لا تنخدعوا بالعروض والتنزيلات المغرية
ج. ك.
خاص بآفاق البيئة والتنمية
غالبا ما نتجول في الأسواق وفي أيدينا أكياس مليئة بالسلع المغرية من مسليات وحلويات مشهية وكماليات ومواد تجميل وتنظيف كيماوية لا يستفيد منها سوى الشركات التي صنعتها، والوكلاء والتجار المسوقين لها؛ إذ كلما واظبنا على شراء سلعهم كلما ازدادت أرباحهم، وازدادت بالمقابل احتمالات إصابتنا بأمراض آنية أو مزمنة، قد نقع إثرها تحت رحمة الأطباء والمشافي. فالعدد اللا نهائي من المناورات الدعائية التجارية، كثيرا ما تحول دون ممارستنا خياراً استهلاكيا حكيما؛ بحيث نختار السلعة التي تم الالتزام بمبادئ العدالة الاجتماعية والبيئية أثناء عملية إنتاجها، كما تم تفادي الإضرار الذي لا لزوم له بموارد وقيم الطبيعة.
حملات العروض والتنزيلات الكثيرة تخدعنا وتغرينا؛ وقد يقول أحد هذه العروض بأنه في حال اشترينا خمسة منتجات تنظيف معينة فنحصل على المنتج السادس مجانا. وهكذا ننظف وننظف منازلنا لنقع مرات متكررة في شراك المناورات الدعائية القديمة الجديدة. محلات ومراكز تجارية كبيرة وصغيرة تعمل لفترات طويلة على تعبئة وتنويع مخازنها، وتخطط وتنشر الإعلانات والحملات التجارية. وفي لحظة الحقيقة، تعرض علينا "فتريناتها" الجميلة المغرية، وتنتظرنا لاقتحامها. أي أن لتلك المراكز والمحلات تبعية كاملة لنا. ويبدو أحيانا، بأن مطرا غزيرا ومتواصلا من النقود يهطل عليها. وكالعادة، شبكات التسويق الكبيرة هي صاحبة الحظ الأوفر في امتصاص معظم كمية المطر. فهي التي تستطيع أن تعرض علينا أفضل الحملات وعروض التنزيلات، وأن تعبئ ثلاجاتنا بما لذ وطاب من الأشياء التي لم نفكر قبل ذلك بأننا نحتاجها أصلا. وهي التي تساعدنا أيضا في إيجاد هدية لكل فرد من أفراد أسرتنا؛ وتمنحنا هدية إضافية على كل عملية شراء، ربما نهديها لجارتنا العزيزة.
إزاء هذا السلوك الاستهلاكي المنفلت وغير المدروس، يجب ألا ننسى بأن لأموالنا قوة وتأثير كبيرين وحاسمين على التجار. فلنتخيل أن الورقة النقدية التي نخرجها من جيبنا عبارة عن ورقة اقتراع. ففي كل مرة نخرج الورقة وندفع، نعمل على انتخاب الشخص أو الجسم الذي ندفع له. ولا يعني الاقتراع هنا مجرد التجاوب مع العرض الأكثر جدوى اقتصاديا بالنسبة لنا. فالأمر لا يتعلق بالمال فقط، بل بوظائف الناس ومستقبلها وحياتها، بالعلاقة مع العمال، البيئة، الجودة، الخدمة والقيمة المضافة.
وهنا يجب أن ننتبه بأن المبدأ الأساسي للاقتصاد الرأسمالي التقليدي والقائل بأن نمو الاستهلاك ضروري للحفاظ على اقتصاد سليم، قد فشل فشلا ذريعا في الحفاظ على الحد الأدنى من التوازنات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية؛ وبخاصة أن تطبيق هذا المبدأ تسبب ولا يزال في استنزاف وتآكل الموارد، فضلا عن الارتفاع المتواصل في أسعارها. كما أن الزعم الاقتصادي القائل بأنه بدلا من استهلاك الموارد وإنتاج السلع المادية، يجب التشديد على الاقتصاد المالي وبالتالي تعزيز النشاط الاقتصادي- هذا الزعم لم يثبت صحته في الأزمة الاقتصادية "العالمية" الأخيرة؛ حيث تضخمت الديون بسرعة أكبر من الإنتاج الفعلي.
وفي مقابل الثقافة الاستهلاكية المنفلتة من عقالها، تقف ثقافة الاستهلاك الحكيم والمستدام. ومن تجليات الثقافة الأخيرة: تقليص استعمال الطاقة الأحفورية، وقف أو تقليل كميات الطعام التي يقذف بها إلى المزابل، عدم استعمال الأدوات المعدة للاستخدام مرة واحدة، إصلاح أو إعادة استعمال الأشياء بدلا من شراء سلع جديدة، تفضيل السلع المعاد تدويرها والسلع التي تتضمن كفاءة الطاقة وبصمة كربونية متدنية، والاقتصاد في استهلاك المياه. فضلا عن توجيه فائض الدخل نحو استهلاك الخدمات والنشاطات الترفيهية غير المادية، والاتصالات والتربية والتعليم، بدلا من استهلاك السلع المادية. وهكذا، بالإضافة إلى البعد البيئي، فإننا نقتصد أيضا في أموالنا ونزيد من قدرتنا على مواجهة غلاء المعيشة، ونعزز من نهجنا الاقتصادي والسياسي المقاوم.
وضمن القائمة الطويلة للتغيرات المطلوبة في العادات الاستهلاكية، يبرز مجالان أساسيان: أولا، الإكثار من استهلاك الخدمات بدلا من السلع المادية. وثانيا، الاستهلاك الجماعي للسلع. وليس المقصود هنا استهلاك السلع التي تم إنتاجها بفعالية تقنية عالية أو بواسطة التكنولوجيات المتقدمة، بل تلك السلع التي هي ثمرة حلول الإدارة الخلاقة ونماذج الأعمال والتجارة الجديدة.
ومن بين الأمثلة التقليدية لبيع الخدمات بدلا من السلع نذكر على سبيل المثال: خدمة تأجير ماكنات التصوير، أو تأجير السجاد بدلا من بيعه. وفي سياق هذا النمط الاستهلاكي، يَعْمَد المُنْتِج، لدى انتهاء عمر السلع أو صلاحيتها، إلى جمعها وإعادة تدويرها. الربح الناتج عن هذا النمط التسويقي مزدوج: تولد حافز لدى المُنْتِج للحفاظ على الزبون؛ أما المستهلك فيستأجر سلعة أكثر متانة واستدامة وقابلة للإصلاح والتدوير.
ومن أبرز الأمثلة العريقة على الاستخدام الجماعي للسلع: السفر الجماعي للموظفين أو العمال أو الطلاب من وإلى أعمالهم أو مدارسهم. كما أن استعمال المواصلات العمومية يسهم في التقليل من التلوث الناتج عن مركباتنا الخاصة ويقلل من استهلاك الوقود الأحفوري الذي تتحكم به شركات الاحتلال.
|