمة وحدة واحدة تتربع على مساحة لا تقل عن 150 دونما، يمكن الدخول اليها عبر احدى بواباتها الأربعة التي تغلق ليلا وتفتح نهارا وتسمى هذه المداخل (السياط).
هذا بدوره رشحها لتكون عاصمة التراث الفلسطيني في محافظة سلفيت ومحط انظار الزوار والسياح، وقد تم اختيارها حديثا لتكون مكاناً لتنظيم حفل زفافٍ لعروسين قادمين من مخيمات الشتات ضمن الملتقى الثقافي الفلسطيني الخامس لشهر نيسان 2012م، حيث أقيم العرس وفق العادات والتقاليد القديمة التي كانت تسود فلسطين قبل النكبة، عبر حمام العريس وسط الأغاني والأهازيج الشعبية، ومن ثم زفة العروسين على الحصان في أزقة وأروقة البلدة القديمة، والانتقال إلى ساحة الشهداء، حيث شاركهما الرجال والنساء الغناء والدبكة الشعبية والزغاريد، ما عكس لوحة تراثية قلّما نراها اليوم.
|
أبنية البلدة القديمة في دير استيا تعود إلى العهد المملوكي |
من منطقة مهجورة إلى تحفة فنية
وقد عانت البلدة القديمة في الماضي قبل قدوم السلطة الفلسطينية من استهداف الاحتلال لها، بعمليات الهدم والتخريب بحجة ملاحقة المطلوبين إبان الانتفاضة الاولى، فمنعت اعمال الترميم في البلدة وكانت النتيجة الحتمية هجرة عدد كبير من سكانها باتجاه البلدة الجديدة، فأصبحت تعاني معظم بيوتها التهميش وتنبعث من أزقتها الضيقة الروائح الكريهة.
لكن انطلاقا من ايمان الانسان الفلسطيني بضرورة الحفاظ على تراثه، تطوع مجموعة من الشبان في بلدة دير إستيا عبر اتحاد الشباب الفلسطيني أوائل التسعينيات في عملية اعادة ترميم مقر لهم في البلدة القديمة واتخاذه مركزاً لنشاطات الاتحاد الشبابي، بل تطور الامر عام 1996م لتنفيذ مخيم تطوعي شارك به عدد كبير من الشبان العرب والاجانب بالتعاون مع بلدية دير إستيا لإعادة ترميم بعض المراكز الحساسة في البلدة القديمة، فتم ترميم روضة اطفال ونادي دير إسيتا النسوي ونادي دير إستيا الرياضي بالاضافة الى ترميم المضافة في وسط البلدة القديمة التي كانت تعد في الماضي مكانا مخصصاً لإدارة شؤون البلدة، عدى عن كونها مكانا للسمر والضيافة والمناسبات المختلفة ومكاناً لمبيت الزوار القادمين الى البلدة. وقد ساهم الترميم في دب الحياة من جديد إلى البلدة القديمة، فأصبحت مركزاً للأنشطة المختلفة.
|
أبنية دير استيا في البلدة القديمة تعتمد على نظام الأقواس والقبب |
الحياة تعود لدير استيا
وقد حققت فكرة المخيم التطوعي نجاحا باهرا غير متوقع، ما شجع شبان البلدة لتكراره عام 1998م بدعم من قبل جمعية الشبان المسيحية، وذلك بترميم مداخل البلدة القديمة الأربعة بالإضافة الى بناء اسوار استنادية حولها، لكن مع إندلاع انتفاضة الاقصى نهاية عام 2000م تم وقف نشاطات تلك المخيمات التطوعية.
وفي عام 2006م وكنتيجة حتمية على إصرار اهالي بلدة دير إستيا على النهوض بالبلدة القديمة، تمكنوا بالتنسيق مع وزارة الثقافة والآثار وبتمويل من الوكالة الأمريكية للتنمية، من اعادة ترميم البنية التحتية في البلدة القديمة برمتها وبكلفة نصف مليون دولار، عبر تبليط ارضية طرق البلدة القديمة وترميم بيوتها، وكذلك تم اضاءتها بالفوانيس الليلية المميزة، كما تم تمديد شبكة صرف صحي متكاملة للبلدة القديمة وبيوتها ..
وبالرغم من التطور العمراني والجغرافي المتسارع، إلا أن هناك عائلات كثيرة لا تزال تسكن البلدة القديمة في دير استيا، ما اعاد لها رونقها الجميل فأصبحت تبعث في النفس البهجة والسرور، وتحولت لنموذج حقيقي يحتذى به في كافة القرى والبلدات الفلسطينية التي تشهد استهدافاً يوميا من قبل الاحتلال لمقدراتها ولتاريخها العربي الأصيل.
تجدر الاشارة الى أن ترميم البلدة القديمة لم يعكس بظلاله على طابع المنطقة التاريخية والجمالية، فحسب، بل تعدى الأمر الى إضافة ملامح بيئية اليها، فبحسب ما افاد به السيد "وقّاص جعيدي" المفتش في قسم صحة البيئة في وازة الصحة لمجلة "آفاق البيئة والتنمية"، فقد تحولت البلدة القديمة في دير إستيا من مكان مهجور ومصدر لانتشار القوارض والحشرات التي تسبب الأمراض وتحديدا الجلدية، إلى رمز حضاري يحتذى به من حيث نظافة الممرات والطرق الداخلية والمراكز الموجودة بداخل البلدة.
ولا شك أن التجربة التي خاضها أبناء وشباب بلدة دير إستيا -بدءاً من المحافظة على ملامح بلدتهم القديمة، إلى تطويرها بيئيا وحضاريا- لا بد أن تعمم على الكثير من المناطق السياحية والأثرية المهملة والتي تنتشر في أرجاء الوطن بهدف الحفاظ على الهوية الفلسطينية وترسيخ مفهوم الانتماء عند ابنائنا، وهذا بدوره يتطلب التعاون الدائم ما بين الوزارات المختصة والمجالس الشبابية والبلدية في مجال حفظ التراث، والتصدي في ذات الوقت للمخططات الاسرائيلية.
|
|
أزقة البلدة القديمة في دير استيا |
أزقة وأروقة البلدة القديمة في دير استيا |
|
|
البلدة القديمة في دير استيا |
دير استيا العتيقة |
|