مبادرات بيئية
محمد عبيدية: زراعات خضراء وعداء للمبيدات والأسمدة الكيماوية
عبد الباسط خلف:
خرج محمد عيسى عبيدية إلى الحياة في الثاني عشر من نيسان1951، في قرية زبوبا شمال جنين. وشرع منذ طفولته الأولى بمراقبة ما كان يقوم به والده من زراعة آمنة لمحاصيل القمح والشعير والسمسم والشمام والبطيخ والذرة في أراضي مرج ابن عامر.
بالتدريج، انتقلت زمام المبادرة إلى عبيدية من والده، وحرص على تقاليد الزراعات البلدية، وطوّر نهجه بإعادة غرس أشجار المشمش التي ورثها عن أبيه، بعد أن تآمرت عليها الأيام وانتزعت منها الحياة.
يروي: الأسئلة التي تواجهني في كل بداية موسم، أين ذهبت البذور البلدية؟ ومن هو الذي أخفاها؟ ولماذا لم تعد ثمار البطيخ والشمام تنمو في المرج، بعد أن كانت تصل في أحجامها إلى سبعة عشر كيلو غراماً؟ ولماذا صارت الكيماويات تنتشر بهذا الشكل الواسع؟
أيام وزمان
يُعيد أبو العبد عجلة التاريخ إلى الوراء، ليتحدث عن الطريقة التي كانت شائعة في زراعة المحاصيل الصيفية البعلية في الخمسينيات والستينيات، فيقول: كنا نحرث الأرض على الخيول، ونزبلها بالزبل العربي بعد تخميره، ثم نزرعها بالبذور البلدية، وخصوصاً البطيخ الجدوعي، الذي اختفى هذه الأيام. ثم نواصل أعمالنا، فنحرث المقاثي (المزارع) على الخيول، ونحصل على ثمار كبيرة الحجم، دون أي سماد كيماوي أو مبيدات سامة.
يُحلّل أبو العبد، أسباب التغير الذي حصل على الزراعات البعلية القديمة، فيقول: اختفت البذور البلدية، وصرنا لا نسمع إلا عن البذور المهجنة، التي لا تنتج بذوراً للزراعة، مثلما كنا نجمعها بأيدينا من الثمار البلدية، ولا نحتاج لشرائها من السوق.
يوالي: انتشرت في أيامنا أمراض التربة، مثل "الفيوزاريوم"، الذي سببته كثره استخدام المبيدات، كما أن وسائل المواصلات السريعة صارت تنقل الآفات والأمراض بطرق مختلفة مع الذين يتقلون بين البلدان.
يضيف: تراجع الأمطار وارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير أديا أيضاً إلى تراجع الإنتاج البعلي. فمثلاُ كنا أيام زمان نقعد في البيت طوال المربعانية من كثرة الأمطار، أما اليوم فإن أجواء كانون الأول والثاني لم تعد كما كانت، فهي مرتفعة الحرارة ومشمسة وجافة وقليلة البرد والمطر، وهذه أسباب انتشار الآفات الزراعية الكثيرة والديدان والحشرات والأمراض التي لم نكن نسمع عنها.
بذور غائبة
يورد أمثلة على غياب البذور البلدية، فيقول: كنا نزرع أصناف القمح مثل النورسي والهيتي والقصري، وكان يختفي الخيال في القمح بسبب طوله المرتفع. أما اليوم فالأصناف كلها مهجنة وجديدة، ولم نعد نشاهد القمح الطويل والبلدي، وأصبحنا نشتري البذار من الشركات. وصرنا نسمع عن أصناف جديدة مثل البرسيم والبيكيا، وأصبح الفلاح يشتري مونة (مؤنة) بيته من القمح، بدلاً من إنتاجها.
وفق أبو العبد، فإن هجرة الناس لأرضهم، وتوجههم للعمل داخل الأراضي المحتلة العام 1948، فاقم المشكلة. فأهمل الناس الأرض، وتخلوا عن الأصناف البلدية التي كانوا يحرصون على الاحتفاظ بها، بل ويفتخرون بأنهم يمتلكونها، ويقرضونها بعضهم لبعض.
من المشاهد التي تستقر في ذاكرة العبيدية، كيف أن محصوله من المشمش لم يعد يوفق، وصارت الديدان تفسده قبل نضوجه بوقت قصير.
يقول: ورثت عن والدي زراعة أشجار المشمش، وقبل عدة سنوات جدد زراعة حقله بعد موت الكثير من الأشجار.
كانت المفاجأة أن الحقل الجديد صارت ثماره تفرز مادة صمغية، تسببها الديدان التي لم يكن يعرفها في تاريخه.
تجربة
يروي: بدأت بنصب مصائد للديدان، وخصوصاً ذبابة الفاكهة. وبالفعل نجحت تجربتي، ولم استخدم المبيدات.
من أوراق أبو العيد، يمكن قراءة أسباب العداء الكبير للكيماويات، فقبل خمس سنوات توفي شقيقه أحمد بفعل إصابته بسرطان الدم. يومها سافر أحمد إلى العاصمة الأردنية للعلاج. وراح الأطباء يسألونه عن مهنته، فأخبرهم بأنه معلم مدرسة، فلم يصدقوا، وكرروا السؤال. ليتحدث لهم عن استخدامه للكيماويات في حقله، بعد عودته من المدرسة. عندها، ربط الأطباء بين المبيدات السامة والمرض الخبيث.
يقول: لا استخدم الكيماويات في زراعتي، والمحصول الوحيد الذي أجبر على رشه هو اللوز، وأتمنى أن أجد جهة تساهم في حملة لجمع محاصيل اللوز النصابة بدبور اللوز، وإتلافها.
يضيف: املك 13 دونماً مزروعة بالزيتون، و3 دونمات مشمش، وثمان مغروسة باللوز، وخمس دونمات أخصصها للزراعات الصيفية.
بحث
بحث أبو العبد عن بذور بطيخ بلدية في غير مكان، إلى أن وجد كمية صغيرة من صنف "الجدوعي"في قرية صانور جنوب جنين. بومها زرعها بالتعاون مع جمعية الإغاثة الزراعية؛ لغرض إنتاج الأصناف البلدية وإكثارها.
يقول: أنتجنا نحو خمسة كيلو غرامات من البذور البلدية، ووصل حجم ثمار البطيخ بين 5 إلى 10 كيلو، ولم نستخدم أي سماد أو مبيد كيماوي. فكل الذي استخدمناه الزبل العربي الذي أصنعه بيدي. وحاولت إعادة تجارب أيام زمان، ونجحنا. ولم يصدق الناس تجربتنا. فبعد أن نشر أحد المهندسين الزراعيين الخبر، زارنا بعض المهتمين واستغربوا من ثمار البطيخ الجدوعي البعلي، بلا كيماويات ومبيدات وأسمدة.
من الملاحظات التي جمعها العبيدية، أمراض التربة التي قضت على جزء من المحصول، في مراحل متقدمة، سبقت فترة النضج بأيام قليلة.
يحتفظ أبو العبد بعينة صغيرة من بذور البطيخ الأصلية، ويحرص كل عام على زراعتها في محيط منزله، حفاظاً عليها من الانقراض.
يروي: سافرت إلى ايطاليا وجنوب فرنسا، وفتشت عن نماذج الزراعات العضوية، التي تنتشر بشكل محدود. ولها الكثير من الأنصار، وتوزع منتجاتها في محال تجارية خاصة، ولها زبائنها. يفيد: رغم أن ثمارها صغيرة الحجم، وأسعارها مرتفعة قياساً بالأصناف المزروعة بالكيماويات، إلا أنها آمنة ولها طعم.
نقل عبيدية تجاربه وممارساته الخضراء لولديه: عبد الرحمن وياسر، وأسس تجمعا لمزارعي الأشجار المثمرة غرب جنين. مثلما وقف في الماضي على رأس تجمع منتجي اللوز في سيلة الحارثية وعانين وجنين. ينهي: الزراعة دون سموم أفضل ألف مرة.
|