مجلة الكترونية شهرية تصدر عن مركز العمل التنموي / معا
حزيــــران 2012 العدد-45
 
Untitled Document  

متى ستنتهي حقبة الاقتصاد النفطي العربي؟

جورج كرزم
خاص بآفاق البيئة والتنمية

يتميز الاقتصاد القائم على الطاقة الأحفورية (النفط والفحم الحجري والغاز الطبيعي) باعتماده على مخزون محدود وغير متجدد من الطاقة، علما بأنه استنادا إلى الاستهلاك العالمي الحالي للطاقة، فإن الاحتياطي العالمي من النفط الذي تبلغ حصته من الطلب العالمي على الطاقة نحو 40%، سيجف خلال العقود القريبة القادمة.  بمعنى أن الثروة النفطية العربية ستتلاشى عاجلا أم آجلا.  وسيزيد هذا الوضع من الأزمات الاقتصادية العالمية، بسبب الارتفاعات الكبيرة المتوقعة في أسعار النفط، وعلى الأقل، في المرحلة الأولى قبل التحول نحو بدائل ثابتة للنفط العربي والخليجي.  بل، وللتخفيف من حدة الأزمات والتوترات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتوقعة في الدول الصناعية "المتقدمة"، قد تشن هذه الدول، تحت ذرائع واهية، حروبا لضمان نهبها لمصادر الطاقة غير المتجددة، والتي يقع الجزء الأكبر منها في دول الجنوب، والدول العربية الخليجية تحديدا.  وما شن الحرب الاستعمارية على العراق، وتفتيته كدولة كانت قائمة، سوى المثال الصارخ الأكثر سطوعا على ذلك.  وقد تعمل نفس الدول أيضا، بدعاوى حقوق الإنسان والديمقراطية وما شابه من كليشهات، على تجزئة وتفتيت دول أخرى غنية بمصادر الطاقة الأحفورية، على أساس عرقي أو طائفي أو قومي، كما حدث ويحدث في ليبيا والسودان حاليا.  لهذا، سبق أن أكدت "الإستراتيجية الجديدة" للحلف الأطلسي لعام 1999 على أن مهمتها الجديدة ستكون "تأمين الوصول إلى المصادر على الصعيد العالمي".
ويتميز الواقع الحالي لاحتياطي مصادر الطاقة التقليدية غير المتجددة، بوجوده في بقع معينة محدودة من العالم، إلا أن استهلاكه غير متمركز، وينتشر في كل بقاع الأرض.  ومع ذلك فإن استغلال هذه المصادر يتميز بالتمركز الشديد بأيدي بضع شركات احتكارية غربية، تعمل باستمرار على زيادة التمركز والاحتكار تحت ستار ما يسمى بالعولمة.
إذن، تقف الدول الصناعية الغربية ومن خلفها شركات النفط الضخمة، مثل شيفرون واكسون وموبايل الأميركية، وبريتش بتروليوم البريطانية، وشل الهولندية، وغيرها من عمالقة النفط، متأهبة للحرب من أجل الهيمنة المطلقة على منابع النفط العربية والإيرانية في الخليج العربي والتفرد بها.  ومن غير المستبعد أن تصبح المنطقة العربية والإسلامية، مجددا، ساحات حروب طاحنة.
وحاليا، تجثم الولايات المتحدة فوق منابع النفط في الخليج العربي، وتحاصرها بالقواعد العسكرية، وتهيمن شركاتها على حصة الأسد من الغنائم النفطية.
وغالبا ما تكون الشعارات الأميركية في "مكافحة الإرهاب" ونشر "الديمقراطية" و"حقوق الإنسان" مجرد غطاء لتثبيت وتوسيع السيطرة على الموارد النفطية العربية والإسلامية.  ومن الأمثلة البارزة على ذلك، ما رشح من الوثائق الأميركية التي تسربت، في حينه، وكشفت دور شركات النفط في رسم السيناريو الأفغاني منذ مطلع التسعينيات، أي قبل أحداث سبتمبر 2001، إذ خططت هذه الشركات لاحتلال أفغانستان وتمديد أنابيب النفط والغاز عبر أراضيها، ابتداء من آسيا الوسطى (كازاخستان وتركمنستان وأوزبكستان)، وصولا إلى باكستان والبحر.  إذن، من المحتمل جدا أن يتجدد مسلسل حروب الطاقة، بل، وخلال العقدين القادمين، من المرجح أن ينتقل هذا المسلسل من منطقة الخليج إلى الدول النفطية الصغيرة في أسيا الوسطى، ذلك أن استخراج الطاقة والاستهلاك الغربي لها، يتسارعان بقوة إلى الأعلى، ليس فقط في أوروبا وأميركا، بل أيضا في بعض الدول النامية كالصين والهند.  وتعد قفزة الأسعار الكبيرة التي حدثت في سوق النفط، خلال العامين 2007-2008 نذير شؤم، لأنها نتجت عن نضوب النفط في بعض الحقول الكبيرة في فنزويلا، فضلا عن النضوب المتوقع، حتى العام 2015، في آبار سيبيريا في روسيا، والتي يصدر جزء كبير من نفطها إلى الأسواق الغربية الصناعية.  يضاف إلى ذلك، أن الإدارة الأميركية  لا تستبعد احتمال فقدانها الهيمنة على موارد النفط العربية، وذلك بسبب الانفجار السياسي-الاجتماعي الذي أخذ ينبثق في أنحاء مختلفة من الوطن العربي، منذ أوائل عام 2011.
من هنا يمكننا أن ندرك سبب إصرار الإدارة الأميركية على التعامل مع أي تحرك ينادي به العلم لمواجهة التغير المناخي، من منظور مصالحها المالية والتجارية.  فالولايات المتحدة، كما أوضح الرئيس جورج بوش الابن في خطابه السنوي التقليدي عن حالة الاتحاد في كانون الثاني 2006:  "تواجه تبعية في النفط الذي يأتي غالبا من مناطق غير مستقرة في العالم...والطريقة الوحيدة لإنهاء تبعيتنا هي التكنولوجيا...التقدم الخارق في التقنيات سيساعدنا على تحقيق هدف الحصول على بديل لأكثر من 75% من وارداتنا النفطية من الشرق الأوسط بحلول عام 2025...".  بمعنى أن الدوافع الأميركية الأساسية للتفتيش عن بدائل للطاقة النفطية، ليست بيئية تهدف إلى الحد من الانبعاثات الكربونية، بل تجارية واقتصادية وسياسية بالدرجة الأولى، نابعة من التخوف الأميركي من أي تغيرات أو انقلابات سياسية جذرية تطيح بالأنظمة الخليجية النفطية الحالية الحليفة للولايات المتحدة.  لذا، بما أن الحسابات الأميركية هي تجارية – سياسية في المقام الأول، فإن الإدارة الأميركية ترفض بقوة الالتزام بنسب كمية لتخفيض الانبعاثات الكربونية.
ويزعم العديد من أخصائيي الموارد الطبيعية بأن النهاية الجيولوجية للنفط قد اقتربت، وبخاصة أن الحديث يدور عن مورد متآكل وغير متجدد.  وبالرغم من الخلاف المحيط بنظرية هوبرت حول ذروة إنتاجية النفط والتي بموجبها تجاوز العالم، منذ زمن، نقطة الذروة ؛ إلا أن بحثا للوكالة الدولية للطاقة (IEA ) نفذ عام 2005، أكد أن إنتاجية النفط آخذة في الهبوط بـ 33 من أصل  أكبر48 مُصَدِّر للنفط.  ولو أخذنا بالحسبان التقديرات المبالغ بها لاحتياطات النفط في الدول العربية؛ فعندئذ قد تكون النهاية أقرب من المتوقع.

ماذا بعد انتهاء حقبة الاقتصاد النفطي؟
التغيرات النوعية الهامة التي حدثت عبر التاريخ هي نتيجة صراع القوى الاقتصادية؛ إذ أن الصراعات الاجتماعية والطبقية والأيديولوجية والجيوسياسية تعد اشتقاقات وتجليات للمصالح الاقتصادية البحتة.  وعند الحديث عن القوى الاقتصادية والتبعية والجغرافيا السياسية،  فإن الأمر يشمل الموارد الطبيعية والسلع ونوعيتها ومدى توافرها وسهولة الحصول عليها.
ومن منظور الاقتصاد الرأسمالي التقليدي، توجد علاقة واضحة بين الموارد الطبيعية بعامة والنفط بخاصة، من جهة، وبين النمو الاقتصادي العالمي والجغرافيا السياسية، من جهة أخرى؛ إذ أن النفط يتحكم بالعالم، ويمسك بالموجودات المالية والموجودات البيئية كرهائن.  وكمثال على ذلك، فلنلاحظ التأثير الضخم لمنظمة "الأوبك" (منظمة الدول المصدرة للنفط)؛ ولنتذكر ارتفاع الأسعار عام 1973، والحظر المفروض عام 1979-1980، أو ارتفاع الأسعار في الفترة 2003-2008.  ولنتذكر أيضا التضخم عام 2005 الذي كانت أسعار الطاقة في مركزه ، بالإضافة إلى هشاشة وتذبذب الأسعار إثر سقوط نظام القذافي عام 2011، فضلا عن النفقات العسكرية الضخمة حاليا لإبقاء مضائق هرمز الموصلة إلى إيران مفتوحة.
وكي تحدث هزات اقتصادية-اجتماعية جيوسياسية عنيفة ونوعية في منطقتنا العربية والإسلامية، ليس بالضرورة أن تجف آبار النفط، بل يكفي أن تتغير بنية التبعية الاقتصادية، وذلك من خلال ابتكار وتطوير بدائل للنفط أو من خلال اكتشافات جديدة للطاقة؛ وعندئذ ستختفي القوى القديمة في منطقتنا والمكونة أساسا من ملوك وأمراء النفط.  وعلى سبيل المثال، التكنولوجيا الحديثة قادرة على  تطوير الاكتشافات الخاصة بثروة الغاز وحجارة القطران التي تصنع منها زيوت الطاقة.  وفي هذا السياق، تتوقع دائرة الأبحاث في "سيتي بنك" "ثورة في مجال الطاقة في الولايات المتحدة"، وذلك بفضل التحسن الحاصل في قدرة الاستفادة من الموارد الطبيعية، واستخراج الغاز والنفط من حجارة القطران.  ويتوقع أن يتضاعف حجم إنتاج النفط والغاز خلال العقد الحالي؛ إذ تقول بعض التقديرات بأن الولايات المتحدة ستصبح عام 2020 أكبر منتج عالمي للنفط.  وعندئذ، وفقا لـِ "سيتي بنك"، ستهبط أسعار النفط بقوة وستقل التبعية في مجال الطاقة بالمنطقة العربية والنفطية الخليجية.  وفي كل الأحوال، سيتلاشى النفط العربي، سواء بعد عشرين أو ثلاثين أو أربعين عاما. 
إذن، الزعم بانتهاء حقبة الاقتصاد النفطي العربي، إن عاجلا أم آجلا، يرتكز على معطيات ووقائع علمية وتكنولوجية واقتصادية وجيهة.  لكن السؤال الأهم هو:  ماذا بعد انتهاء تلك الحقبة؟  وماذا سيحل بأساطين النفط العرب ووكلائهم والمنتفعين منهم، وقطاعات هامة من الشرائح الشعبية التي تمكنت تلك الأساطين من رشوتها وتدجينها وإخمادها بالبترودولار؟
في الواقع، سيشكل انهيار حقبة النفط العربية ضربة مأساوية، إن لم تكن كارثية، على رؤوس النخب العربية وعلى ما يسمى "النظام الاقتصادي الشرق أوسطي"، وربما أيضا العالمي.  إذ أن انهيار الأساس الاقتصادي يوازي ضرب النظام الاجتماعي والعلاقات الاقتصادية-الاجتماعية القائمة، أو بمعنى أدق ضرب علاقات القوى الاقتصادية وعلاقات الانتاج القائمة، وبالتالي تغيير التوزيع الطبقي-الاجتماعي.
ولإدراك حجم الضربة الاقتصادية القاضية المتوقعة، في المدى المتوسط أو البعيد، على رؤوس أعضاء "الأوبك"، يجب علينا أن نراجع مدى تبعية دول "الأوبك" للذهب الأسود؛ ابتداء من السعودية التي يشكل النفط ومشتقاته 90% من صادراتها.  وما يسميه النظام الذي نصبه الاحتلال الأميركي في العراق بـِ"إعادة البناء" و"ترميم الدمار" الهائل الذي أحدثه العدوان الأميركي- الأطلسي، يرتبط بشكل أساسي ووحيد بتطوير قطاع الطاقة النفطية التي تشكل 95% من الصادرات العراقية.  كما أن منتجات النفط تشكل 90% من الصادرات الإيرانية.  إذن، ارتباط الطغم الخليجية الحاكمة بالنفط، مصيري ووجودي.
أما حال الاقتصادات الخليجية الأصغر فلا يقل سوءا.  إذ، وبحسب أرقام عام 2009، فإن أكثر من 85% من اقتصاد اتحاد الإمارات بعامة، وأبو ظبي الإمارة الأكثر غنى بخاصة، قائم أساسا على تصدير النفط والغاز الطبيعي.  أما قطر، فيشكل النفط  نحو 85% من صادراته، و70% من أرباح الدولة، و50% من إجمالي الناتج القومي؛ وتعد حصة الفرد القطري من إجمالي الناتج القومي من أعلى الحصص في العالم، بل الأعلى في الوطن العربي، وهي تحديدا نحو 80 ألف دولار أميركي سنويا بالمتوسط.  وفي قطر، كما في البحرين الغنية أيضا بحقول النفط، لا وجود لرسوم ضريبة الدخل.  إذن، في غياب النفط ستتحول هذه  المحميات الصحراوية إلى أوهام كاذبة.
وحيث أن كل شيء في النظام الجغرافي-السياسي الخليجي يبدأ وينتهي بـِ"أمن الطاقة"؛ فلدى الاستغناء عن النفط وحلول بدائل أخرى مكانه، وهبوط الأسعار، سينتهي شهر العسل الطويل الذي تمتع به الزواج بين "النمو" الاقتصادي والنفط، وسيكون الطلاق البشع مصيره المحتوم؛ وعندئذ ستنهار المنطقة الصحراوية إلى المهاوي السحيقة والفوضى.

التعليقات

 

الأسم
البريد الألكتروني
التعليق
 
 

 

 
 
الصفحة الرئيسية | ارشيف المجلة | افاق البيئة والتنمية